دانتي ورحلة الكتابة

فليب سولِّيرز/ ترجمة: محمد العرابـي *

الماء الذي أدخل غماره لم يسبق لأحد الماء الذي أدخل غماره لم يسبق لأحد أن جرى فوقه.(*) الجنة، النشيد II، البيت 7    الكتابقليلة هي المؤلفات الموجودة في حالة تباعد متزايد عنا مثل حال “الكوميديا الإلهية”:  فهي وإن كانت تاريخيا أحدث عهدا من “الإنيادة”، من حيث تستمد أصلها، فإنها مع ذلك تبدو لنا أقدم منها بكثير؛ فرغم ما استدعته من تعليقات ومن حشو مصحوب بتبحر مهووس، فهي لم تفقد في نظرنا سرَّها الدفين. ولكن مما لا شك فيه، فإن السبب يعود إلى لغز مبهم متخفٍّ في أعمق أعماق ثقافتنا مثل لطخة عمياء، حيث أن قربه منا يؤدي بنا إلى التسرع والثرثرة.المسألة التي تطرحها “الكوميديا” هي من السِّعة بحيث أن قابليتها للرؤية، التي تبقى إشكالية هي، ربما، كل ما يعلن عن نفسه لنا. إن النزعة الإنسانية لم تتأخر كثيرا لتجمدها وتختزلها في مرجعية ثقافية، ويبدو أن الفنان التشكيلي بوتيشيللي وحده حررها من هذا الخدر. النزعة الكلاسيكية، رغم ميلتون، لم تكن لديها أدنى فكرة حول ما يجري في هذه القصيدة الملحمية التي بدت لها همجية. في القرن الثامن عشر- إذا استثنينا فيكو Vico الذي ألف، على هامش عصره كتاب:  “العلم الجديد”، الذي يعد من عنوانه تكريما لدانتي الذي يسميه بـ”هوميروس التوسكاني”- فإن نصا كهذا لا يشكل سوى بشاعة غير قابلة للقراءة، لَاإنسانية (عدم القابلية للقراءة تعني دائما اللاإنسانية)، نوع من “الخليط المشوش”، تدقق أكثر دائرة المعارف (الإنسيكلوبيديا). في هذه اللحظة يمكننا القول دون أن نسقط في التناقض بأن دانتي غير مرئي هو أيضا أكثر من “الماركيز دو ساد” الذي يعد مشروعه ربما الوحيد الموجود في مستواه. لقد أضحى القرن التاسع عشر قرنا تسوده الحيرة ولكن أيضا العمى:  فبفضل شيلينغ أصبح دانتي جزءا من الأسطورة الرومانسية، التي احتفظت له في فرنسا على الخصوص، بصورة تزيينية ترصيعية حيث صار كل من دانتي والجحيم مفردتين مترادفتين تدخلان في صنف الرؤياوي والمرعب. مع ذلك، فالفضل يعود إلى القطيعة التي عرفت عن النصف الثاني من القرن 19 والتي ستجعل حضور “الكوميديا” يتخذ طابعا شكليا (“هوميريا”)، وهو الأمر الذي سيجري على أساسه تحويل وقلب حاسمين مرتبطين بظهور الدال في ذاته، وباللغة كسؤال جذري أكثر فأكثر.    إنه حضور يفصح عن نفسه بشكل متناقض:  جيمس جويس وعزرا باوند شددا فيه على ما يمكن تسميته بالمشروع الكون – مجهري microcosmique ذي الصبغة اللسانية الشمولية. كلوديل فضلا عن أنه وجد فيه المجال ليصوغ على طريقته نماذجه حول الشعر الذي “لا يغوص في اللانهائي لكي يعثر على الجديد ولكنه يغوص في عمق المنتهي لكي يعثر فيه على غير المستنفذ”، يريد كالعادة أن يطمئن الطائفة الكاثوليكية التي لم تعرف ماذا تفعل بكاتب في غاية الإرباك (ومسرف في الكونية). وإذا أردنا القول، فدانتي قابل لكل ما نريده منه:  الجامعة، النزعة الأكاديمية، النزعة الحداثية؛ كل واحدة  منها تتبناه بدون كبير مخاطر. وإذن فالمشكلة، بكل تأكيد، لا تكمن هنا (وهي بالقطع لم تكن كذلك بالنسبة لهولدرلين، للوتريامون، أو لمالارميه، وكما نعرف فإن الفكر تخلى منذ زمن بعيد عن هذه التصنيفات المصطنعة). وإذا كان من وجود “لسرِّ” يسمى دانتي، وإذا كان الانبثاق الأركيولوحي لنصه أن يلقننا شيئا ما لم يكف خفية عن تحديد تاريخنا، فقطعا ينبغي لنا ألا نبحث عنه في مظهر هذا النص ولا في محتواه، ولكن في العلاقة العميقة التي يقيمها دانتي مع الكتابة.   إن “الكوميديا الإلهية” ـ التي لم يكن لها هذا الاسم الحامل لهذه الهالة الكاشفة إلا ابتداء من القرن السادس عشر، والتي اعتبرها دانتي، بكل بساطة، “قصيدة مقدسة”،-  ستغدو إذن بالنسبة إلينا نصا في سبيله إلى الانكتاب، بل وأكثر من ذلك أيضا الكتاب الأول الكبير الذي تم التفكير فيه وبلورته بالكامل من طرف مؤلفه ككتاب. ولقد بدأنا ندرك بشكل أفضل الأهمية التاريخية الجوهرية للرمزية الخاصة بالكتابة وبالكتاب. ولكون الرمزية استعارة لامتناهية تستبدل نفسها بنفسها عبر الزمن، فإنها تمثل داخل كل أدب، بل وأكثر من ذلك، داخل كل منظومة فكرية، نوعا من الوضعية المثالية، المرآوية، نوعا من الحد المرجعي، الذي سنحظى فيه ليس فقط بالفضاء ولكن أيضا بمفتاح ومعنى كل تعبير. وهكذا تجد هذه الرمزية التكوينية، التي يمكن تتبع مصيرها المعدَّل باستمرار، المستنسخ، المشوَّه أو المنشَّط من جديد – هذا القاسم المشترك الخفي، المشتَّت والذي يتم إخفاؤه أحيانا أكثر من تركه يعلن عن نفسه ويعرضها في كامل الأضواء-  تجد مع دانتي في الغرب تجليها الأكثر اكتمالا، وتعين الكلية التي واجهها كمؤلف. “كمؤلف” ولكن أيضا كممثل وكقارئ، وهو ما يعطي لظهوره واقعية مفصلية، نموذجية، كما لو كان عند التقاء مجالين:  أحدهما أفقي (تاريخي) والآخر عمودي (فردي). وكرمز لاستعادة الأزمنة القديمة ولتباشير الأزمنة الحديثة، وكرمز لمغامرة فريدة لا لاحق ولا سابق لها ، يتموقع دانتي أيضا بشكل متوازن وسط الزمن، في الخط الزمني الذي نوجد عليه، بالضبط في مركز كل تجربة متميزة:  “nel mezzo cammindi di nostra vita”  وهذا على الأقل ما يريده له بوعي تام، جاعلا من نصه عالما شموليا يبرز نفسه بنفسه، وكوميديا للغة وللطريق التي يمكن أن تعبر من خلالها ذات تحاول أن تستنفذها من جميع أبعادها من خلال انكشاف فعال.   يتوجب علينا إذن أن نحاول التفكير في هذه الحركة المزدوجة:  من جهة، تركيب وبناء كتاب يأخذ موقعه مكان التنظيمات الخاصة بكل الكتب-أي بمجموع ما هو موجود (بحث، فكر، حلم، أفعال، عالم، أفراد، طبيعة، مادة، تاريخ، ثقافة، أساطير، نصوص، دين) بما يجعل من هذا الكتاب ينتسب لرمزية الكتابة- وبتعبير آخر:  تركيب وبناء كتاب يترجم في العلاقة معه كل الكتب (كل الظواهر) الدائرة والمحيطة به. ومن جهة أخرى، تأسيس – تكوين – الذات الخاصة بهذا الكتاب، بما في ذلك تلك التي ستشكل جماعه ومعناه. أو أيضا:  التي ستشكل مكونات لغة تُفهم على أنها  المساحة الوحيدة لكل اللغات التي تمكنَّا أخيرا من تخليصها وترجمتها، كما تشكل المكانة التي ينبغي أن يحتلها في هذه اللغة رمز حسابي أو زيادة في الدقة ناظم آلي ordinateur سيشكل داخلها في آن رمز الدخول والاستعمال الفعلي. مجلدٌ من هذا القبيل بالنتيجة وإن كان لا يطمح إلى أن يكون مثاليا بل مكتوبا (أي متخذا رمزية الكتاب كإوالية لوجوده الخاص:  كتابٌ الكل بالنسبة إليه كتاب لكنه الوحيد القادر على قوله، وبالنتيجة كتاب سيكون النقيض لكل كتاب مفرد) سيكون دقيقا في كليته من وجهة نظر القارئ. وتلك خاصية أساسية تجعل من دانتي، وبعيدا عن كل مشاكل التبحر، شخصا يتحدث إلينا اليوم وعن قرب.إن ملاحظة نداء الكوميديا الدائم لا يعني، فعليا، الشيء الكثير إذا لم يكن هذا النداء موجها نحو القارئ (والصيغة المعبرة أكثر عن هذا النداء هي بدون شك: “O tu che leggi udiron nouvo ludo” / ” أنت يا من يقرأ ستسمع لعبا جديدا”/ من الجحيم). ينبغي تأكيد القصيدة برمتها باعتبارها انعطافا نحو هذا المكان الفارغ الذي يقرؤها والذي توجِّه إليه القول من أجل أن يجعل نفسه تكون قابلة للقراءة هي الأخرى. مكان من هذا القبيل لن يكون خارج-هـُ مما هو داخل-هـُ، وليس هو قطعا وجهه الآخر، وعلى كل حال فهو لا يشبه مكانا ينبغي أن نتخيله بل هو بالأحرى يشبه طاقة سابقة لكل موقَعة ممكنة. ودانتي،كما سنرى، لم يجد من كلمات يحدد بها هذا المكان إلا تلك التي تعني طاقة حيوية مضاعفة:  الشغف، الفعل. إنه قراءة النص ولكن أيضا كتابته، بالمعنى الذي يجعل الأمر- من السطر الأول حتى الأخير، بحسب المنحى الزمني لسرد ينتهي عند خاتمة كل سرد وعند البداية المتجددة بلا نهاية لقصيدة أو للغة فريدة، مجهولة،- لا يعدو أن يكون شيئا آخر غير الولادة المتواصلة للناسخ داخل هذه اللغة الموجهة نحو شخص تتجدد ولادته باستمرار، بالتزامن مع ولادة المعنى الذي ينص على كل من الناسخ والقارئ في كل زمان وفي كل مكان. وتلك هي التجربة التي يتطلبها منا الكتاب – “التمدد الكلي للحرف”، كما سيقول مالارميه لاحقا.ولكي نضيء هذا العب، سيكون علينا ربما أن نعيِّن أسطورة مؤقتة للغة، كحركة متأرجحة بين قطبين موجودين بالقوة، لم يبلغها (أي الأسطورة) أحد من قبل، ونحن مجبرون على أن نضع لها كحدود متحولة باستمرار الواقعَ الفعليَّ والغموضَ:  قطب عدم قابلية القراءة، أي العتمة المتعذر عبورها؛ والقطب المناظر له، الخاص بالشفافية المطلقة. فلا شيء يكون غير قابل للقراءة بالمطلق، ولا شيء يكون مقروءا بشكل كامل. بين هذين القطبين اللذين يعتبران انعكاسا لقِمة واحدة، يمتد كل الفضاء المتعلق بالمعنى وتعيينه في كل منهما. والسؤال المطروح دوما حول الاعتباطي في اللغة، أو حول مطابقتها للأشياء (يستعيد دانتي الصيغة:  الأسماء نتيجة للأشياء (1)nomina sunt consequentia rerum) سيكون بالتالي مدمجا في الازدواج الخاص بمعطى واحد، مؤسسا للتباين بين الذات même le والآخر، كشكل فارغ وأولي للفكر. ومن المغري، وإن كان ذلك قد يؤدي إلى ضياعنا، أن نتصور التاريخ الكوني والفردي وهو يعمل في الخفاء بواسطة هذه القطبية بما يجعلنا غير قادرين على تجنب العبور من خلال صورة إضمارية تتخذ من هاتين الأسطورتين بؤرتين لها. مسار دائري كانت  لـفِيكو  Vico وحده الجرأة لصياغة قانون تكوينه وإيقاعه، حينما ميَّز بين ثلاثة أنماط من اللغة (اللغة الصامتة للآلهة ، اللغة الملحمية، اللغة العامية) ونوع من التكرار الذي يعيد بلا انتهاء توزيع هذه المستويات الثلاثة الدالة. ونعتبر أن الكوميديا تشكل الوصف المضاعف لهذه الحركة.حياة جديدة، فن جديد  Vita Nova, Ars Nova    نصان من المفروض هنا أن يقدما لنا مفاتيح الدخول:  “في الفصاحة العامية” De vulgari Eloquentia، و”الحياة الجديدة Vita Nova, “. ومما له دلالة أن يكون الأول مكتوبا باللاتينية ويعالج مشكل اللغة (الايطالية) التي كان الثاني قد كتب بها والذي سيغدو بشكل واضح عتبة “للكوميديا”. أهمية القطيعة التي أحدثها دانتي مع العصر الوسيط (عشرة قرون تتأرجح في تلفظ جديد، وبالنتيجة في عالم جديد) نجدها مدرجة في هذا التناقض:  فضلا عن خصوصية اللغة، التأكيد في نفس الوقت على كونيتها (” نحن الذين نعتبر العالم موطننا، مثلما هو البحر بالنسبة للأسماك”). فاللغة “العامية”، يكتب دانتي في مؤلفه “الضيف Convivio، “ستكون النور الجديد، الشمس الجديدة التي تشرق مكان القديمة الغاربة، وتمنح نورا لهؤلاء الذين يغرقون في الظلمة وفي العتمة الناتجة عن انطفاء الشمس الآفلة التي لم تعد تملك ما تضيئهم به”. ( ونحن نعرف بأن الشمس، بالنسبة لدانتي، هي نوع من الاستعارة المألوفة في علم الحساب، في الوحدة التي تشع منها الأرقام الأخرى، وأيضا، ما دامت “تصمت”في جحيم، الإله). هذه اللغة ينبغي البحث عنها في ثلاثة مستويات:  1 – هناك اللغة الحية في مقابل اللغة الميتة[لغة القواميس]، أي ما نسميها بلغة الأم، “تلك التي يتلقاها الأطفال الصغار من الذين يحيطون بهم عندما يشرعون في تركيب أصوات مختلفة… أي اللغة التي نتكلمها دون الخضوع لأية قواعد مقلدين مرضعتنا”، ومن خلالها،2 – هناك البعد المضاعف للغة الأصلية. وظيفة هذه الأسطورة الأخيرة تعتبر المحور الذي يقوم عليه تفكير دانتي:  فمن خلال الكلام، بالفعل، يحتل الإنسان مرتبة وسطى ما بين الحيوانات والملائكة. فالحيوانات تتوفر على نفس الأفعال ونفس العواطف داخل نفس النوع، لكنها لا تقيم نفس التواصل بين الأنواع المختلفة. أما الملائكة فيفترض فيهم أنهم يتواصلون مباشرة فيما بينهم، أو أيضا من خلال وسيلة المرآة التي تشع من الألوهية (الشياطين أنفسهم، اعتبارا لوضعيتهم المتقدمة، يكونون قادرين على إدراك بعضهم بعضا من خلال الحدس). يمكننا القول إجمالا بأن فريقا يوجد داخل دال تام، بينما يوجد الفريق الآخر داخل مدلول خالص. ووظيفة اللغة التي هي في آن “عقلية ومحسوسة” ، تجد إذن اعترافها هنا:  ” لأنها لو كانت عقلية فقط، فلن تتمكن من الانتقال من مكان إلى آخر، ولو كانت محسوسة فقط، فلن يكون بإمكانها أن تتلقى أي عقل ولا أن تقدم أي شيء يتصف بالمنطق. وإذن هذه العلامة الحقيقية هي بالضبط الموضوع sujet النبيل الذي أقصده، ذلك أنه شيء محسوس على اعتبار أنه صوت، ولكنه شيء عقلي أيضا بمقدار ما نراه يدل على شيء وآخر، وذلك بحسب إرادتنا”. ما هي الطبيعة الأصلية لهذه العلامة؟ من نفَس الإله، وإجابة عن هذا النفَس، صدرَ عن آدم كلام فوري:  إن الإله بإمكانه أن يجعل الهواء يتكلم، بيد أن الكلام ينتمي إجمالا إلى الإنسان الأول الذي يوجه الكلام إلى الله ويتكلم لكي يمجد الهبة التي أعطيت له (هنا إذن درجة صفر من الدلالة، كلام من أجل الكلام):  “إذ تصدر عنا، هذه الغبطة التي نحس من خلالها بأن انفعالاتنا الطبيعية تحتاج منا أن نترجمها إلى أفعال منظمة، فإن قناعتنا تزداد بأنها توجد فينا بعناية إلهية”. إن الجنة ليست شيئا غير هذا المكان من الكلام الأول، وكلمة “الأول” هنا، هي بلا شك، لا تشير إلى البعد الزمني وحده. ”  3 – كمقابل لهذه اللغة الأسطورية تنهض التعددية الحالية للغات، أي استحالة التواصل:  “ما دامت شؤون البشر تناقش عبر مئات ومئات اللهجات المختلفة، وما دام مئات من الناس من خلال مئات من الكلمات، لم يتوصلوا إلى تفاهم أفضل إلا بالكلام، فمن الأفضل أن نذهب للبحث عن هذه اللغة الأصل التي استخدمها، كما نعتقد، الإنسان الذي لم تلده أم، الإنسان الذي لم يرضع أي حليب، والذي لم يعرف زمنا طفوليا، ولا هو ترعرع وكبر”. ويشدد دانتي على واقعية أن شكلا معينا من اللغة خلقه الله بالتزامن مع الروح الأولى، و”شكل” تعني لديه فضلا عن الألفاظ، عملية تجميع هذه الألفاظ وطريقة نطق هذا الجمع من الكلمات:  إنه هذا الشكل الآدمي (نسبة إلى آدم) “الذي كانت تستخدمه لغة كل الكائنات المتكلمة لولا أنها لم تتعرض للإبادة ويتم إلقاؤها إلى الرياح من خلال خطيئة الغرور الإنسانية”، والتي تم الحفاظ عليها في اللغة العبرية “المنحوتة من خلال شفاه المتكلم الأول”، بعد بابل واختلاط اللغات. وبابل بالنسبة لدانتي هي ليست فقط صورة عن وضعيتنا ولكنها أيضا الأسطورة المركزية للإنجيل الذي يعتبر بمثابة نقطتها الأكثر التباسا – وسنرى بالفعل بأن دانتي سيكتب انطلاقا من هذا المنظور الأسطوري (جويس ستستحوذ عليه نفس الفكرة وسيوكل إلى الحلم أمر استكمال صهر الدوال).   الرمز الجسدي لبابل يتمثل في نمرود الجبار، والذي يتبوأ مرتبة محددة في الجحيم. لكن من تكون إذن هذه اللغة الحية (وليست الميتة شأن اللاتينية) التي سيكون دانتي قادرا على أن يتكلمها (بحيث تمكنه من تحقيق ذاته)؟ وكيف له، بالرغم من فردانيته المتغيرة، أن يلج إلى المحرك الأصلي لكل لغة؟ من بين الثلاث لغات التي سيكون عليه أن يحلها في ذاته (لغة oc، لغة oïl، لغة si)(2)، اللغات المعرَّفة انطلاقا من طريقة نطقها لـ:  oui  (نعم)- وهو ما يذكرنا بالوظيفة الكبرى لتأكيدية اللغة- عليه بالنتيجة أن يتعرف في إحداها على العنصر الشكلي الأساس باعتبار أن “تناغم الألفاظ يكون بالضبط في صراع مع البلبلة التي شُيِّدت من أعلى السماوات في الوقت الذي كانت تبنى فيه مدينة بابل”. وهكذا، كما يقول، فإن كلمة حب هي كلمة مشتركة بين اللغات الثلاث(إن اختيار هذه الكلمة كدال نموذجي يتحكم فيه، بحسب دانتي، كون هذه الكلمة ستكون الأكثر امتلاء “بالمعنى”). والمشكلة ستكون إذن على النحو التالي:  في الأفق، الأسطورة الأولى للغة الثابتة، المتعذر بلوغها، التي تقف قبالتها كل لغة، لا يمكنها إلا أن تكون لغة مُقاربة asymptotique بالشكل الذي أدى، وخلافا لهذه اللغة غير – المخلوقة، إلى إعادة صياغة اللغات بشكل دائم بعد البلبلة (الاختلاط) الأصلية. وإنه لمن الملفت أن توسم هذه البلبلة، بالنسبة لدانتي، بنسيان للغة الأولى، وبأن يكون هذا النسيان أيضا ما يمكن تسميته التاريخ الذي يغيِّر بلا انقطاع العادات والتقاليد، وعلى الأخص الكلام ذاته. فلو قُدِّر للأموات الذين مشوا هنا حيث نمشي أن يبعثوا إلى الحياة، يقول دانتي، فإننا لا يمكن أن نفهمهم. أكثر من ذلك، فإن هذا التغيير غير المرئي والذي نشبهه بالنمو الجسدي، يعتبر بالنسبة لنا سببا دائما للعمى:  إننا نعتبر ما لا يكف عن التغيير (نحن أنفسنا، جسدنا، اللغة) كشيء غير قابل للتغيير:  “بمقدار ما يتطلب التغيير وقتا أكثر حتى يكون بالإمكان إدراكه، بمقدار ما يزداد رسوخا الاعتقاد بأن الشيء المتأمل غير قابل للتبدل “. وعلى هذا يغدو الماضي في كل لحظة الأكثر قربا منا (لحضوره في كلامنا)، وفي نفس الآن الأكثر بعدا. واللغة هي التي تقدم لاشعوريا الدليلَ على ذلك. وبالنتيجة فإن لغة ما “تتبدل تباعا من عصر إلى عصر، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تظل على حال واحدة”. إن الأفراد مرتَهنون داخل التحديد المزدوج للفضاء وللكلام، حيث تُلعب داخلهما أحداث الكوميديا الوهمية لحريتهم.ومع ذلك، ومن خلال النحو، الذي “ليس إلا هوية لغوية لا تطالها قط يد التغيير بتغير الأزمنة والأمكنة”. ( مبدئيا، ينفلت النحو من الوقوع أسيرا “لرغبات” أي منا)، فإننا نتمكن من الولوج، ومن الجانب الآخر لـ “تململات” اللغات، إلى اللغات الأخرى غير تلك التي نظهر فيها، أي إلى الغريب، إلى الماضي (إلى الآداب، ونحن نعرف بأن دانتي يقصد بالكتابات الإنجيلَ أكثر مما يقصد بها المؤلفات القديمة).  هكذا فدانتي يفرض على من يريد أن يأخذ الكلمة، بأن يتيقظ لتاريخ الكلام، لجغرافيته، لتياره، لراهنيته غير المعترف بها، لجِدَّته الدائمة التي علينا إعادة اختراعها عن طريق فعل ثوري على نحو من الأنحاء. وتلك هي الصورة الصريحة للغربال الذي لا يمسك ما أمكنه من الأشياء إلا ما تعلق منها بمتعدد التكافؤ والعام (متعدد المعاني)، متخلصا من الإلحاحات الجهوية والفردية. عند هذه النقطة من خطابه، يعين لنا دانتي من جهة أخرى عتبة الكوميديا. وببحثنا عن لغة “من بين كل اللغات دون تبكيت”، فإننا نحرص على الإيقاع في الشباك، كما يقول “بهذه الطريدة التي يتضوع عطرها في كل الأنحاء، ولكن دون أن تترك لأحد أن يراها في مكان ما”،  إننا نلاحقها داخل الغابة الايطالية  (إنها غابة اللغة والعلامات، “غابة الرموز” التي سيتحدث عنها بودلير في سوناتة مراسلات). فبعد تعددية الدال التي في إطارها يفلت منا المدلول ، ينبغي أن تعقبها وحدة الدال القادر على إبراز التعددية اللامرئية للمدلول. وعلى هذا النحو، يقول دانتي ” داخل كل نوع من الأشياء ينبغي أن يوجد شيء يمكن أن نقيس عليه كل شيء ينتمي إلى نفس النوع (منذئذ ستكون هذه الأشياء قابلة للقياس من خلال علاقتها بأبسط الخصائص المشتركة في هذا النوع:  الأعداد انطلاقا من الوحدة، والألوان انطلاقا من الأبيض..الخ). ونفس الشيء بالنسبة لأفعالنا، “فلكي تنقسم إلى أنواع علينا إيجاد العلامة التي بموجبها يمكن لهذه الأفعال نفسها أن تصبح قابلة للقياس. يتعلق الأمر كما نرى إذن، بمسلمة :  بموجبها يمكن تقسيم الإنسان إلى “إنسان كامل”، وإلى إنسان مواطن، وإلى إنسان لاتيني…اللغة ينبغي البحث عنها بين المدن (هذه المدن زمن الهمجية المتواصلة حيث كان يعيش دانتي والتي قال عنها فيكو Vico  بأننا نعيش كما لو كنا في غابات)، يمكن القول بأنه ينبغي البحث عنها كذلك بين المؤلفين (في هذه المدن من المدن التي تمثلها المكتبات المتوفرة هي أيضا، ويا للغرابة، على جحيمها الخاص). إن دانتي يرى الوجود في شموليته كنوع من النسق حيث الكل تقريبا يقترب من وحدة قياسه. وبهذه الطريقة سنحصل على الثنائيات التالية:  واحد/عدد فردي/عدد زوجي// أبيض/ أصفر/ أخضر//، وفي صيغة تظهر تبعا لذلك وكأنها شكلية خالصة:  إله/إنسان/حيوان/ شجرة/ معدن/ عنصر / نار / تراب. يسهل التنبه إلى أن هذه السلسلات الكنائية تغور في نفس الحدث الأصلي المتعلق بالاستعارة (الأخيرة هي، بالنسبة لدانتي كما بالنسبة لدونات Donat، بمثابة النوع الذي يضم كل المجازات والتي هي بالقياس إليه مجرد أجناس) وعلى هذا النحو ستغدو “مرآة الكلام parlure” التي ينبغي أن نعثر عليها – والتي سيغدو بإمكاننا أن نقيس عليها كل شيء- موضوعَنا الرئيس:  الأداة لقياس الإنسان والعالم، والمختصَر لكل التفريعات والتحديدات الخاصة باللغات والتي يقوم عليها، ويجعلها بالتالي تضطلع بوظيفة تركيبية. إن دانتي يعرِّف، هذه اللغة، من خلال أربعة مصطلحات يعطيها معنى محددا ودقيقا:  – مشهور illustre – رئيسي cardinal  – ملكي royal، – عفيف courtois .المشهور illustre:  الذي يشرق، وإذ يشرق، يشع؛ الذي يُعلِّم؛ الذي يجعل من “اللامرغوب فيه مرغوبا فيه”، من خلال قوة أكبر من تلك الخاصة بالملوك وبالمنفي (هذا المنفي الذي يعد بدون أدنى شك نتيجة مباشرة للقوة).الرئيسي cardinal :  إنه “الباب والمحور”، “البستاني والتطعيم”، أي ما يمكن تسميته بالجانب المحوري.الملكي  royal:  لأن هذه اللغة” تبحث عن الاستضافة في المنافي الوضيعة على اعتبار أننا لا نتوفر على قصور ملكية”.العفيف  courtois:  لأنه يشكل المثقال والميزان نفسه ( ما يقيس وليس الشيء المُقاس).  وكخلاصة فإن أعضاء هذا القصر العاشق للغة (وللغة الحب، كما سنرى لاحقا)، على عكس أعضاء القصور الخاصة بالأمراء، ” يتم تجميعهم بواسطة نور العقل”، (يتعلق الأمر بالطبع بشيء مختلف عن تيار ” جمهوريةٍ الحروف”، إن معنى هذا المقطع لا يستدعي نظرية أكاديمية انتقائية، ومصطنعة ولكنه يستدعي تجربة عنيفة وسرية نحاول نحن أن نعطي فكرة عنها). في تأسيس هذه اللغة التي هي بمثابة الانعكاس المطلق للأصل وللأشياء، يلعب الشعر، لاعتبارات لسانية، دورا جوهريا:  فمن خلاله تعثر اللغة على ترابطها (إنه هو الذي يقوم بإظهار “الجانب النابض للعلامات”(جاكبسون:  Essais de linguistique générale)). الشعر هو “الإبداع الخطابي الموزون fictio rhetorica musicaque posita “(3)، أي الخيال المنمَّط بواسطة البلاغة والموسيقى، والذي يتضمن درسا خاصا، وباختصار، إنه “اللغة البشرية وقد أعيدت إلى إيقاعها الجوهري”- كما سيكتب مالارمي عن الشعر. علينا ألا ننسى بأن ما نسميها بالموسيقى ولدت، بحسب تقارب مليء بالدلالة، في نفس الوقت مع دانتي:  بالتزامن مع ظهور كتاب “الفن الجديد”، ظهر التماثل الإيقاعي، والتقسيم النغمي المتناسب، وعرف التعدد الصوتي تطورا كبيرا، وكذلك البحث عن أكبر قدر من الاستقلالية النغمية والإيقاعية الخاصة بالأجزاء؛ ثورة هي، تحديدا، ثورة كتابة موسومة بظهور الأسطر الشعرية. من جانب آخر، أصبحت اللغة والمعرفة على تواصل عميق بينهما:  “مع المفاهيم الكبيرة فقط يمكن أن تتناسب أفضل العبارات”. كلمة “أفضل” كانت  تُمثَّل في تلك الحقبة من خلال الانتصارات الحربية، ومن خلال وهج الحب، و”استقامة الإرادة”، أي إجمالا بواسطة ما يكون قابلا للمزيد من الإبداعية،- والتروبادور هم هؤلاء الذين، إذ ينتقلون من مكان إلى آخر، يعملون على إسماع هذا الصوت الحر الذي يبحث عن نفسه ويكررها في سبيل أن يجد ضالته. وعلى هذا الأساس فالأغنية هي الشكل المفضل:  إنها تكثف و “تعانق الفن في شموليته”. ولكي يكون الشاعر في مستوى هذا الفن عليه أن يمتلك ” يقظة الفكر، وعناد الفن والقدرة على استعمال العلوم”. وهذا هو حال فرجيل، وحال النشيد السادس من “الإنيادة”، وحال “الشعراء المعشوقين من طرف جوبيتر المرفوعين إلى غاية السماء الأثيرية من خلال فضيلة ملتهبة، الشعراء سليلي الآلهة، كما يصفهم (فرجيل) بكلام مجازي”. وهنا تتدخل صورة العُقاب التي تلعب دورا غاية في الأهمية في” المطهر” Purgatoire  (حلم المعراج) وفي الجنة (باعتبارها استعارة للكتابة المتعددة). إن كتاب “في الفصاحة العامية”، الدراسة غير المنتهية، تتلاحق فصوله وتختتم بتأملات تقنية. إن القصيدة ذات الأحد عشر مقطعا hendécasyllabe (المشكِّلة للكوميديا) تعرَّف “في الفصاحة العامية” باعتبارها البيت الشعري الوِتْر الأكثر كمالا، ” الأكثر روعة في آن، من خلال الزمن الذي يحتله، ومن خلال سعة الفكر والعاطفة أو مجموع الكلمات التي يتضمنها”. إن إشكاليات البناء وتقريبا إشكاليات الإخبار تصبح مهيمنة داخله:  هكذا فمنذ آدم الذي تناول الكلمة في الجنة حتى اليد التي رسمت العلامات على الورق، فالمحصلة في العمق لا تعدو غير بضع صفحات. فالأسلوب ينقسم بالنسبة لدانتي إلى أسلوب باهت، لذيذ باعتدال، عذب ومزخرف (بلاغة سطحية)، وإلى عذب ومزخرف من الدرجة الثانية (بلاغة تصويرية). ونماذج ذلك من الشعراء:  فرجيل، أوفيد، ستايس، لوكين؛ ومن الناثرين:  تيت ليف  Tite-live، بلين Pline، فرونتين Frontin، بول أوروز Paul Orose . بينما يتم تصنيف الكلمات إلى:  طفلية، مؤنثة ومذكرة؛ أو أيضا إلى:  غابوية، حضرية، منقحة ومصقولة، غزيرة وفظة. إن الكلمات المصقولة والفظة يكون لها صوت قوي. والمنقحة هي تلك التي تجمع الخصائص التالية:  تلك المتعلقة بثلاثي المقاطع، وغير الملفوظة بملء النفس، بدون نبر حاد أو إشارة مد، بدون حروف مضغمة مثل z  و x، بدون سيولة متزاوجة أو كصامتة، أحادية المستوى، تخرج من الشفاه بعذوبة (amore, donna, disio, vertute, donare, letitia, salute). إن الغزيرة تتكون من أحادي المقاطع أو أدوات التعجب (si, no, me, te, se) أو أيضا تلك التي هي بمثابة زخارف لا يمكن تفاديها مثل:  terra, honore, speranza, gravitate, impossibilità. من كل هذه التأملات سيتم تشكيل حزمة وسهم القصيدة، حبكتها وقوة نبرها التي ستكون إذن أكثر حدة منها حين تم التفكير فيها أيضا كدال غفل (أي حينما لم تكن له أية دلالة). يتوجب علينا إذن أن نميز في الأغنية بين الفعل والعاطفة. ذلك أن “الأغنية، في الواقع، وبحسب الدلالة الحقيقية لهذا الاسم، تعني فعل الغناء نفسه ، أو الشغف بالغناء، تماما كما أن الدرس ـ القراءة ـ يعنى شغف أو فعل القراءة”. والغناء هنا ليس بالمعنى نفسه الذي نجده في قول فرجيل:  “أغنِّي الأسلحة والشجعان” أو أي شخص يغني ويمكنه أن يقول:  “أنا أغني”. إن الأغنية (النص) هي تارة فاعلة وتارة منفعلة. ففعل شخص ما يناظره شغف شخص آخر (نستعمل في الوقت الراهن مصطلحات التشفير encodage  وحل الشفرة  décodage). وبالرغم من كل ذلك فالنص يتم تحديده من خلال فعله، وهذا هو ما يفسر بأن المؤلف، ليس ذلك الذي يغني الأغنية، وإنما ذلك الذي ألَّفها. إن الأغنية هي:  “الفعل المنتهي الصادر عن ذلك الذي يملي عبارات متناغمة فيما بينها، وتكون جاهزة للتلحين”، وهذا الفعل سيقودنا إلى المقطع الشعري الذي هو عبارة عن “غرفة فسيحة يتلقى فيها الفن بأكمله الحمايةَ estage”.وهكذا في هذه الدراسة التي يمكننا النظر إليها على أنها البوتقة و العالم الصغير لعمله الكبير، وعلى أنها خياله الوراثي، ومولدته الشكلية، فإن دانتي لا يكف عن أن يجعل نظرة القارئ، من خلال نظرته الخاصة، تصبح نقدية أكثر. إنه ينبهنا بدون لبس إلى أن المسألة تكمن هنا، أمام أعيننا، في صوتنا؛ وبأنها تتجذر في وضعنا داخل اللغة؛ وبأن شرط وجودنا يوجد داخلها في آن معروضا بدون أسرار ومحتفظا مع ذلك داخلها بنوع من السر المطلق. إن الكلمات، علاقاتها، أحكامها، أصولها، أشكالها ومعانيها، تحدد موقعنا داخل حقل تجربة يمكن أن نتكبدها أو أن نريدها.  ولقد سبق أن قلنا بأنه كان الأول الذي طرح ثلاثية:  الممثل، المؤلف، والقارئ. إن فعل المؤلف هو شغف القارئ، ولكن هذا الفعل ليس له من مصدر آخر غير شغف الممثل. هذا الممثل الخالد للغة، إذ يفلت من التشفير اللاواعي والميكانيكي، لن تكون إجابته إلا بحياة جديدة، شرط أن يتقن اللعب، ويتغلب على هذه الجدة التي لا تكف عن الحياة. من هنا سندخل في بعد النسخ اليدوي للكوميديا.”الحب”   كيف يمكننا تأويل كتاب “الحياة الجديدة”؟ مثل كل ما يكتبه دانتي:  حرفيا. إن الحرف هو قلب حياته وكتاباته. وكتاباته، ينبغي علينا مقاربتها مثل الأسماء، الممتدة، المتغيرة، المكررة، المشكلة للأرض المتموجة للنصوص:  هذه الأخيرة لا تكون أبدا معبرة إلا إذا كانت من الدرجة الثانية، بشكل منـزاح. إن الدلالات الثانية – بأعداد لامتناهية – لا تفعل في أقصى الحالات غير التفرع عن هذا المستوى البالغ العمق – أو البالغ السطحية – في حين تبلغ في أضعف الحالات الدلالة نفسها. ولقد لاحظ سوسير (في “أناغراماته” Anagrammes  ، منشور من طرف ستاروبينسكي، 1964) جيدا بأن الالتصاق بالحرف كان في الأصل الملغز للشعر (وبالأخص في أصل الشعر الفيدي ٍٍٍٍِ[الهندي] védique.). إن الموسيقى يمكنها في هذا المقام أن تساعدنا على المقارنة، ولكن بطريقة عابرة. إن هذه المقاربة تنتمي للاختبار الذي تجريه ذات على المعنى باعتباره علة لوجودها، وللتجربة الجسدية – و للفضاء المجهول – حيث أن موقعها كذات يتعرض جذريا لإعادة المساءلة. يتضمن كتاب “الحياة الجديدة” ثلاثة مستويات من التلفظ:  1 – حكي يعطى المجال لوجود 2 – قصائد تثير هي، بدورها، مجموعة من 3 – التعليقات. “خطوط” التدوين الثلاثة هذه (ما قبل النص، النص، سياق النص)، وهذا التقسيم (بمعنى الوصف، الحكي، وما يجعل من هذه الكلمة، من حيث الاشتقاق، على رأس السلسلة:  تقسيم- تمييز- تفسير / مفصَّل- وصف – سرد – قول)، يعرضون [الخطوط والتقسيم] وضعية ذلك الذي سيغدو الممثل والمؤلف “للكوميديا”. أولى نقاط التقاطع:  تقاطع كتاب العالم (اللغة) مع كتاب الفرد (“كتاب الذاكرة”). ونقطة التلاقي هذه تحمل اسما:  بياتريشي Béatrice ، الحب. اسم، أو بالأحرى رقم:  الرقم 9، الذي لا يشكل هذا الاسم إلا ترجمته اللفظية (بياتريشي هي 9 يقول دانتي). إن ” الحياة الجديدة” ليست فقط بالنسبة لنا الحياة المتجددة، الحياة الحديثة العهد، ولكن أيضا الحياة المتخذة علامة تسعة neuf (أي أنها في آن الحياة الوليدة، تلك التي تخرج إلى الوجود بعد انقضاء تسعة أشهر، وتلك التي تتخذ موضعها في الفضاء الإيقاعي لربات الفن اللواتي يساوي عددهن تسعا). هذا التقاطع – المولد اللساني للذات- يحدث من خلال بعد يومي وكوني. “صعقة الحب” التي تعرض لها دانتي، أي ما يمكن تسميته اليوم بالانبثاق المفاجئ وفيضان لاوعيه، تحدث لديه خلخلة عضوية:  فحين يرى بياتريشي تحييه، يوشك على السقوط مغشيا عليه، ويحث في العودة إلى مكان إقامته، يحلم بأن الحب يقدم قلبه غذاء على مائدة هذه المرأة، وتوا يشرع في الكتابة. وكما نرى فإننا نحصل هنا على سلسلة منطقية مدهشة. لأنه إذا كان دانتي يدخل بهذه السرعة إلى الكتابة، ويشرع في البحث، الذي سيغدو لا متناهيا، من زاوية أن اللغة تتكلم (مجال لا علاقة له بالكتابة اللاأرادية ولكن بحركة أكثر تعقيدا، أبدية وعميقة)، فإنه لا يفعل ذلك إلا بغرض واحد:  تحقيق التواصل. فمن اللحظة التي تجدد فيها حياته نفسها، حياته المنتشلة من الوضعيات المألوفة، لكي تكتب (حدث تقتضي طبيعته إقصاء كل من يقبل الرضوخ لثقل تلك الوضعيات)، يضع دانتي المعادلة المتناقضة التي تميزه دائما:  هناك أحد ما يدفع إلى الكلام، وإذ يتكلم، فإنه يتكلم من أجل شخص آخر. معادلة تجعله يقع في آن في موقف الضحية المترعة وفي موقف الترجمان، ولكن أيضا المرسل إليه:  القسمة الثلاثية للمجهول. هذا الكلام الأول، يتم تجسيده، والحق يقال، من خلال عدد قليل من النكات:  بياتريشي “توجد”، والقارئ، الذي يجيب من جهة أخرى، ليس إلا صديقه كافالكانتي. بيد أن الأساسي يتمثل في هذا النموذج الملموس والنظري لمجمل كلام دانتي الذي، ولنكرر ذلك، ليس سوى حركة، وتواصل. إن الفضاء المكتشف هنا هو ذلك الخاص بالجسد كدال أكبر، أي حقل التحديد الرمزي الذي نبلغه داخل اضطراب الرغبة. فالرياضيات المعقدة التي تحرص بالنسبة لدانتي، على أن تحجب وتعري العلامة في آن عن هذه الرغبة، تتبع قانون الكلام الذي “يعيِّن” ويبقى مغلَّفا داخل هذا التعيين كمكان لمستودعه الخاص. داخل هذه المتاهة، فإن الظواهر تتهيأ وتترابط بشكل غير متوقع: الحلم بلقاءات “حقيقية”، الهوس بالارتجاجات الجسدية، التحول من النظر إلى الرؤيا (يستهل الكتاب بتحية تمحو الوعي، تطفو بالجسد إلى السطح، وتُهيِّج اللغة؛ وينتهي بمكاشفة تقود هذه اللغة إلى الإخفاق) الكل ينقبض، الكل يتجاوب.  بيد أن دانتي ما يزال خارج هذا الاشتغال الذي اتخذه كموضوع:  فالحب هو بمثابة دائرة لم يشارك فيها بعد. إنه يخاطب عبارته، ولا ينطقها. وقد يكون “أصبح آخر”منذ زمن، وقد تكون تجربة الشطح استحوذت عليه (هذه التجربة تشكل في أحيان كثيرة المعيار الوحيد الذي من دونه لا يمكن للقارئ أن يفهم ما كُتب):  ” ما يوجد في ذاكرتي يموت/ متى يمكن أن أراك، يا سعادتي الجميلة” – ” العيون المولهة بموتها الخاص”. لم يكن دانتي واقعا بأقل من ذلك في شرك تعبير ذاتي،  وهذا ما كانت “السيدات” اللائي يقابلهن، “كما لو كان يحظى بثروة طائلة”، يعاتبنه عليه مع إقرارهن في نفس الوقت بأن حبه “له غاية جديدة بالمرة”. وهو ما يحتم على الكتابة أن تغير من وجهتها:  عليها أن تتوقف عن التشكي “الخيالي”، وأن تتحلى بالموضوعية. وهذا مشروع آخر سيظهر إلى الوجود، ومعه، ستظهر الرغبة الحقيقية لكي يكتب ولكن أيضا الخوف من أن يبدأ. وعلى البداية أن تتم بشكل أكثر عمقا، وبشكل غير متعمد، وعليها أن تحدث بدون أن نكون قد قررنا ذلك أو خططنا له، كما في ذلك اليوم الذي أمكن لدانتي، وهو يسير بمحاذاة “نهر صاف” أن يجزم:  “وإذن فقد قلت بأن لغتي تكلمت كما لو أن كلامها آت من حركتها الخاصة قائلة:  ” Donne ch’avete intelletto d’amore ” (” أيتها السيدات اللواتي لكنَّ مهارة الحب”). هذا البيت  عزيز على دانتي، لدرجة أنه يذكره مرتين في كتابه “في الفصاحة العامية” ويستعيده في “المطهِّر”:  وتفسير ذلك أنه يشير إلى الأساس العفوي الذي يقوم عليه شكله، وطبقته الصوتية واللاواعية، أي اللغة التي ينتمي إليها والتي تنسب إليه بشكل خاص، اللغة التي ستشكل مرتكزا لوجوده ولتطور الشعب الإيطالي. وانطلاقا من هذه اللحظة تصبح بياتريشي دالا كونيا. إذ بعد تواريها عن الوجود، وانزوائها في عزلة لا حدود لها فإن فمها، وعينيها، وابتسامتها، ونظرتها سيأخذون الآن لبَّ أي شخص. وفي نفس الآن تدخل وتُدخِل معها دانتي إلى الدائرة القاتلة، المتعلقة بالفناء الدائم. إنه مجال “الضياع”:  المرض، الهذيان، إعلانات عن الاختفاء، التصدع السديمي. فحين رأى دانتي بياتريشي ميتة، أخذ يحدث نفسه بأنه سيموت بالتزامن مع احتضار العالم. وهنا نقترب من النقطة التي إذ تصل فيها التناقضات إلى ذروة حدتها، فإنها تقيم مبادلة، غير معروفة لغاية هذه اللحظة، بين داخل وخارج، وتقيم عدم تمييز يصل، من خلال اللغة، إلى الحالة اللاشخصية، التنبؤية. من الآن فصاعدا، فإن الحب سيأتي وسيتكلم داخل القلب، داخل الاضطراب الذي سينتشل المُكابِد له من الصمت، من العزلة. يتهيأ لنا بأن الأساسي بالنسبة لدانتي يكمن ليس في عدم الركون مطلقا إلى الاطمئنان، إلى القدرة على تفسير كل ظاهرة على حدة، وكل ملمح من ملامح قصائده، ولكن في إعادة سكب الفهم والمحصلة المؤقتة التي حصل عليها داخل الحركة الأبدية للرغبة:  بجعل الإبداع والنقد غير قابلين للانفصال. فالحب لا يملكُ شيئا ولا يريد أن يملكَ شيئا:  حقيقتُه الوحيدة (ولكن اللامتناهية) هي في انفتاحه على الموت. وبهذا المعنى فإن موت بياتريشي تشكل مفتاح لغة دانتي، لأن هذا الموت وإن كان موتا خاصا بشخص آخر، فإنه يعتبر الشكل الوحيد الذي يملكه ليحيى موته الخاص ويتكلمه. وانطلاقا من هذا الموت، يدخل التعليق من جهة أخرى إلى صف السرد، تاركا القصيدة تنتهي بصمت (لكي يتضح جيدا، يكتب دانتي، بأن النص أرمل veuf:  لا نستطيع أن نعين بشكل أفضل دور الدال الذي تتخذه من الآن فصاعدا بياتريشي، فسياق النص يعبر إلى صف ما قبل النص متيحا للنص بأن يظهر كمخرج وحيد، ككلمة النهاية:  العناصر الفردية داخله تختفي أو بالأحرى يتم إرجاعها إلى هذه المنطقة “حيث لا توجد لغة تستطيع قول هذه العناصر”).

لنُلِح، مع ذلك، دون أن نخشى من التكرار:   إن النزعة الإمتثالية الإنسية والسيكولوجية، المؤسسة على الحماقة “السيرذاتية”، انشغلت دائما وبشكل محموم “بتعين هوية” بياتريشي. وهو ما يوقعنا في سوء فهم حتمي:  يمكننا القول بأن نوعا من تفسير معكوس نموذجيا يوجد مجملا في هذا الانشغال. وهذا لا يعني البتة بأن بياتريشي عبارة عن استعارة:  بيد أن واقعيتها، بالنسبة لدانتي، هي تلك التي تتحقق لديه عن طريق البعد والموت. إنه فقط عندما يكون موضوع رغبته موضوعا ليس غير قاتل فقط ولكنه لا يحقق حياته إلا داخل موت متواصل- وهي نقطة مضيئة تزيدها الظلمات توهجا حيث يمكن لها فقط أن تتوكد، – فإن هوية هذا الموضوع (غير القابل للاختزال في وضعية الموضوع، بكل تأكيد، ولكن في ذات أخرى، غيرية أكثر فأكثر ) تُفرض وكأنها تقويضٌ لنسيج الهوية الاجتماعية.على هذا النحو يتوجب علينا أن نفهم الشعرية الباطنية لشعراء التروبادور، (لـ”trobar cluz” ولـ، “senhàl”)” ولـ “الأوفياء للحب fedeli d’amore “التي لا تعتبر النمذجةَ الوهميةَ لكائن واقعي، ولكنها العلاقة الملموسة، الأيروتيكية، المحفوظة بين الرغبة غير القابلة للتدمير وبين الموت. يمكننا القول عموما عن المرأة (المكان الذي جئنا منه) بأنها تعتبر العلامة الوحيدة القادرة على أن تجرفنا نحو رغبة لا حدود لها. إنها مكان القانون (الإنجاب)، وفي نفس الوقت فإنها تمتلك القوة المادية (البيولوجية) القادرة على التعبير عن الانتهاك. فموت رجل يبدو أمرا بالإمكان المطالبة به، كما أنه يعطينا انطباعا بالانتهاء، بالحاجة، أي مجموعة من الأحاسيس المحددة والواضحة. وعلى العكس فموت امرأة يبقينا في حالة من عدم الرضا. يظل يحتفظ بجانب خفي، مخادع، لا يكف عن مناداتنا. وهو ما يحتم علينا ضرورة ملاحقة هذا الموت، وأن نجعل من لعبه الذي لا ينضب، ولا يخضع لأي منطق، منبعا لكتابة ولقابلية رؤية غير مكتشفين. الآخر، باعتبار أنه مرتبط بالموت، هو العلامة لهذه الحقيقة غير القابلة للإصلاح:  رأس الموت، يقول Quevedo، هو الميت (مذكرا)le mort، بيد أن الموت (مؤنثا)  la mort، هو الوجه، الأكثر امتلاء بالحياة.المرأة هي هذا العبور من الأم، من لغة الأم ( من المنع الأكبر)، نحو الرؤيا (على خلاف أوديب) نحو النار التي عليها وجودنا. إنها هي التي تقود نحو رؤية ماوراء الوجه والأجساد المكررة. موت بياتريشي سمح لدانتي، في شكل حياة جسدية في عالم الموت، بأن يستلهم حياة هذه المرأة الميتة باعتبارها شرطا لحياته، وأن يرى بفضلها هذا العالم الخاص بالموت، وأن يجعل “رؤياه تتجلى بأكملها للعيان”. عملية قلب أخرى للأسطورة القديمة:  تعارُض بياتريشي من كل الأوجه مع أوريديس. وعوض الكلام الأعمى للأزمنة القديمة سيحل محله انتهاكٌ متحررٌ، مجيئٌ واستنفادٌ للرؤية (في الكوميديا، بمجرد اختفاء اللغة الأبوية – لغة فرجيل- في غمار مولد لغة بريئة منفلتة من إسار القانون، ترغم بياتريشي دانتي بأن ينظر إليها ويكلمها، وتجعله يعود أدراجه عبر الطرق التي قطعها، نحو الأرض، وتمحى في النهاية في الكتابة التي كانت هي وراء إثارتها).تبعا لذلك هل يمكن اعتبار فقدان بياتريشي لهويتها بمثابة العلامة على فقدان دانتي لهويته، وبمثابة الفضاء حيث تنتشر كتابته كرغبة، ورغبته ككتابة غير محدودة؟ تجربة ينبغي أن تحدث بشكل متكتم أكثر فأكثر؛ تجربة ستغدو ربما، وعلى مستويات جد مختلفة وأكثر فأكثر التباسا، مماثلة لتجربة هولدرلين (Diotima)، ولتجربة نرفال (Aurélia)، ولتجربة بودلير، وللتجربة الأقرب إلينا تلك الخاصة بجورج باطاي. تجربة كهذه، من حيث التعريف، تتميز بخاصية الانتهاك:  لاشيء اليوم أكثر إثارة للجدل من هذه الكلمة [الحب] التي غدت من أكثر الكلمات خواء في لغتنا، نتيجة هذا الانحراف المقصود، اللا- “رومانسي” لكلمة الحب.  ولقد رأى باطاي بأنه يتوجب علينا أن نبحث من الآن فصاعدا عن معنى هذه الكلمة (التي تعني ربما، بحسب اقتراحه، الصداقةَ وقد جُرِّدت من حجابها من خلال الميثاق القاتل في عمق الحظ والضحك، هذه الصداقة الواقعة وراء الخير والشر ووراء كل دلالة) في الليل، وفي الانزلاق، وفي الشذوذ، وفي القذارة. بيد أن الأساسي هو أن نرى أنه إذا كان الأمر يتعلق في كل هذه الحالات بتجربة تعزل وتدمر الذات المفتقدة لكل مخرج، ولكل مجتمع ممكن، فلأنها تجربة لا تحيط بها اللغة التي تبحث عن الخلاص، وتفتقد لاقتصاد هذه اللغة دائم الانحراف والخفاء ( قطبا هذا الاقتصاد هنا، هما غريزة الحياة (إيروس) وغريزة الموت (تاناتوس):  إيروس الذي، كما يقول عنه فرويد، ” يعمل على إبقاء كل الأشياء الحية مجتمعة”، هذا فيما تتضمن صرخته “الصراخ الأخرس” لشقيقه التوأم (تاناتوس).)   “الحياة الجديدة” يمكن على هذا النحو أن تُفهم على أنها الكفاح من أجل الحفاظ على الرغبة، عن طريق اللغة، في مستوى الموت. وهذا الصراع يؤدي لاحقا إلى اختفاء الذات المحدودة والبسيطة، وازدواجيتها المكونة من جسد متكلم وكتابة تضم هذا الجسد. وإذ يعلن النص عن القانون الذي من خلاله يعلن عن نفسه، فإنه يشكل فعلا “علم قراءة” زمنيا للكوميديا حيث أن التناقض بين الخطوط الثلاثة للحكي، وللقصيدة وللتعليق يجد نفسه محلولا بطريقة ملموسة. وهذه القطع الثلاثة المكونة “للقصيدة المقدسة”، الموزعة إلى مقدمة وثلاثة أقسام، كل قسم يضم ثلاثة وثلاثين نشيدا موزونا في شكل مقاطع شعرية ثلاثية tercets، ستبسط أمام أنظارنا، في فضاء محدد سلفا، اعتباطي، رقمي، ويندرج الزمن ضمنه وبشكل دائري في صيغة تزامن وعودة، قصيدةً هي بمثابة سرد، وسرداً هو بمثابة قصيدة، ولغةً محوَّلة حاملةً لـ”درْسـ”ها الخاص تتعرض داخله لإعادة الشحن بشكل غير متناه. إن الممثلَ (المأخوذَ بالشغف) الخاص “بالكوميديا” سيكون هو جسد دانتي، والمؤلفَ ( الحدث )سيكون هو لغته، والقارئَ (المنفعل) سيكون هو الكلية، أي المكان الذي نحوه سيتم جر الثلاثة من خلال كل ما يتحرك، يكشف ويحرق المجموع. في “الحياة الجديدة”، تعلَّمنا كيف نميِّز علامات الحب (بالمعنى الذي يدفع إلى الكلام)، وكيف أن كل شيء تمت رؤيته من زاوية هذه العلامة التي تم اطلاع الآخرين عليها بواسطة وسيلة الاتصال الشائعة. بياتريشي “بملابسها الملونة بلون الدم”، ستشكل منذئذ مادة لفكر دانتي:  “فكري في كليته يأخذ مادته من سيدتي”. في حين أن هذا الفكر، كما يقول “لكي يقيس قيمة هذه السيدة، عليه أن يرقى إلى درجة يتجاوز معها حدود عقلي”. هكذا فإن “الرؤيا المدهشة” التي يختتم بها الكتاب والعصية على القول إلى حدود هذه اللحظة، لا يستطيع الحكي أن يعرض لها، وعلى اللغة أن تتشكل من جديد “من الجانب الآخر للدائرة التي تدور إلى أبعد حد” لتدرك هذه المنطقة الثابتة والمتموجة التي انطلاقا منها يمكن للغة أن تأخذ في الاعتبار ليس فقط تجربة خاصة ولكن العالم بأكمله ذلك الذي تكون مكتوبة ومعيشة فيه. إن العلاقة بين لغتين (اللاتينية والإيطالية) مكنت من اكتشاف المعنى باعتباره عبورا للعلامات، ومن اكتشاف هذا القانون الذي يرمي إلى أن “معنى علامة هو علامة أخرى من خلالها يمكن ترجمة هذا المعنى”( بِّيرس)، ومن اكتشاف تبادل وتحوُّل الدال.   اللغة الحية حقا (الجديدة)، لا توجد إلا عندما تُستنفَذ اللغة الميتة المتضمنة داخلها. اللغة التي نصل فيها إلى العمق الآن، يتحتم عليها أن تضاعف نفسها وأن تجيب من نفسها، وأن تترجم نفسها في كل لحظة. تجربة مماثلة لهذه ومختلفة عنها في الآن نفسه ستجري أحداثها لاحقا  في “فصل في الجحيم” لرامبو وتذكرنا تقنيتها بشكل مدهش بتقنية “الحياة الجديدة”. ونقرأ بالفعل في الإشراقات:  “أنا مخترع مختلف تماما تفوق قيمتي كل الذين سبقوني، أكثر من ذلك فأنا وموسيقي عثر على شيء يشبه مفتاح الحب”.
“دانتي”الكوميديا هي العبور إلى داخل بعد ثالث. وهذا الظهور للمجلَّد يمكن أن يفهم في آن كتوحيد للمستويات الثلاثة للغة في كتاب يمتلك القوة لتقسيمها بواسطة كتابة “موضوعية”، ولكن أيضا باعتباره ضرورة من خلال الأبعاد الثلاثية للذات التي تكتب. المؤلف ينتدب نفسه باعتباره ممثلا ومرشدا لهذا الممثل. ودانتي سيكون هو دانتي وفرجيل (اللاتيني)، دانتي وبياتريشي (المعنى)، دانتي وكل ما يحدث له، ويفلت منه، ويتحول إلى سؤال لديه. وعدم التطابق أساسي هنا:  إنه يمكن الآخر من أن ينكشف في العلاقة مع ذاته دون أن يبرح هذه العلامة التي تجعل هذا الآخر، وهذا المطابق له، ينتميان لفضاء يسبق إدراكهما. آخر دانتي l’alter ego الذي يشبهه حد التماهي، والذي تمت مواجهته كممثل بتشويه عنيف، يعين رغم الكل صورة عن “دانتي” تقع خارج تمايزهما. إن ما يتعلمه دانتي، كآخر، من آخر وبواسطة آخر، يعلَمه مسبقا مادام أنه يكتبه:  ولكنه لا يكون ما هو عليه بدون أن يتكلم، بدون أن يدفع بهذه التجربة المتعلقة بالكلام وبذاته إلى منتهاها. إن الفعل الجنسي الذي كان هو موضوعه، يقوم بتوليده، مع ملاحظة بأن ضمير الغائب “هو” من بعض النواحي، “غير موجود”. أو على الأصح، لا يمكن أن يكون على وجه الدقة سوى قراءتنا. هذه العلاقة النصية هي إجمالا un unus ambo، علاقة جدلية، وإنه تحديدا داخل هذا الحقل نستطيع القول بأن دانتي يموقع نفسه ككتابة لدانتي، كعبور لهذه الكتابة غير المحدودة واللا نهاية لها.    وباعتبارها عملا للكلية totalité ، وعملا “ساهمت فيه كل من السماء والأرض”، يتوجب على “الكوميديا” إذن أن تجمِّع، داخل اللغة الخاصة بمؤلِّف مجهول وأسطوري، لم نعد نعرف منه غير ضِعفه الفاعل، أكبر عدد من التناقضات، راسمة بشكل غير محدود دائرة ممتلئة وفارغة تقوم من خلال مركزها بمطابقة كل ظاهرة مع نقيضها. نستطيع القول بأن الأمر يتعلق بلعب حاصل جمعه صفر، وتحقيق هذا المشروع لا يمكن أن يكون سوى اختفائه (لكي يختفي تماما إلا ما كان منه الكل كخلخلة وعودة، كل شيء عليه أن يكون قد وظِّف، واستُنفد). يواجَـه قارئ “الكوميديا” بكلية مستحيلة:  “فالكوميديا” تخبو في بداية متجددة تتسع على الدوام بشكل أكبر، ويخبو معها المعنى الذي يبعث فيها الحياة، ويسلمها دائما إلى هذا الانقلاب الفعال. وإذا كانت حقيقتنا، اليوم، قد غدت الحقيقة الخاصة بالمنقطع discontinu (القطيعة التي تحمل الاسم التاريخي لهولدرلين، أي منعطف الفكر الذي يختبر نفسه كشذرة من الكتابة التي تسكنه، وانفصال الإيقاع الذي يتوارى وينادي لخوض تجربة جديدة)، فذلك ربما من أجل إكمال، من خلال حتمية التحوُّل، معنى هذه الكلية الغائبة من الآن فصاعدا، الممزَّقة بالسكونات، وبالانبثاقات. الشكل الكبير الموحِّد الذي كان يسمح لنا بأن نقرأ في طريقه إلى الزوال، كهذا النجم الذي إذ يغرق في الليل فإن بريقه، وإن كان يعلن عن عودة مبهمة، فهو لا يصل إلى أنظارنا إلا بعد زمن طويل. الجحيم، المطهر، الفردوس يجمعهم بالفعل هذا القاسم المشترك:  كونهم يغرقون جميعا في مكان رابع هو كل واحد منهم ولا أحد منهم، مكان ليس هو فقط مكان “القصيدة”( “الحدث، الموجود” حسب أمنية مالارميه) ولكنه مكان المسند إليه sujet  الخاص بهذه القصيدة، المسند إليه الذي هو مع ذلك أي شيء آخر ونقيضه، العذاب والانخطاف، اللامعنى والوضوح، الجليد والنار. الكوميديا توجد في كل مكان وفي لا مكان. محيطها في كل مكان، ومركزها في لا مكان. وبالرغم من أنها ترسم طريقا في اتجاه واحد يرتقي “في سلم الحب الذي يرجُّ الشمس وباقي النجوم”، فإن النقطة التي تبلغها في هذا الارتقاء لا تحيل في الواقع إلا على المعنى وعلى كلمات النص، وعلى ما يبقيهما في حركة دائمة. والمركز يجد تأكيده بواسطة الدائرة شريطة ألا نقوم باقتطاع أي جزء من هذه الدائرة، بل على العكس نقوم بتأكيد تناقضها وانفتاحها، وإن كان موقع هذا المركز من حيث المبدأ غير قابل للتحديد. الكُلُّـمَكان يؤسس اللامكان. التاريخ والفرد لا تنفصم عراهما، وعلينا أن نقرأهما على نفس المستوى الذي لا يقصي أحدهما لحساب الآخر، ولكن الذي يبرزهما وكأنهما يتبادلان المواقع. وعلى هذا النحو فإن الناسخ والقارئ، بالرغم من عدم قابلية اختزال أحدهما في الآخر، يظل بالإمكان حملهما نحو نفس الخارج. ففعل الكاتب له غاية هي مطابقته لنفسه وإن كانت نفسه لها آخرُها، أي شغف كل قارئ ممكن. ويمكننا القول بأن الكوميديا تفهَم التراجيديا وتكتبها باعتبارها ولادة، شرط أن نفهم التراجيديا، كما أرادها نيتشه، على أنها المأساة الديونيزوسية للتفردية individuation، ” عندما يمحي الاعتقاد بكون الفرد كلية راسخة وغير قابلة للانحلال، أي عندما تمور الأرض من تحت أقدامنا”. أبوللون وديونيزيوس يجسدان حينها هذا البعد المزدوج للغة، تمفصلها وانبثاقها في قانون مصوتات وقواعد صوامت الرغبة والألم. إنه هذه الذروة الخاصة بالوظيفة الرمزية ( التي تجعل الجسد برمته يتحرك)، هذا الانسلاخ عن الذات المندفع بشكل من الأشكال، هذا “الحلم الرمزي”، الأبوللوني، الذي يعقب الموسيقى الديونيزوسية (المعتبرة هي نفسها وظيفة للألم وللتناقض البدائي)، كل هذه هي ما يمثله الشاعر الغنائي، حسب نيتشه، من خلال “أنا تصعِّد الصوت من عمق هاوية الكائن”. إن ضمير المتكلم “je” الذي يأتي إذن إلى اللغة لا ينتمي إلى الفرد، ولكن إلى اللغة نفسها التي غدت آخرَ والتي “تخلد افتداءها داخل الظاهر”. ولهذا السبب يمكن لضمير المتكلم أن يكون ذاتا وموضوعا، ويكون شاعرا، وممثلا ومتفرجا في وقت واحد. ولقد قال ابن عربي منذ زمن بعيد أي منذ 1229 ميلادية:  “الباطن يقول لا حينما يقول الظاهر أنا؛ والظاهر يقول لا حين يقول الباطن أنا. وهكذا هو الأمر بالنسبة لكل تناقض؛ والحال أنه ليس هناك سوى واحد هو الذي يتكلم، وهو نفسه يسمع كلامه”. بيد أنه بإمكاننا أن نلاحظ بأن كيركيغارد، في إما… وإما(ou bien…ou bien)…لاحظ، هو أيضا البنية التي أنجزها دانتي بوضوح:  ” وحقيقة، لو كانت لنا الشجاعة لكي نتلاءم مع تجلِّي علم الجمال، ولو تقمصنا شخصية المسرحية الدرامية المؤلفة من طرف الآلهة حيث الشاعر والملقِّن المسرحي لا يعودان شخصين متمايزين، وحيث الفرد، شأنه في ذلك شأن الفنان المحترف الذي يتقمص بشكل كامل الدور الذي يؤديه، دون أن يزعجه الملقِّن المسرحي، إلى درجة أنه يحس بأن الكلمة الملقَّنة هي نفسها التي يريد قولها، إلى درجة يلتبس فيها علينا أيهما الملقِّن؛ ولو تلبسنا بالطريقة الأكثر عمقا في الآن نفسه بالشاعر وبالقصيدة، متوفرين، في لحظة الإبداع، على الحماسة الغنائية العفوية، وفي لحظة التنفيذ، على الأذن الإيروتيكية التي تلتقط كل النبرات:  حينها وحينها فقط نكون قد حققنا الجانب الأكثر نبلا من علم الجمال. بيد أن هذا التاريخ الذي يبدو أنه غير قابل للاختزال في الشعر نفسه، هو التاريخ الباطني. إنه يتضمن الفكرة وهذا ما يفسر كونه جماليا. وإذ يبدأ بالامتلاك، فإنه يتواصل في اكتساب هذا التملك. إنه خلود لم يختف منه الزمني كلحظة مثالية، ولكنه حاضر دوما داخله كلحظة حقيقية. وعندما يكتسب الصبر نفسه داخل الصبر، نكون قد حصلنا على التاريخ الباطني”.   هذا التاريخ الباطني الذي يحتوى على التكرار ويعبُر رمزيا من الكلام إلى الكتابة، أو بالأحرى الذي يؤسس من خلال وداخل الكتابة الكلامَ الأصليَ الذي تكتمه العبارات وتُخفيه في اختلاف اللغات؛ حفريات اللغة هذه، هذه الحفريات المكتوبة التي تعيد إبراز المستويات الثلاثة المبينة من طرف فيكو Vico في التاريخ الخارجي (المنبعث بالتالي في فنه المنظوري )، تجعلنا في حضرة أسطورة بابل المسبورة في عمقها، المنقحة بعد ذلك، والمتجاوزة في الأخير. وكشاهدة على التناقض وعلى التشارك، ولكن أيضا على ارتدادهما، تتعين اللغة وتنكتب في كل لحظة، عند هذه الدرجة القصوى من الترميز، منظِّمة الكل كاستعارة عن نفسه. إنها الأسطورة الإنجيلية للكتاب المخطوط “في الداخل وفي الخارج” (intus et extra)، ويمكننا أن نجسدها عن طريق الأسطورة التي أوردها Benvenuto ومفادها أنه في اللحظة التي قرر فيها دانتي كتابة الكوميديا ” فإن كل قوافي العالم ( ويمكننا ترجمتها:  العالم كقواف، كعلامات) مثُلت بين يديه ليخلدها في عمله العظيم”. “وقد أفضى الكتاب بنجاح إلى نهايته، دون إقصاء أي منها”.
الكوميدياوهذه قراءتنا للكوميديا.I. أ) هناك أولا المشهد التمهيدي –  عتبة تربط العمل الأدبي بالأرض، نشيد تابع ينفلت من 99 نشيدا آخر غيره – والذي يشرح كيف أن كوميديا اللغة لا تترك نفسها من حيث المبدأ لا أن تعيش ولا أن ترى حقا. ولأنه أفلت من الموت (الحتمية المطلقة للدال، الغابة المظلمة الشبيهة بالنوم، الليل غير الواعي) صار بإمكان دانتي، المكوَّن من لحم ومن دم، أن يتكلم، مهتديا بأصالة لسانه المنتزع من الصمت ( فرجيل تحت قيادة بياتريشي التي جعلها الحب – المعنى – تتكلم). والكتاب الذي سيختصر كل الكتب (الإنيادة) ويتم تجديد نشاطه بالرغبة، سيصبح إذن العلة والخارطة لكتاب آخر. ب) الجحيم، رقم 9 مقلوبا، هو رحم الدال، هذا الأخير هو في نفس الآن فاعل ومنفعل، نهر وسيرك للموت الثاني، للتكرار بدون رجاء:  قريبا من الأبدية، يتسرمد الجحيم. أن تكون في الجحيم معناه أن تُطرد من ذاتك نفسها من كلامك الخاص:  إنه القلْبُ، والعكسُ حيث “الشمس تصمت”، إنه مكان رد الفعل واختلاط اللغات والتحولات النهائية، واللاتواصل، ووهم التطابق. إن نمرود هو الذي قام من بين العماليق ببناء بابل والذي بالنسبة إليه “كل اللغات تشكل ما شكلته بالنسبة للآخرين لغته والتي لم يفهمها أحد”. نحن هنا نقع تحت علامة العرض المسرحي، والتجسيد الجذري الخارجي. والكلام داخله ليس فقط أكثر تنوعا من العذابات بل لقد تم تثبيته مرة واحدة وإلى الأبد، ويعاني أكثر فأكثر من حُبسة اللسان. وإذا كانت الأرض تمثل، بالنسبة لدانتي، مكانا لتشتت الكتاب، وجوفُ الأرض، الجهنمي، يمثل تجمد ذلك الذي لم يجمع مقاطعه وشظاياه، أي الذي أحل الجزء مكان الكل، وأضحى بالنتيجة، حدَّ الكتاب الدالّ وصمته التكراري (لوسيفر Lucifer ، الضخم وذو الوزن الثقيل، يأكل ثلاثا، في هيئة أجساد حية، الصمتَ الدموي، الصقيعي)؛ فإن السماء، على العكس ستكون هي المكان حيث ستظهر الروابط liaisons  وليس أبدا القيود liens ( إنه المكان حيث الإله، أو الحب، أو المعنى الخ..، يكتب المجلد الثوري للنجوم والعلامات). الجحيم إذن، في العمق هو السجن الجسدي، الذي بقدر ما يزداد تصلبا، وعريا، وانعزالا، وتقلصا وتجبرا بقدر ما يفتقد للكلام:  الدرجة الصفر للفضاء وللكلام. الكثافة تقدَّم نفسها كصورة للواحد المتعدد un  (جيريون، لوسيفر) عوضا عن الواحد المتعدد un multiple (غريفون وموكب المطهِّر) والواحد المتعدد multiple (عُقاب الجنة)، الصورتان الأولى والأخيرة هما صورتان نقيضتان للكلية. لغة الفانين، الخارجة عن الزمن ولكن المتمتعة ببصيرة تاريخية متجهة نحو العمى ( المستقبل يتقهقر نحوهم)، تصير أسيرة داخله أكثر فأكثر:  ” ولأن الكلام النحيبي بداية لم يعد له في النار من منفذ ولا فتحة، فإنه يترجم نفسه في لغة اللهب”. وعلينا أن نسائل الفانين طويلا وبعنف (فاللغة بالنسبة إليهم هي عذاب لا جدوى منه، بدون غاية، ملحمي في عرف عوليس، متقهقر نحو الماضي المطلّ من حياتهم). لقد أصبحنا داخل الفيض القسري للدال الذي يمكن أن يفهم على أنه القانون البدئي للعالم. “الأخطاء” تُستنبط من هذه الوضعية في علاقتها بالمعنى:  الحصة، النقود، الاقتصاد هم عبارة عن استعارات للدال المحرَّف عن استعماله المجاني لتحقيق فائدة (تلَف، غِش، خيانة، هرطقة، الخ.):  كل ما تم فعله بدافع المنفعة يجد نفسه فاقدا للقيمة ومقلوبا (talion). اللغة ترتد وتسيطر على ذلك الذي اعتقد بأنه امتلكها فيما لم يكن هو بالنسبة لها سوى إحدى علاماتها. ويتعذر من حيث المبدأ تجاوز هذه الوضعية (ولتجاوزها نحن في حاجة لمساعدة رسول إلهي)، بيد أن دانتي يشدد على الاستثناء الذي يمكن من خرق القاعد (فرجيل، في “الإنيادة”، يقوم بنفس الشيء:  “Noctes atque dies patet atri janua ditis / Sed revocare gradum superasque evadere ad auras / Hic opus, his labor est.”) . لقد اقتيد “إنِي” Enée إلى الجحيم من طرف “سيـبيل”  Sibylle (عضو الدال)، ويوضح دانتي بأن لغة فرجيل هي مفتاح سلطته على العالم السفلي:  المؤلَّف الموسيقي  (opus) يأخذ هنا كامل معناه. هكذا تذهب بياتريشي (الرغبة) للبحث عن فرجيل في الجحيم غير أنها لا تظهر نفسها لدانتي-الممثل إلا بعد العبور الأركيولوجي للغة.  وبمجرد الإحاطة بأعمق ما في هذا الصمت الميكانيكي (قعر الكون، القطب المظلم للغة)، يحدث انقلاب كامل يقود اللغة نحو حاضرها، عند رؤية الدال (النجوم) وبعدها،
II-   ندخل في بعد المدلول، ونرتقي، على شاكلة المشاركة الفعالة ( وليس أبدا الانفعالية المرعوبة)، جبلَ بابل المتعذر بلوغه والذي توجد فوق قمته الجنة الأرضية؛ ارتقاء سيصبح سهلا أكثر فأكثر كلما فهمنا بشكل أفضل بأن الكوميديا برمتها عبارة عن تعلم للفكر، للرؤيا وللكتابة. بعد الغابة المظلمة، وعدم الانسجام اللفظي وهوة الصمت الصقيعي، نصل إلى الجزيرة الجرداء حيث ستعود الحياة “للشِّعر الميت”. الأرواح المكدسة في قارب تصل يقودها أحد الملائكة، إشراقة النور فوق الماء. وتلك هي لحظة إعادة اكتشاف الصوت والموسيقى. “المطهر” هو من جهة أخرى صورة متواصلة للحالة الشعرية:  السمع والرؤية يتم استدعاؤهما داخل هذه الحالة بشكل متواصل (صرخات سريعة وغير مرئية، تصوير جداري حيّ على الحيطان وعلى الأرض). اللقاء بسطاس Stace  – وهو كاتب آخر مستوحى من الإنيادة – يشير إلى الازدواجية الجديدة لدانتي الممثل:  فلغته تمشي بين لغتين، لغة ما قبل مولده، ولغة ما بعد مماته. نحن هنا نعثر على الزمن الضائع بالسير إلى منبعه، نعثر على زمن الفعل التقدمي الحقيقي. والمعاناة لم تعد معاناة من الكلام، ولكن معاناة في سبيل الكلام؛ وظيفة الخيال والحلم ستزداد دقة، والنوم سيغير من طبيعته وتحديدا من كثافته، وسينقص الجسد من وزنه، مستوعَبا أكثر فأكثر، إلى غاية عبوره من خلال الصراط هناك حيث ينتظره النور (رغبته) الذي لا يعتبر الجسد سوى ظل له.  يمشي دانتي ويطرح الأسئلة (طرح الأسئلة هو المحرك الأساسي للكوميديا، ولا توجد فكرة لدانتي-الممثل بالإمكان إخفاؤها عن فرجيل وعن بياتريشي، أي عن منبع لغته ورغبته كما يتعاطاها دانتي-الممثل على وجهين مرغما نفسه على مساءلتها)، يمرُّ عبر  “non falsi errori” أي عبر ” الأخطاء التي ليست خاطئة”،  وعبر “التكلم المرئي”، وعبر رؤية تحويل الفكر إلى حلم، (“è’l pensamento in sogno transmutai “)، بينما تـمَّحي الحروف من فوق جبينه، واحدا بعد الآخر، الحروف المسطرة من طرف الملاك، والتي تعتبر تجليّاً للكتابة المعذَّبة (الخطيئة). وإذ يتكلم دانتي بدون انقطاع مع القارئ، الذي يرى فيه شيئا أقرب إلى الشكل الفارغ والمستقبلي (“مفكرا في التتابع”)،  أقرب أكثر فأكثر إلى دالٍّ اعتباطي يقع في مواجهة ذلك المتعلق بالجحيم مثلما تقاوم الأناشيد صرخات العذاب، دالٍّ مندمج في اشتغال لا هو بالذاتي ولا هو بالموضوعي لل “immaginativa “، ولل “l’alta fantasia”، دالٍّ مندمج في الانقطاع الذي يستعيد الصمت وفرادة لغة جديدة، فإنه، أي دانتي، يتقدم من خلال انقطاعات متتالية نحو الجذر الإنساني “l’umana radice”، أي نحو جذر لغة متحررة من الإثم. وعند هذا المستوى يعود الشكل الأكبر الدائري من الكوميديا إلى الانقطاع داخل تعيين الكتابة الموجودة في حالة اشتغال:  Io mi son un che, qundoAmor mi spira, noto, ed a quel modoChe ditta dentro, vo significando,تفوق موسيقي، فِطري؛  إملاء للمعنى الذي يسمح “بأن يصبح دالا” والذي لا يبلغه إلا قلة من الأشخاص، حسب إقرار بوناجيونطا Bonagiunta: Io veggio ben come le vopstre penneDiretro al dittator sen vanno strette,     فصل مشفوع على الفور تقريبا، بدون صدفة، بمعرفة ولادة الروح والجسد، وبعدها بعبور النار (حيث نلتقي أرنو دانييل والبروفانسي، في وقت لا تكف هتافات التعجب باللاتينية عن إسماع نفسها:  اللغة الجديدة تحتوي أكثر فأكثر على اللغات التي سبقتها)، وفي الأخير يعلن فرجيل بأنه سيسكت، وبأن دانتي سيغدو منذ تلك اللحظة حرا ودليل نفسه. وبذلك سندخل إلى قلب كلمات القصيدة، إلى “la divina foresta spessa e viva” (عكس تلك الموجودة في النشيد الأول، أي تحقيقا لما كان يرى عن بعد، متعذر البلوغ، وكان يقع فوق التَّلِّ المشمس، والذي تطلب بلوغه اجتياز الجحيم طولا وعرضا)، أي إلى “الغابة المقدسة الكثيفة والحية” حيث الطبيعة المتجددة بالنار، تلد نفسها بنفسها، أسطورة للغة كخلود متجدد وغير مستنفذ أي ما يجعل موكب الطبيعة، الذي يظهر إذن، راقصا ومغنيا، حاملا العلامة الفريدة للرغبة (بياتريشي)، يشير إلى هذا  التحوُّل. إن الطبيعة حاضرة وحدها هنا، ككثافة، حيث أن نفس الدال يتلقى مدلولات أكثر فأكثر عددا- وعند هذا المستوى كُتب اسم دانتي للمرة الأولى والأخيرة في مكانه، بالتزامن مع الكشف عن الدور الذي أسند إليه: E quel che vediRitornato di là, fa che tu scrive.
وبمروره عبر الإغماء والنسيان؛ وبرؤيته من وراء النوم مركز الزمن والعلامات والذي بالعلاقة معه قام بتغيير المقام الكلامي الممحور، منذ ذلك الحين حول رغبته وحدها (التي ستمكنه من عدم الاضطرار إلى الكلام كما في الحلم ولكن ستمكنه من أن يجعل من “سرد غامض” إعلانا عن نصه كعودة، كانقضاء للماضي، كحاضر مرئي، وكمستقبل حافل بالمعنى المخصص لأولئك الذين تعتبر الحياة بالنسبة إليهم سباقا نحو الموت:   Tu nota ; e come da me son porte, Cosi queste parole segna ai viviDel viver ch’è un correre alla morte)وبقيامه بكل ذلك فقد أصبح دانتي بالنسبة لذاته وسيطا محددا، “عقلا لا يغير العلامة التي تلقاها”، وفكرا سيمتلك القدرة على فهم نفسه، ويدا ستكتب، وجسدا إذ يتجدد في ذاكرته “كورقة فتية”، سيمتلك القدرة على “salire alle stelle”، الصعود إلى النجوم، في أجواء اللغة حيث ستنكشف الكتابة الأكثر تعقيدا بدون أدنى تحفظ.
III- وإذن مع الوصول إلى الجنة، يصبح الدال ممتلئا، ونحصل على صيغة تكرار لعلامات مقابلة لتلك الخاصة بالجحيم، نغدو خارج الزمن والمكان، دون أين ومتى، وندخل في غمرة الأبدية الشفافة، الدائرية والحارقة (نحو رقم 9  مرتجّ). يغدو النص “سفينة طائرة تتراقص” (إنه هو أيضا المعنى الذي يجري فوق الماء الذي “لم يسبق لأحد أن جرى فوقه”، والسفينة الشراعية لجازون Jason  والتي تمثل الأرض وتستطيع الكلام). وبعد الاحتفال والمشاركة، نصل إلى الانصهار المتحقق من خلال المعادلة دانتي- الممثل / بياتريشي، الرجل / المرأة. وهو مكان الكتابة أثناء كتابتها لنفسها، مقام يحتل فيه الممثل وضِعفه الأنثوي (اللذان أصبحا علامات لهذه الكتابة) موقعا مركزيا وثوريا أكثر فأكثر. فالمرور إلى ما وراء الإنسان (trasumanar) يقول دانتي، لا يمكن التعبير عنه بواسطة الكلمات (per verba) ، وعلينا بدون شك أن نفهم السبب:  فما دام هذا العبور يحدث داخل اللغة فليس بالمستطاع قوله بواسطتها. تأكيد يتم نقضه لاحقا (وهذا دليل على غنى اللغة وتجاوزها في علاقتها مع ذاتها) على اعتبار أن حتمية الكلام تصبح أكثر فأكثر إلحاحا:  إن الأشباح الذين ينبثقون مثل الانعكاسات تتملكهم الرغبة في الكلام، ويطلبون بأن نسائلهم، والممثل –  كما حرضته بياتريشي على ذلك – عليه أن يتكلم لكي يقترب دائما أكثر من رغبته ويحول كلامه إلى رؤى. يتعلق الأمر الآن بتجربة مباشرة للفكر، بانمحاقه، وبسرعته غير القابلة للوصف ( الفكر واللغة تشبه علاقتهما علاقة السهم بالقوس وكل المخلوقات يتم قذفها بواسطة هذا القوس نحو الهدف الذي يعتبر غايتها). وهو ما يجعلنا داخل رؤية يقع إزاءها كل من الفكر والفضاء على نفس الجانب وعليه فالنداءات الموجهة للقارئ يزداد ضغطها ويشتد أكثر فأكثر:  وحده القارئ (أي الآخر) يمكنه أن يمثل هذه الحقيقة الخاصة بتواصل لا محدود. شُعَل، لَهب، أغاني، رقصات، عجلات نار متدافعة نحو المركز، وبدورانها تقدم مشاهد متتابعة، تجيب إحداها الأخرى، جمل تنعزل قبل أن تدخل في دائرة بدون نهاية،- أنوار متدفقة، موسيقى، لغة غير منقطعة لا تتوقف إلا لكي تكلم ذلك الذي يريد أن يسمعها- كتابة الضحك(“l’affocato riso della stella”، الضحك المحترق للنجم) التي نبلغها من خلال الداخل والصمت، أو بالأحرى من خلال اللغة التي هي “واحد في الكل” (con quella favella ch’è uni” uni in tutti” )؛ الكتابة التي تقرأ في “المجلد الكبير الذي لم يسبق أبدا أن تعرض فيه أي من الأسود والأبيض للتغيير”: Leggendo nel magno volumeU’ non si muta mai bianco nè brunoحيث يمكننا النظر إلى المرآة التي “قبل أن نفكر، يظهر الفكر”على صفحتها…علينا أن نتكلم، ليس بغرض التعبير عن أنفسنا، وليس بغرض إعطاء هذه الدلالة أو تلك (المعروفة مسبقا على كل حال)، ولكن من أجل الدفع بالرغبة إلى حالة احتراقها. دانتي يشير إلى أنه يعيد العبور بذلك، في الطريق، من خلال سقوطه البيولوجي ( من خلال “عِرقه”) وهذا التقهقر يقوده إلى تقدم عقلي مفاجئ، يقربه من النقطة التي تكون كل الأزمنة بالنسبة لها حاضرا، ويكون المستقبل في مرمى البصر “مثلما تأتي نغمات الأرغن إلى الأذن”. هكذا فالنص إذا أراد أن ينكتب في الآتي، عليه أن يمتلك قوة مضاعفة، “لأني أخشى، كما يقول دانتي، أني لن أستطيع أن أحيى بين هؤلاء الذين يسمون زمننا بالقديم”:  فالكتابة (أي التجربة الجذرية للغة) هي مسألة حياة أو موت. ولهذا فمن الجوهري أن نرى لغة هذه الكتابة، وأن نتحول في الوضعية التي تمكن من ملاحظة كيف تنكتب، وكيف يتكلم العالم ويكتب نفسه، حيث نكون: Io vidi in quella giovial facellaLo sfacillar dell’amor che li eraSegnare alli occhi miei nostra favellaلغة العصافير تَكتب خمس مرات سبع صوائت وصوامت، ودانتي يفك الرموز ويسجل ( باللاتينية) ما يقرأه في السماء. نفس الشيء، العُقاب ذو المنقار يردد بصوت عال “أنا” و”لي” (أي ما يخصني) هذا فيما نجد في الفكر “نحن” و”لنا” (أي ما يخصنا) (هكذا يمكننا القول بأنه لا يوجد، عبر التاريخ، سوى ناسخ واحد، وإذا تتبعنا الميتولوجيا المسيحية، فإنسان واحد في الواقع هو المسؤول أمام التاريخ برمته والتاريخ أمام إنسان واحد، وحدة تصنع تجربة حدوده اللامتناهية )، هذا العُقاب يمتلك القدرة على تكثيف العلامات:  “أيتها الأزهار الخالدات … كل عطركن في واحدة”. كتاب الكون يغنِّي نفسه ويكتبها أمامنا في قلب دانتي وكلامه يفجر في كل لحظة عبارة أكثر اتقادا، وأكثر تركيزا، في قلب التعددية حيث كل شيء يصبح ما هو عليه وجوده. وبهذا يخرج الفكر عن ذاته “كبرق ينفصل عن غيم”- وهذه صاعقة مناقضة لما هو موجود في “الحياة الجديدة” إذ بعد هذه الصاعقة تغدو ابتسامة بياتريشي متجاوزة لكل تعبير. وعلى هذا النحو، يكتب دانتي، يتحتم على “القصيدة المقدسة” أن “تتجاوز”، وأن تقبل بنقصها، كما لو أنه أصبح جزءا مكملا لنص لا يمثل من هذه القصيدة إلا تمظهرها المقطعي. يعود الممثل بنفسه إذن من جديد “للمعركة” بـ”أجفانه الواهنة”، والتغييرات ستحدث الآن أمام ناظريه، فيما تحوُّل النظر يظهر  الوسط حيث يغطس الممثل (بنية معكوسة لتلك التحولات الجارية في الجحيم):  فالنهر اللامع ينقلب لونه ورديا، والخط ينقلب إلى دائرة، والمعرفة تغدو كتابة للنار، والنغمة الحلزونية تنغلق من نفسها: Cosi la circulata melodiaSe sigillava,هذا بينما تدور الأرواح كالأفلاك وتشع مثل المذنبات، موجهة الرؤية إلى حيث ” تكون كل الأشياء مصطبغة وملونة”. ودانتي يستطيع أن يأخذ مكانا داخل هذه العبارة المبتهجة والتي تؤكد تعايش كل من الجمع والمفرد (عيد الثالوث)، بالمعنى الذي يجعله يكف عن كونه هذا أو ذاك، ويجعله ينسلخ عن كل خصوصية (القديس أوغسطين:  “انشر نفسك كي تستطيع أن تصبح ممتلئا؛ اخرج منها كي تستطيع الدخول”). غارقا في عماه، يحتاج دانتي لمن يكلمه لكي يتمكن ثانية من الرؤية من وراء سجف الظلام:  لأن الكلامَ يحمل معه نور قابلية القراءة غير المحدودة “لقصر الحب”، -Lo ben che fa contenta questa corteAlfa ed O è di quanta scritturaChe me legge amore, o lievemente o forte,(إن الخير الذي يملأ هذا القصر هو البداية والنهاية لكل هذه الكتابة التي تقرأني – تعلمني- بقوة أكبر أو أقل)- وآدم عند هذا المكان المحدد يردد أقوالا من كتاب “في الفصاحة العامية”، ومباشرة بعد هذه الأقوال – والآن فاللغة هي التي تقول “أنا”- يُظهر”ضحك الكون” نفسه أخيرا: Cio ch’io vedeva mi sembiava un risoDell’universo  تختفي بياتريشي من جديد وعبر لعبة الملائكة، نصل إلى الرؤيا الخاصة بالمجلد كلِّه، وهي الرؤيا التي لن نتمكن من أن نقبض إلا على “وميض” منها أثناء كتابته: Nel suo profondo vidi che s’internaLegato con amore in un volumeCio che per l’universo si squaderna.(وهذه أمثلة من اللازمنية atemporalité:  “يحفظ الزمن في هذا الإناء جذوره وفي الأوعية الأخرى أوراقه”-؛ ومن كلية الحضور:  البريق والشعلة المنعكسة ينسجمان مثل “الغناء مع لحنه”، بحيث يصل النظر بدون صعوبة إلى أي نقطة من المكان الممتد-؛ ومن الكثرة ubiquité:  “كل الشرارات تتبع دوائرها النارية، والعدد الذي نحصل عليه يكون من الكثرة بحيث تتجاوز الآلاف من خلال مضاعفتها فوق مربعات الشطرنج”).من الآن فصاعدا، وباجتيازنا التسع (9) دوائر بوتيرة تزداد سرعتها كلما ابتعدنا عن محيط الدائرة ( وهو ما يعتبر صورة معكوسة عن العالم المحسوس)، تصل اللغة إلى نهايتها اللفظية، وتنحو نحو اللانهاية، متجاوزة نفسها، بحيث تصبح غير قابلة لأن تلفظ من طرف أي كان، وفي اللحظة فقط التي يريد فيها أن يرى كيف تتحد صورتنا بالدائرة سيدخل دانتي في العجلة التي تدير منذ الأبد رغبته وإرادته. ومنذ اللحظة التي يتطابق فيها مع ما يراه، وإلى حين ينتبه، ربما، إلى أنه كان ومن البداية ما كان يراه (ما كان يكتبه)، فإنه يكف عن الوجود ليترك مكانه للنص:  إن الحب الذي يحرك الشمس والنجوم الأخرى يحيل على كوكبة المعاني والكلمات التي يقع مدخلها وسط طريق حياتنا.
IV-  يميز دانتي في مؤلَّفه الضيف ” Convivio ” أربع مستويات لتأويل نص:  حرفي، مجازي، أخلاقي، باطني. وهذا الأخير، كما يقول ” هو أعلى مستويات المعنى؛ وهو يحصل حينما نخط روحيا كتابة، بالرغم من معناها الحرفي، تخبر، مع ذلك من خلال الأشياء المُعلَنة، عن تلك المتعلقة بمجد السماء”. بيد أن تسمية هذا المعنى الروحي بالمعنى الفائض– حرفي hyper-littéral يكون ممكنا فقط، كما طمحنا إلى توضيحه، من خلال اللغة (مأخوذة في حقيقتها بمعناها الواسع) التي تتهيأ لها الإمكانات الموحدة المركز من الأمثلة والترجمات. فالاختيارات الملموسة للكوميديا (قصص، مجازات، دلالات) تكتمل دائريا انطلاقا من هذا المعنى الأخير الذي يحيل على المعنى الأول الذي يفصله عنه مع ذلك فضاء فسيح جدا. “حجاب الشعر غير المألوف”، إنه الشيء الذي يمنع ليس من اختزال هذه الاختيارات الملموسة في دلالات واضحة ومسطحة، وترجمتها من خلال سلسلة من العلامات المسطحة (لغة [القواميس] الميتة)- ولكنه الذي يمنع من رؤيتها وعيشها (قراءتها) كما هي. و”العقيدة” التي تختفي على هذا النحو “تحت” هذا الحجاب هي عقيدة المعنى من خلال تعددية العلامات، وهو ما نسميه عبور الكتابة ما دام يتضمن في آن قراءة وكتابة. وعملية الانكشاف ليست اختزالا ولكنها شغف. منطقيا، قارئ الكوميديا هو دانتي، أي لا أحد- على اعتبار أنه غارق هو أيضا في “الحب”، والمعرفة هنا ليست سوى استعارة لتجربة مفرطة في جذريتها:  تجربة الحرف، أي التجربة التي تصبح فيها الحياة والموت، المعنى واللامعنى غير قابلين للانفصال. فالحب هو في آن معنى ولامعنى، وهو ربما، ما يسمح للمعنى بأن يخرج من اللامعنى، ويجعل هذا الأخير بديهيا وقابلا للقراءة:  فالحرمان والإشباع النهائي متساويان ويقودان إلى حركة العالم المكبَّل، المُنطلق. في هذا المسلك الذي يقود الجسد نحو المعنى (الجسد، أي العالم بأكمله سالكا الدرب المتعرج والأطول والأكثر تعقيدا، والفكر الأكثر إلحاحا:  “وحده الإنسان، يقول فيورباخ، يقيم الاحتفالات بالرؤى ذات الطبيعة النظرية” )، تظهر اللغة كمكان للكلية، وكطريق للانهاية:  إن من يجهل لغته سيبقى عبدا للأوثان، ومن يرى لغته سيرى إلهه.إن  الكوميديا، في عملية نسخها المتواصلة، هي الرفض الأكثر إدهاشا لكل فكرة عن العالم الآخر، وللعالم الماورائي، وهي النقيض للتعارض الملفق نزعة مثالية- نزعة ميكانيكية:  فالنفي القاطع الذي تقوم به في مقابل ذاتها، وتأكيدها الجدلي، هما الشيئان الوحيدان اللذان لا يطرحان شيئا من واقعنا. ومعها (أي الكوميديا)، نشهد تأسيسا للشكل الذي يأسر كلمة نهاية الفرد. وتصبح الـحَرْفية مكتسبةً حينما تصبح الذات علامة بمجرد قراءة الكوميديا ورؤيتها، وفهمها. والذات لا تفعل بذلك سوى إنتاج وتعلم، وترجمة لغة العالم:  فداخل ثورة مستمرة، توجد اللغة بالمعنى الـحَرْفي وليس المجازي،  توجد في حلَّة لفظ لا يمكن اختزاله، أي لا يمكن إرجاعه إلى تعبير أكثر بساطة. وكل “الدلالات” تغدو هنا خادعة وتقصر عن غايتها التي كانت دائما تسبقها. إن وجودنا هو عملية دمج  للجحيم، والمطهر، والجنة؛ ووجودنا هو الكوميديا الكاتبة écrivante للحب، وللمعنى والكلام. ولأنه كان في الجنة استطاع دانتي أن يكتب الجحيم؛ لكن لأنه استطاع أن يكتب الجحيم، فذلك لأنه كشف لنفسه الجنة.  في ترجمته المتسلسلة للكوميديا، أدرك بوتشيللي بأن النص كان جسما واحدا في حالة تحول متواصل، حتى أن كل مقطع لم يكن سوى الإعلان، والإجابة، النفي أو الإتمام لمقطع آخر، من خلال قانون انعاكسية يتم مراجعة صحته على الدوام والذي على أساسه تم تشكيل الكتاب وعيشه. وإذ ينطلق من فضاء الأعداد، فلا يستطيع إلا أن يعود إليه. مشاهد، شخصيات، إنها مفردات لغة لاشخصية، حيث رأى دانتي نفسه وكتبها ككلمة بين أخر ما أكملته هذه اللغة فيه:  مسيرة الكلية نحو “الحب” الذي يحرقه ومن حيث تولد ثانية تجربة جديدة للمجموع. وإذ يضاعف بوتيشللي وينوع الخطوط، مستخرجا هندسة النص، وكثافته، وتنقلاته، سائرا من تعددية كبيرة إلى توازن تقل كثافته بالتدريج وينتهي بأن يختفي، بقيام بوتشيللي بكل ذلك فقد أوضح بأنه من صفحة بيضاء إلى صفحة أخرى بيضاء، ومن وجه صفحة إلى ظهرها، يمكن للمسافة أن تكون مسافة العالم المكتشف في أبعاده القصوى. نفكر أيضا، لكي نختم، في هذه الجملة لأحد المعاصرين لدانتي، الراهب الدومنيكي، المختفي بعد إدانته من طرف الكنيسة- هذا في وقت كان فيه دانتي منفيا ومحكوما عليه بالإعدام من طرف الفلورانتيين-؛ وهذا الراهب هو إكهارت Eckhart الذي أذهلت مواعظه المكتشفة بداية القرن التاسع عشر هيغل Hegel:  “في هذا العالم أنا أكون ما كنت عليه، لا أزيد ولا أنقص، لأنني موجود هنا، علة ثابتة تقوم بتحريك كل الأشياء.” 1965   ترجمة:   محمد العرابي – ميسور- المغربالنص الأصلي  Philippe Sollers : Dante et la traversée de l’écriture; in  L’écriture et l’expérience des limites, Seuil 1968 ,p-p : 14- 47(*)- L’acqua ch’io prendo già mai non si corse:   L’eau où  j’entre jamais ne fut courue.  اعتمدنا في ترجمة هذا البيت الترجمة الفرنسية “للكوميديا الإلهية” المنجزة من طرف:  Lucienne Portier , les éditions du CERF , Paris , 1987, p :  368 (هامش المترجم)(1)- بالفرنسية، الصيغة الشهيرة لدانتي:   “les noms sont la conséquence des choses”  (هامش المترجم)(2)-   لغة oïl التسمية التي أطلقها دانتي بشكل عام على اللهجات المكونة للغة الفرنسية، بينما أطلق oc و si على اللغة الايطالية. (هامش المترجم)(3)- يعتمد كلوديل (في:Bulletin de la société) هذه الترجمة لتعريف دانتي للشعر:  “invention oratoire mise en musique”، وهي الصيغة المعتمدة هنا. (هامش المترجم)

_______________________
*مجلة نزوى

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *