*محمد الأسعد
في كتاب «الإبادة الثقافية» المترجَم إلى العربية حديثاً، للأكاديمي الأمريكي المتقاعد «لورنس ديفيد» (بعد أن مرّت على صدوره بالإنجليزية خمس سنوات) متابعة لموضوع لم تتعرف إليه الثقافة العربية إلا منذ سنوات قليلة، وبعد أن اجتاحت الإبادات الثقافية بلداناً عربية، مثل العراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن، اجتياحاً صارخاً، وبعد أن صدرت عدة كتب تتناول هذا الموضوع في اللغات الأجنبية. قبل ذلك كان الموضوع ينزوي تحت عنوان سرقة الآثار، أو نهبها، ولا يحظى باهتمام واسع على صعيد الرأي العام. ربما لأن الآثار كتراث ثقافي ظلت إلى عهد قريب، على رغم انتشار المتاحف، وتدريسها كمادة علمية في الجامعات، خارج نطاق الوعي الجمعي. وأتذكر أن فلاحاً عربياً من بلد تبلغ فيه التلال الأثرية الآلاف عدداً تفاخر أمامي ذات يوم أن محراثه اصطدم ذات يوم بعمود روماني، فسارع إلى طمره، بل صب عليه برميلاً من الأسمنت حتى لا تكتشف السلطات أمره، ويحدث ما لا تحمد عقباه! أي أن تستولي الدولة على الأرض، وتعتبرها منطقة آثار يجب حمايتها كما قال لي.
الآثار ليست إلا جزءاً من العناصر الثقافية المعرضة إما للسرقة أو التدمير، فالمكتبات والمخطوطات معرضة أيضاً لهذا المصير، وكذلك العناصر البشرية حاملة الخبرة التقانية والمعرفة العلمية، فهي مستهدفة إما بالاختطاف أو القتل اغتيالا كما تكشف بعد احتلال العراق، أول بلد عربي يتعرض لأبشع عملية إبادة جماعية وثقافية معلنة. ما حدث في العراق بعد العام 2003 لم يعد بالإمكان التستر عليه، فالكتب تتكاثر حول ما يمكن أن يُعدّ مأساة القرن الحالي الفريدة من نوعها. ويجد أي متابع كتباً في عدة لغات مثل «تدمير التراث الثقافي للعراق» (بالإنجليزية، 2008)، و«تدمير تراث العراق وتصفية علمائه» (بالعربية، 2008)، و«احتلال العراق وانتهاكات البيئة والممتلكات الثقافية» (بالعربية، 2013)، و«الاختراق «الإسرائيلي» للعراق بعد الغزو الأمريكي» (بالعربية، 2013).
***
وأنا أتصفح كتاب الأكاديمي الأمريكي، لفت نظري قوله منذ سطوره الأولى أن الإبادة الجماعية للبشر كانت تحدث طوال التاريخ الماضي، إلا أن الصدمة التي أحدثتها مذابح العصر الحديث تمنع الكثير من القوى العظمى من ممارسة التصفية الجسدية مباشرة خشية التعرض للضغوط، فاختارت الإبادة الثقافية كبديل أفضل من التصفية الجسدية. وفي ضوء هذه الفكرة تناول في عدة فصول متسلسلة ما يعتقد أنها إبادات ثقافية حديثة. في الفصل الأول تناول الأسس النظرية، أي أسباب الإقدام على تصفية الثقافات وإفنائها، وفي الفصل الثاني انعطف إلى إبادة سكان أمريكا الأصليين ثقافياً، وحلل في الفصل الثالث موقف روسيا القيصرية من الروس اليهود ومحاولتها احتواءهم والسيطرة عليهم، وانتقل إلى موضوعه الذي سبق وأن ألم بأطرافه؛ أعني فلسطين وما تعرضت له من إبادات متنوعة على يد الصهاينة وأنصارهم الغربيين، انتقلت من الاقتلاع من الأرض إلى الإبادة الثقافية، وأخيراً تعرض لعلاقة الصين بأراضي التبت التي اعتبرها علاقة هضم وامتصاص، قبل أن يختم ببحث الوضع القانوني المبهم للإبادة الثقافية في القانون الدولي.
وهذا الموضوع الأخير استحق منه الالتفات، لأن مصطلح «الإبادة الثقافية» لم يتخذ طريقه بعد إلى تشريعات الأمم المتحدة، مع أنه ظهر لأول مرة كما يقال في العام 1944 على يد أستاذ بولندي، وتم بسطه وإيضاحه بوصف الإبادة الثقافية جريمة تفقأ العيون، وظلت هذه المنظمة الدولية مترددة، تقدم على تبنيه تارة وتحجم تارة أخرى، وفي آخر مناسبة أخذته في اعتبارها مع إعلانها عن حقوق السكان الأصليين في مختلف البلدان في العام 2007، ووضعته بجوار مصطلح «الإبادة العرقية»، إلا أنها ألغته حين صاغت الوثيقة النهائية، واستبدلته بمصطلح «الإبادة الجماعية». وظل هذا هو الموقف حتى في ضوء النقد الموجه لهذا الإغفال والحديث عن الإبادة العرقية كبديل، وبالتالي إحداث خلط بين مفهوم «العرق» ومفهوم «الثقافة».
***
«الإبادة الثقافية» تكاد تكون ممارسة حديثة نسبياً كما يقول، ولكن عودة بالذاكرة إلى الوراء تظهر أن الإبادة الجماعية، أي إبادة الأجساد، والإبادة الثقافية، مارستهما القوى الاستعمارية معاً، في القرون الماضية وفي الأزمنة الحديثة على حد سواء. والشواهد ماثلة في الوقت الراهن، حيث تجند فرق موت وإلى جانبها فرق نهب وسلب، بعضها يتخصص بتدمير المساجد والكنائس، وبعضها بسرقة محتوياتها ومحتويات المتاحف والمجموعات الخاصة، الكتب والمخطوطات والمشغولات المعدنية والحجرية واللوحات الفنية وكل ما تطاله اليد، وبعضها يتخصص بملاحقة العلماء من مختلف التخصصات. وتذكر أخبار الأيام الأولى التي احتل فيها الغزاة الصهاينة القدس عسكرياً في العام 1967، أن سيارة سوداء تسللت وفيها عدد من اللصوص «الخبراء»، ووقفت أمام المتحف الفلسطيني، وهبط منها هؤلاء ودخلوا قاعات المتحف، كانت الغاية الاستيلاء على مئات المخطوطات المسماة «لفائف البحر الميت». ولحقت بها بالطبع مقتنيات المتحف الأخرى. تماماً كما حدث حين تسلل هؤلاء اللصوص أنفسهم تحت مظلة قوات الاحتلال إلى المتحف العراقي واستولوا على نفائسه، قبل أن يشرعوا أبوابه لتعمه الفوضى.
في كتاب حمل عنوان «الإبادة الثقافية في مناهج تعليم السود والأفارقة» صدر في العام 1972 للكاتب «د.يوسف بن جوشانان» (1918-2015)، سرد مطول لما جرى للأفارقة منذ استعبادهم في العالم الجديد طوال خمسة قرون تقريباً، وفي كتاب «القيثارة المحطمة: الهوية واللغة» للإيرلندي «توموس أوين» الصادر في العام 2014، يستعرض الكاتب عالم الأحياء هذا ما تعرضت له اللغة والهوية الإيرلندية من إبادة، كإحدى أكثر نتائج الاستعمار البريطاني المتعدد الوجوه خبثاً لشعب إيرلندا منذ القرن السادس عشر. وهناك كتاب مؤثر للكاتب الاسكتلندي «آلاستر ماكنتوش» عنوانه «روح وتراب» (2001)، يتناول فيه إبادة الثقافة الاسكتلندية بدءاً من الاحتلال البريطاني في القرن السابع عشر لآسكوتلندا، لغة وتقاليد وأقاصيص وتاريخاً، وتشريد الاسكتلنديين بعد الاستيلاء على أراضيهم وقتل المدافعين عنها، ومسيرة قوافلهم نحو الشواطئ وركوب السفن إلى المنافي البعيدة، في مشهد يذكر بتشريد الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم. ولعل كتاب «الإزيديين في العراق» للكاتب سعد سلوم الصادر في العام 2013 بثلاث لغات، العربية والإيطالية والانكليزية، أفضل برهان على أن قوى العدوان والهيمنة لاتستبدل نوع إبادة بنوع آخر، أو تمارس التفضيل تحت الضغط من أي نوع كان. فهؤلاء العراقيون تعرضوا لإبادة جماعية في منتهى الوحشية، وإلى سبي نسائهم وأطفالهم كآخر مبتكرات المحتل وفرق الموت التي نشرها تحت رايات مضللة وزائفة، واستهدفت، فيما استهدفت، ليس قتل الأجساد فقط، بل وقتل الأرواح أيضاً.
القتل الجماعي ترافق طوال تاريخه مع الإبادة الثقافية، أي إبادة الروح. بل عد عتاة الاستعماريين نجاحهم في الهيمنة وإخماد أي مقاومة رهين نجاحهم في تدمير المقومات الثقافية لأي أمة تقف في وجههم. وأثبتت تجارب مقاومة التسلط والغزو أن المتسلطين والغزاة لا ينتصرون ما داموا لم يستطيعوا كسر إرادة المقاومين، أي تدمير أرواحهم. ولهذا السبب ربما تكتسب كلمات صاحب كتاب «روح وتراب» قيمتها، حين يكتب «إن نجاح مقاومة ما أحدثه البريطانيون من خراب في اسكوتلندا، يتوقف على استعادة العلاقة بين الروح والتراب والمجتمع». والثقافة هي المؤهلة لإحداث المركب الفعال من هذه العناصر الثلاثة. تماماً كما تحدث المفكر الجزائري المقاوم «مالك حداد» حين علق شروط المقاومة والنهضة على الفكرة التي تحدث تركيباً من عناصر ثلاثة هي: التراب والزمن والإنسان.
الثقافة هي المركِّب ومن دونها تظل العناصر مشتتة، وبلا فاعلية. ونعتقد أن هذا هو ما يحرك قوى الغزو والعدوان في هجومها على عنصر الثقافة؛ أن تعجز عن القيام بمهمة إيجاد تركيب تتفاعل فيه قوى المجتمعات مع زمنها وترابها، فتظل مشتتة آيلة إلى التلاشي والانطفاء.
_______
*الخليج الثقافي