الصداقة مع الكتب

*ناجح المعموري

وأنا أقرأ كتاباً تذكرت كتاب “فن القراءة ” لبرتو مانغويل. أنها ليست قراءات مثل التي قد يتصورها أحدنا، أنها استيقاظات واستذكارات نشطة، تؤسس لها مدورات ذات صلة مع ما كان يقرأه، بحيث يستحضر كل ماله علاقة بالوحدات القرائية ويقترح لها مشتركاً سريعاً، ويؤسس ملمحاً بنائياً عميق التأثير. لا أريد العودة للبرتو مانغويل الذي ما زلت مأخوذاً به.

لكن علي حسين ضغط عليَّ. وهو بعيد عنيّ من اجل استحضاره مرة أخرى، وفعلاً سأحاول إعادة ما قرأت له. لكن صحبة علي حسين مع الكتب وصداقته مع المتماثل هو محور هذا المقال الذي سيحاول تأشير عدد من الملاحظات الخاصة. بنمط من القراءة ولا توجد قراءة تقليد متكرر من حيث الخصائص والعناصر، بل المتلقي يبتكر طريقته الخاصة والتي لن تكون لغيره، بل هي له ، يتميز بها وتقدمه أنموذجاً خاصاً وهذا ما صعد على السطح. وأنا أتابع ما كتبه علي حسين وليّ مخاوف، تشكلت منذ لحظة متابعتي لبعض مما نشره في صحيفة (المدى)، وتصورت بأنه يسجل أو هكذا مقتطفات من الكتب التي اطلع عليها.
كان استحضار البرتو مانغويل في كل ما كتب وترجم الى العربية يقود الى محاورة واضحة بينه وبين علي حسين ولا يعني هذا سطواً بل يتبدّى عن قدرة فنية لدى علي حسين للتجاور مع مانغويل. وليس سهلاً التوفر على إمكانات ثقافية لاستيعاب الشكل البنائي في كتابات مانغويل بـ ” فن القراءة” لأنها ليست سهلة بل هي بحاجة الى معرفة بالآلية وكيفية اقتراح شبكة من الوحدات الثقافية أو التاريخية، بالإضافة الى خبرة باستدعاء الذاكرة، وإيقاظ المنسي، من اجل تشكيل وحدات تتماثل عددياً مع الشخوص التي تستدعيها ذاكرة التدوين، ذات العلاقة المباشرة مع الاسم الحاضر أولاً. والذي يقترح الوحدات البنائية التي يريدها هو، واعني بذلك المقترحة من قبل الكاتب وعلى سبيل المثال، تحدث علي حسين عن سيكاسو، ولم يكتف به وحده لأنه يظل وسط حدود ضيقة، لا تحاصره فنياً، ولا يعطي تنوعاً فضائياً، يوفر له فرصة أوسع واكبر، كي يتمظهر قوياً، متميزاً، وعبقرياً، هذا ما تبدّى لي بين ثلاثة من أشهر الفنانين وهم سلفادور دالي وشاغال وبريجيت باردو.
يمثل كل واحد منهم سردية فنية خاصة، على الرغم من وجود تباين مع باردو، لكن وجودها البنائي كان مدهشاً ومثيراً، لأنها وضعت بيكاسو أمام مرآة كبيرة، تتسع كثيراً لتستوعب الآخرين، لكنها لا تفقد مركزها، وجوهرها الفني العظيم، عندما حضرت الى مطعم في باريس 1959 مع بيكاسو، وحضر رئيس وزراء فرنسا هنري كويويل وكان كل منهم يجلس على طاولة بين أصحابه ، وأراد رئيس الوزراء أن يدعو بريجيت باردو الى مائدته في نفس الوقت الذي أشار لها بيكاسو أن تنضم إليهم، فاختارت أن تذهب باتجاه طاولة الرسام. وتركت رئيس الوزراء حائراً ، فأرسل إليها ورقة فيها عتاب رقيق لأنها أحرجته أمام ضيوفه، فردّت عليه بنفس الورقة، أن فرنسا مرّ عليها الكثير من رؤساء الوزراء لكنّ هناك بيكاسو واحد لن يتكرر في تاريخها.
“مع صحبة الكتب” كتاب جديد في الثقافة العربية بسبب تنوعات الفصول المكونة من شبكة متماثلة مع المكونات تكشف عن وقائع مرتبطة بأسماء بارزة ومعروفة لنا، لأننا تعلمنا منهم الكثير، وساهموا بصياغة الملامح البارزة لشخصياتنا الثقافية. كما أن هذا الكتاب صعب في اختيار المطلوب توظيفه في الموضوع المحدد، لأن ذلك يستدعي التوصل الى كثير من المعلومات ومن بعد انتقاء الجوهري فيها. ودائماً ما تتبدّى لي دقيقاً لأنه يوفر شحنة معلوماتية جديدة . تعني الموضوع الخاص بشاغال مثلاً، أو سلفادور دالي أو كامو وسارتر. انه (الكتاب) ذاكرة تاريخية ذات محاور كبرى ثقافياً وأدبياً وإبداعياً. ليس سهلاً التمكن من انجاز مثل هذا الكتاب. لأن الوعي والخبرة الثقافية والفنية يعملان على تحقيق ذلك كما اعتقد بأن المهارة الفنية / البنائية لها دور جوهري بتقديم هذا الكتاب، الذي كشف عن عتبات الاهتمام بالكتابة الفنية وانعكاس الخبرة الصحفية بشكل واضح من خلال لغة سهلة / بسيطة، مرنة، مركزة، نجحت بتقديم توصيفات ذكية، متوترة وكأنها في مقاطع منها سيناريو فني.
قدم لنا الأستاذ علي حسين نصوصاً أدبية مثيرة، توفرت على ما لا يمكن التوفر عليه، تضمنت السردية الخاصة بالفنان بيكاسو سيناريوهات ومونتوجات مصاغة بدقة عن تصرفات شخصية للفنان وعلاقاته المتنوعة، التي جعلته جوهراً في تنوعات السردية .
لابد لي من الإشارة السريعة لأهم الملاحظات حول هذا الفصل الذي يمثل استهلالاً للسرديات الغفيرة، والتي انطوت على ما يجعل كل واحدة منها، متميزة عن الأخرى. ولعلَّ أكثر ما يميز سردية بيكاسو هي المرويات الهادئة جداً، والمتكتمة كما في الصفحة 19 والتي أبقت المعنى في المروية مخفياً، وتحولت مستدعية نوعاً من السببية بسبب خبرة علي حسين بالدراما. لكن المفاجأة. فتحت المغلق في السردية، وتبين بأن الذي استيقظ في العاشرة صباحاً، لم يقدر على القيام من سريره ، شعر بتعب مفاجئ وغريب، تذكر سنين حياته ويوم وصوله الى باريس معدماً وأيام الحرمان.
اتضح بأن بيكاسو هو الذي اختتم حضوره بعدما قطع التلفزيون الفرنسي برامجه، ليخرج الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو في وقت متأخر من الليل ومن على شاشة التلفاز ينعي الأمة الفرنسية غياب اكبر عظمائها، لقد مات بابلو.
لابد من ملاحظة الاسم الناقص وما يومئ له. المفردة الأولى بالاسم تكفي للتعريف به. وثانياً تفضي للغياب الفيزيائي. الموت الذي حط جناحيه فوق الفنان واختفى بيكاسو.
خيمت التراجيديا في هذا الفصل، مثلما تكرست كلياً على الفصل الخاص بكامو كتاب “في صحبة الكتب” جديد في ثقافتنا العربية، خزان متع القراءة ولذائذ الاندهاش.
وأراد أن يقول لنا ذلك، بشكل غير مباشر: لطالما اعتبرت الكتب كائنات حيّة بعد أن صادفت مؤلفين جدداً غيّروا حياتي قليلاً، فبينما أمرّ بفترة ارتباك ما، ابحث عن شيء لا استطيع تحديده، إذا الكتاب معين يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق يحمل بين دفتيه الأسئلة والأجوبة التي أفتش عنها / الممثلة ليف أولمان من مذكراتها “التغير”. يقدم هذا المقطع الطويل بعض الشيء توصيفاً ثقافياً عن شخصية علي حسين وعلاقته مع القراءة. والمجاورة مع ليف اولمان واضحة، لأنه اعتبر الكتاب والأدباء جزءاً حياً من تجربته كذلك الكتب التي اطلع عليها وصاغت ذاكرة تاريخية لمراحل تطوره الاجتما ـ ثقافي، وبروز ملامحه الفكرية ومكوناته المعرفية . وكشفت هذه الفصول التي كنت متحفظاً على بعض منها عندما نشرتها (المدى) عن تصورات فيها إثارة ودهشة، لأنها من غير الممكن أن تتوفر لشخص آخر غير علي حسين. التاريخ حاضر، الذاكرة ، تفاصيل الثقافة وتكونات العلاقة المشتركة بين الجماعات.
اعتقد بأن علي حسين لم يذهب كثيراً للحديث عن هذه التجربة بل اكتفى بما هو مركز جداً ، للكشف عن ذاكرة طفولته وفتوته الثقافية وتعرفه على مراكز في التربية والتأهيل الثقافي والفني والدنو أكثر من المعرفة والجمال. وكل من يقرأ هذا الكتاب سيجد مساحة المشترك الواسعة مع علي حسين، لأننا أبناء جيل واحد، تماثلت مصادرنا الثقافية والتباين فيها قليل.
تضمن كتابه المهم “في صحبة الكتب” بعضاً مهماً من سيرته الثقافية والفنية، وهي مهمة، وتنطوي على بلاغة كاشفة عن حيوية الجوهر، الذي تجاورنا حوله وتعلمنا منه، كذلك أضاء جانباً حيوياً، عن الخفي من السيرة، التي لا نعرف عنه شيئاً ما عندما قال:
صداقاتي كانت تحمل في جوهرها علاقتي بالكتب، أصبحت الكتب هي محور حياتي، وعندما اخترت العمل في الصحافة لتكون مهنتي دخلت إليها وأنا مقتنع، بأنني سأشارك القراء هذا الشغف والحب للكتاب، وبصرف النظر عن أي شيء آخر يمكن أن أقدمه للقارئ فإن بإمكاني أن امنحهم الحماسة لحبّ الكتاب ؟
لم يستطع الأستاذ علي حسين التكتم على مصادر وعيه وعناصر ثقافته الفكرية وعتبات صداقته مع ابرز الأسماء الأدبية والإبداعية والفكرية، لأنه واضح ومكشوف، عبر الفصول التي كتبها بمحبه وولع يتماثل مع المبدع لحظة كتابته، لعمل قصصي أو شعري. والمقدمة القصيرة التي تصدرت كتابة أضاءت مؤثرات واضحة عليه والدليل ما قاله مكسيم غوركي: هذه الكتب غسلت نفسي وأزالت عنها ما علق بها من أقذار الحقيقة المريرة المؤلمة، أدركت الآن قيمة الكتب العظيمة وأدركت أيضاً مدى ضرورتها لي وعدم استغنائي عنها، فقد أثارت الكتب في نفسي شيئاً فشيئاً ثقة لا تتزعزع وهي أني لم اعد وحيداً في هذا العالم، وإني سأشق لنفسي درباً في الحياة.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *