محمود درويش . . السيرة الشعرية

خاص- ثقافات

*ناصر سالم المقرحي

ليس هنالك ما هو أجمل من أن تقرا شعر محمود درويش إلا أن تقرأ نقدا عن شعر محمود درويش , وليس أي نقد قادر على أن يضيف إلى شعر محمود درويش ما لم يكن كاتبه متمكنا من صنعته ماهرا في اصطياد لآلئ النص والغوص في بحر جمالياته , وليس هنالك من هو أكفأ وأمهر من الناقد المصري الدكتور صلاح فضل للتصدي لهذه المهمة وهو من القلة المشهود لها بالبراعة والتمكن من النقاد , وإذ نجد أنفسنا إزاء كتابه الموسوم ب ” محمود درويش . . حالة شعرية ” الصادر عن منشورات مجلة دبي الثقافية العام 2009 والذي يتكون من حوالي مائة وخمسون  صفحة من القطع الصغير والمخصص بالكامل لاستجلاء وتأطير المُنجز الشعري للراحل محمود درويش والذي اشتغل فيه الباحث من منطلق حبه لشعر درويش وعشقه له لتميزه وفرادته , وهذا ما اجتهدت القراءة الموسعة في إثباته وتعزيزه مع كل صفحة من صفحاتها , إذ نجد أنفسنا أمام هذا المُنجز النقدي لابد من أن يحرك فينا ما ركد , وزاد من تألق الدراسة ومتعتها , تخفف صاحبها وهو المتخصص في النقد الحديث والحامل لدرجة علمية معتبرة في هذا الصدد من تلك الصرامة الأكاديمية التي وتبعا لجديتها ولا مهادنتها قد تتسبب في إعطاب النص وتفريغه من جمالياته , وبكثرة مصطلحاتها ومفاهيمها لا تتماس مع اللغة البسيطة التي يتغياها النقد الأنطباعي الملائم لكل الذوائق والمستويات والقادر من جهته على الإضافة للنص المقروء , وكونه خطابا أدبيا هذا النقد بمكنته أن يكون إبداعاً من منطلق إبداع آخر سابق له , وعبره قد يبدع الناقد نصه الخاص والموازي للنص المنقود أو وضع إبداع على الإبداع , وهذا هو تقريبا ما فعله صلاح فضل في هذا الكتاب فبالإضافة إلى متعة قراءة النقد والتحليل العميق لقصائد الراحل والأجزاء المُستشهد بها من قصائده التي اجتزأها الناقد وحللها  تبرز متعة قراءة الدراسة كمُنجز إبداعي بمعزل عن ما يتناوله ولا يقل جمالا عنه , ولا أتصور أن الناقد صلاح فضل قد غفل عن هذه النقطة عند اشتغاله النقدي وإلا لما كتب بهذه الحيوية اللغوية ولما تخفف من الصرامة الأكاديمية , وأعتقد حقا أن صلاح فضل أراد لنقده أن ينحو هذا المنحى الفني , والذي سيلاقي صدىً وانتشاراً أكثر مما سيلاقيه لو أنهُ اتبع فيه منهجا تحليلياُ من تلك المناهج التي يتعذر على القارئ العادي غير المتخصص التواصل والتفاعل مع استنتاجاتها مثل التفكيكية والبنيوية وغيرها والتي يتم تداولها داخل الجامعات والمراكز العلمية المتخصصة .
ولعلنا هنا ومن هذه الزاوية نلج الكتاب الذي قال فأوجز وحلل فأشبع الذوائق كلها وقرأ فأغنى عن الكثير واختصر حين ركَّزَ على أهم ملامح هذا الشعر وخصائصه الفنية , وهي القراءة التي لا شك في أنها ستعين القارئ لشعر محمود درويش على تمثله واستيعابه , لا بل الوقوف على خصوصيته وفنيته العالية  وشعريته الغامرة وقدرته كخطاب متجدد على توليد الإيحاءات ورسم الصور وتجريد الواقع بحرفية ووعي , وسيكتشف المتتبع من خلال هذا المبحث أيضاً أن الشاعر تعامل مع الشعر بجدية طوال عمره وبوعي وبمسئولية وأعطاه تقريبا كل ما يملك من وقت ومال وصحة وبدوره لم يبخل الشعر على الشاعر بشيء من جماله وبادله عطاءً بعطاء ومناً بمن وعشقاً بعشق إلى حد أن الشاعر ذو القلب المعطوب والمريض , والذي خذل صاحبه في النهاية وأسلمه للموت , إلى حد أن الشاعر اتخذ من الشعر كشافا وضوءً – أو هذا ما نتصوره – ليعبر به عتمة الوجود وما من تجربة شخصية مريرة عاشها الشاعر مثل مرضه وتهجيره قسرا وشعوره بالأغتراب إلا ووجد في الشعر معينا على تجاوزها أو تقبلها والتعايش معها على الرغم من قسوتها , والشاعر ذهب إلى أبعد من ذلك واتخذ من الشعر طريقة حياة ونمط معيشة يومي والدليل هو ما بقي من الشاعر بعد رحيله وانتهاء مُنجزه بالموت , فكثيرا كما نتصور ما كتب الشاعر يومياته بالشعر وقصائده اللصيقة بحياته وأشياءه اليومية تشهد بهذا  .
الكلام لا ينتهي عن محمود درويش وشعره وبالعودة إلى الكتاب المذكور وبتتبع صفحاته نقرأ , بعد مقدمة  كل من رئيس تحرير مجلة دبي الثقافية الصادر عنها الكتاب ومدير تحريرها المُختصرتين , نقرأ بقلم الناقد نبذة وافية ومستفيضة لحياة درويش منذ ولادته وحتى وفاته مرورا بنزوحه عن قريته ومعاناة الأقتلاع من الجذور والهجرة إلى لبنان ومن ثم العودة متخفيا إلى قريته التي صارت أثراً بعد عين جراء محوها من قبل المحتل ودراسته الأبتدائية والثانوية ومغادرته للقرية التي استقر بها إلى مدينة حيفا أين انضم للحزب الشيوعي الأسرائيلي وعمِلَ بالصحافة والكتابة وترأس تحرير عدة صحف ومجلات وخضوعه للإقامة الجبرية وتقييد الحرية ثم الأنتقال إلى مصر حيث سبقه صيته  كشاعر إلى هناك وشهرته التي أسهم في تأسيسها الناقد المصري رجاء النقاش الذي كتب عنه كثيرا وقدمه للوسط الثقافي , وكان قد استقر قبلها لمدة عام في موسكو , ومع التضييق الذي شهدته مصر على مثقفيها  بصعود انور السادات إلى سدة الحكم لم يكن هنالك بد من المغادرة , وكانت الوجهة هذه المرة إلى باريس التي قضى فيها العشر سنوات اللاحقة , وتردد كثيرا على تونس قبل أن يتناوب الإقامة ببيتيه أواخر حياته في رام الله وعمان , وطوال هذه الرحلة ما انفك الشاعر يكتب ويسهم في إصدار المجلات والصحف الثقافية ويمارس بعض الانشطة السياسية ويشارك في المؤتمرات والندوات الأدبية , والأهم من كل ذلك محافظته على نسق متصاعد شعريا تشهد به إصداراته الشعرية المتتالية والغزيرة , وبين الإقامة والترحال ما فتيء الشاعر يرفد تجربته بالجديد والمتميز والمُثير , ولكونه مارس الشعر بوعي ومسئولية لم يغيب عن ذهنه يوما التعاطي معه بجدية والعمل الدؤوب على تنمية قدراته بالقراءة والتأمل والتحول من أسلوب شعري إلى آخر وتنويع تقنيات الكتابة الشعرية وتشكيل رؤى جديدة وطرق أبواب أخرى واكتشاف مناحي بكر , أما خلاصة كل هذه الحياة الصاخبة والممتدة أفقيا وعموديا على مستوى الواقع والكتابة فهي ثلاثون ديوانا شعريا وبعض الكتب النثرية والسير والرسائل .
بعد هذا المفتتح يصل الناقد صلاح فضل إلى لب الموضوع وبؤرة المنال وهي شعر درويش , وتحت عنوان ” شعرية العشق ” في الفصل الأول كتب عن بدايات درويش وتأثره بغيره ممن سبقوه من الشعراء , وسرد قصة اكتشافه التي أتت بالمصادفة أثناء تواجد الناقد في إسبانيا وإعجابه الشديد بنبرته المتحدية وخطه النضالي الذي افتتح به تجربته الشعرية وأسرت الناقد تحديدا قصيدة ” سجل أنا عربي ” وتحدث عن تحولات شعر درويش الذي انتقل بالقصيدة أو انتقلت به القصيدة – الأمر سيان – من تلك المباشرة والغنائية الصاخبة إلى رصانة المتنبي , إلى القصيدة الملحمية البطولية إلى القصيدة الرؤيوية والدرامية متعددة الأصوات إلى القصيدة التجريدية التي لم يلبث بها طويلا وأخيرا القصيدة التأملية التي تتناول أسئلة الموت والحياة والوجود والمصير .
ورصد الناقد صلاح فضل بحسه النقدي رمزية شعر درويش وأهم رموزه التي وظفها في قصائده وتحدث عن ذلك التواطؤ الجميل ما بين الشاعر وقارئه فيما يخص رمزية شعره إذ لم تكن القصيدة منغلقة على قرائها كما يتصور البعض , بل أنها لم تتخلى عن بث إشارات وعلامات دالة وتقدم مفاتيح لفهم معانيها , وهذا ما عنى به التواطؤ ما بين الشاعر وقارئه .
وفي ظل تتبعه لتقنيات درويش الشعرية التي استثمرها في قصيدته تحدث الناقد عما أسماه  حداثة الشاعر التعبيرية وعن طابعه السردي الغنائي الذي برز خاصة في ديوان ” لاعب النرد ” واستشهد بقصيدة قصيرة عنوانها “المقهى والجريدة ” التي بقدر ما هي مباشرة وبسيطة كقصيدة نزار قباني عن المقهى والجريدة , هي عميقة وطازجة حين ارتبطت بحالة وجدانية وفرحة سرية عايشها الشاعر قبل أن ينجح في اقتناصها بالكلمات في هيئة شعر طازج وندي وحيوي , والشاعر يبدو فيها مغتبطا بوحدته سعيدا بعدم انشغاله بشيء مستسلما للكسل اللذيذ وحرية ألا يرتبط بأمر أو أن تكون وحدته مهددة فما أجمل أن تكون منسيا من الجميع  .
مقهى وأنت مع الجريدة جالس
لا , لست وحدك , نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني . .
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا ترى ( إحدى صفات الغيب تلك \  ترى ولكن لا ترى )
كم أنت حر أيها المنسي في المقهى ,
فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك
لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك
أو يدقق في ضبابك \ إن نظرت إلى فتاة وانكسرت أمامها
كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي \ فاصنع بنفسك ما تشاء . .
فأنت منسي وحر في خيالك \ ليس لأسمك أو لوجهك ها هنا عمل ضروري .
ليخلص الناقد في هذا الفصل إلى أن جمال الشعر يكمن في قدرته على التخفف من ثقل الأيديولوجيا والأرتفاع إلى أفق إنساني محض ليصبح رمزا وأسطورة وشهادة على قدرة الإبداع على الأرتقاء بالحياة بشكل عام .
وعبر الفصل الثاني من الكتاب والذي ضم عدة مقالات متفرقة يجمع بينها شعر درويش نقرأ مقالا عن أهم خصائص شعره مع التركيز على خصيصة الغنائية التي استشهد برأي الشاعر فيها حين قال :-
” أنا منحاز للغناء في الشعر , إن المناخ الإنساني الحزين يقتضي دائما الشفافية في التعبير وأحيانا لا أجد هذه الشفافية إلا في الغناء ” , ثم وتحت عنوان ” من البراءة إلى الخطر ” وهي الجملة التي تختصر تحولات شعر درويش في تصوري وحرفا حرفا وكلمة كلمة تقريبا يتتبع الناقد بكثير من الصبر والروية والتمعن قصيدة ”  سجل أنا عربي ” وقام بتحليلها من الناحيتين السياسية والأدبية متقمصا ذات الشاعر حين قالها كاشفا عن دوافع قولها وبهذه النبرة الحادة واللهجة الشديدة الوقع وفي سياق تحليله لم يترك الناقد سطرا إلا وأشبعه تأويلا وافتضاضا لدلالاته وتكثيفا لمعانيه وإضاءة لجمالياته بشكل أضاف للقصيدة وقربها إلى حد بعيد من ذائقة المتلقي بل أنه لم يترك لها شيئا لتقوله حين استنطقها حتى آخر حرف واعتصر جمالياتها حتى أخر نوتة وعطر , والأكثر أهمية من كل ذلك أن القراءة ذاتها ظهرت كما لو أنها قصيدة موازية أو إبداع آخر يسير بالتوازي مع الإبداع الأصلي , ومثلما استمتع القارئ بالنص الشعري أتصور أنه استمتع بالنص النقدي , أو هذا ما حدث معي على الأقل ! ! .
” الخروج إلى شكل آخر ” هو عنوان مقال أخر عن شعرية محمود درويش ضمه الفصل الثاني من الكتاب وتناول فيه الناقد تبدلات شعر محمود درويش وتمرده المتواتر على أشكاله القديمة واستحضر لتأكيد وعي التحول بأقوال للشاعر تؤيد ذلك وتعززه لينطلق إثر هذا وبلا هوادة كعادته في تحليل لقصيدة ” كتابة على ضوء بندقية ” حيث يأخذنا الناقد في تطواف جميل وقراءات ذكية لتفاصيلها ولا يكتفي بذلك بل أنه يذهب إلى أبعد منها ليقاربها ويخضعها لبعض الأحكام النقدية والآراء الحديثة ولا يتوقف إلا بعد أن يحللها مقطعاً مقطعاً وسطرا سطرا بشكل وضع الإصبع على الكثير من جمالياتها المخبوءة ودلالاتها الغامرة وبطريقة جعلت محمولاتها الفكرية والفنية ظاهرة ومكشوفة للمتتبعين .
” أنبهام الرؤية وتشذر التعبير ” هو عنوان آخر كتب تحته الناقد عن التجريد والإبهام والغموض وهو الأمر الذي عده الباحث شيئاً كامنا في جذور الشعر ولم يأتي من خارجه كما يتوهم البعض  ومرتبط ارتباطا عضوياً بطبيعته واعتبرهُ طريقة لضخ روح جديدة في الشعر كلما قاربت روحه على الأنطفاء ومنفذ للتملص من التكرار والجمود , وبعد مقدمة تمتدح الغموض وتبين أهميته للشعر وبعد الأستشهاد بآراء وأحكام بعض النقاد ومن هذه الزاوية يختار الناقد نص غير معنون ورد بهيئة رباعيات في ديوان ” أرى ما أريد ” الصادر عام 1990 وطفق يواءمه لمعتقداته النقدية من ناحية اللغة والبنية النحوية والتعبيرية , حتى أنه تحدث عن ضرورة إغماض العينين وإرهاف السمع لتمثل رؤية الشاعر واقتفاء دلالاته المتولدة عن الغموض الذي تمارسه قصيدته عن عمد بهدف تفجير رؤاها وتكثيف حضورها واستنطاق التخييلي فيها , كل هذا مترافقا بالرباعيات المذكورة حتى تتضح الرؤية أمام المتلقي وتترسخ الفكرة المراد إيصالها له , هذا بشأن التجريد الذي انتهجته قصيدة درويش لضرورات فنية تجريبية تجديدية بهدف إثراء التجربة وفتح مسارب أخرى أمامها  .
” قراءات نصية. . حالات الشعر والحصار ” تحت هذا العنوان يوغل بنا فضل في ديوان ” حالة حصار ” وينبهنا للشعري فيه وإلى النضالي وإلى صلته بالواقع الذي ينطلق منه ليضرب بجناحيه في سماء الإبداع وقبل ذلك يزيل غفلتنا وسهونا عن حالة اللغة التي يعدها المسئولة عن النهوض بالتعبير .
هناك عند منحدرات التلال
أمام فوهة الوقت
قرب بساتين مقطوعة الظل
نفعل ما يفعل السجناء
وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل
بلاد على أهبة الفجر
صرنا أقل ذكاء
لأنا نحملق في ساعة النصر !
لا ليل في ليلنا المتلألئ بالمدفعية
أعداؤنا يسهرون
وأعداؤنا يشعلون لنا النور
في حلكة الأقبية .
هكذا وعبر هذا المقطع يأخذ بيدنا الناقد صلاح فضل صوب تجليات الشعر وتراكيبه المدهشة نحو نتاج المخيلة العفية , هكذا ليرينا جمال الصور ونقاء الجُمل التي تعمل عمل الشرارات داخل الشعر وتقدح ناره وسط الظلام وإذ تفعل ذلك لا بد من أن تشدنا إليها بسيور متينة وتعيننا على التركيز وتجنبنا السهو .
قرب بساتين مقطوعة الظل , نربي الأمل , بلاد على أهبة الفجر , لا ليل في ليلنا المتلألئ بالمدفعية , جُمل كهذه تؤدي دورها في القصيدة على أكمل وجه ولا تكتفي بذلك إذ توحي إلينا زخرف المعنى وتهدي لنا لآلئ التأويل , جُمل وصور تقول وترسم , إذ يبشر الشاعر بالفجر القادم لشعبه الذي يربي الأمل جيلا بعد جيل ويستمد من ظلم أعدائه وقودا لينير قناديل المستقبل , هكذا الناقد يستفزنا لقراءة النص والغوص في تفاصيله الظاهرة والباطنة ويستحثنا لفعل ذلك , وهذا هو هدف النقد في تصورنا وأعلى ما يمكن أن يرتقي إليه من جمال وجدوى وإلا فما نفع النقد إن لم يفتح للقارئ مسارب أخرى غير مطروقة ويهبه أجنحة للتحليق ويساعده على تذوق النص التذوق الأمثل , ما جدوى النقد إن لم يفعل كل هذا واكثر إضافة إلى تبيان أوجه القصور والخلل ان وُجِدت .
” قصيدة درامية شاملة ” هكذا وتحت هذا المسمى يلج الناقد شعر درويش من زاوية مغايرة وهي حظ الدراما فيه أو ذاك الإستحضار الواعي للشخوص وإدخال الحوار في بنية القصيدة والأهم من ذلك رسم السيناريوهات التي قد لا تخطر على بال شاعر وممارسة لعبة الأحتمالات داخل السيناريو ذاته بحيث لا يغدو مجرد سيناريو يضعه شاعر عابر , حين يكون منفتحا على الخيال مستثمرا عنصر المفاجأة والمفارقة حتى أن القارئ تعجبه واقعية السناريو رغم عدم منطقيته , فها هو ذا من موقع المقتول يخاطب القاتل في عقر إنسانيته ويستنهض فيه ما مات من مشاعر , والقاتل هنا هو المحتل والغاصب .
” إلى قاتل ” لو تأملت وجه الضحية
وفكرت
كنت تذكرت أمك في غرفة
الغاز , كنت تحررت من حكمة البندقية
وغيرت رأيك , ما هكذا تُستعاد الهوية  .
وإذ يحصر القاتل في زاوية ضيقة ويحاصره بالشعر ويطرح أمامه السيناريو المحتمل المبلبل والمشوش لعقله يكون الشاعر قد أدى شيئا من دوره النضالي .
” إلى قاتل آخر ” لو تركت الجنين
ثلاثين يوما إذاً لتغيرت الأحتمالات
قد ينتهي الأحتلال
ولا يتذكر ذاك
الرضيع زمن الحصار
فيكبر طفلاً معافى , ويصيح شاباً
يدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك
تاريخ أسيا القديم
قد يقعان في شباك الغرام
وقد ينجبان إبنة ( وتكون يهودية بالولادة )
ماذا فعلت إذن ؟
صارت ابنتك الآن أرملة
والحفيدة صارت يتيمة !
فماذا فعلت بأسرتك الشاردة
وكيف أصبت ثلاث حمائم بالطلقة الواحدة .
ومن الواقع ينطلق الشاعر في سيناريوهاته ليحط فوق أرض الخيال مستثيراً مخيلة قارئه حاثاً إياه على التحليق بصحبته في أفاق أخرى لا تخطر له على بال .
” لمسات الحداثة ” هو عنوان فرعي أَخر , وهنا يكشف الناقد عن حداثة خاصة بدرويش ذلك لان الحداثة ارتبطت على الدوام بغياب الموضوع في القصيدة وتشتت الدلالات وانفتاح النص على اللا محدود واللا متعين , ودرويش كما يبين الناقد , حداثي مع ان موضوعات قصائده محددة ومتعينة ومن خلال نص قصير لدرويش يسوقه الناقد يكشف أوجه حداثته والمتمثل في اللفتات التعبيرية والإسنادات المجازية وهما الوسيلتان القادرتان على خلق توتر الحالة الشعرية وإكسابها ذاك القلق والعمق المطلوبين , فالشاعر يستثير في حارس سجنه الحساسية الإنسانية ويستفز فيه ما تبقى من ضمير , إنه يذكره بأن ثمة وجه مختلف للحياة غير هذا الذي يعرفه , فبإمكانه مثلا أن يصفر لحنا شجيا وبمقدوره أن يرحل مكللا بالياسمين , والشاعر هنا يوقظ في السجان انسانيته المهدورة والمغيبة ويحاول ان يحرر روحه مما يكبلها ومما علق بها من آثام , فقط لو انصت السجان وأرهف وجدانه , فلنستمع للشاعر وهو يُذكِّر إن نفعت الذكرى .
( إلى حارس ) سأعلمك الأنتظار
على باب موتي المؤجل
تمهل , تمهل
لعلك تسأم مني
وترفع ظلك عني
وتدخل ليلك حراً
بلا شجن
( إلى حارس آخر ): سأعلمك الأنتظار على باب مقهى
فتسمع دقات قلبك أبطأ , أسرع
تمهل
لعلك مثلي تصفر لحنا يهاجر
أندلسي الأسى
فارسي المدار
فيوجعك الياسمين وترحل .
ثم يقترح درويش شاعر القضية على غريمه سلام متكافئ سلام الشجعان كما يقال , هذا ما بينه الناقد تحت عنوان فرعي آخر هو ” سلام الشعراء ” فالسلام الذي يريده الشاعر ويسعى له عبارة عن :-
سلام من يشاطرني الأنتباه إلى
نشوة الضوء , ضوء الفراشة في
ليل هذا النفق ؟!
ذلك لأن السلام من وجهة نظر الشاعر بسيط وواضح ف . .
السلام كلام المسافر في نفسه
للمسافرين في الجهة الثانية
السلام حمام غريبين يقتسمان
الهديل الأخير على حافة الهاوية
السلام اعتذار القوي لمن هو
أضعف منه سلاحا وأقوى مدى
السلام انكسار السيوف أمام الجمال
الطبيعي . حيث يفل الحديد الندى .
يختار الناقد ديوان ” كزهر اللوز أو أبعد ” ليرصد طرفا من ملامح تصاعد حركة الشعر العربي واقتحامه لفضاءات جمالية أبعد واتِباعه لأساليب تجسد روح العصر من قبل ثلة من الشعراء في مقدمتهم درويش صاحب القصائد التي تنحو إلى تشعير لحظات الحياة والأرتفاع بها عن الواقعي , وطغيان السرديّ والغنائي على القصيدة هنا والتي تتخذ نبرة الفرح أحيانا وتتبنى تلك اللذائذ السرية التي يحرص عليها الشاعر وخير مثال على هذا التوجه الجديد هو قصيدة المقهى والجريدة التي سبق الحديث عنها في الكتاب وفي هذه المقالة , حيث الشاعر وهو المشهور يجلس وحيدا في مقهى لا يعرفه فيه أحد مستمتعا بوحدته ملتذاً بعزلته فرِحاً بكونه حرا ومنسيا من الجميع لا أحد يقتحم عليه خلوته ولا أحد يلوث فراغه ويقطع عليه حبل تأملاته أو يكبح خياله المسافر فالشاعر هنا في حالة هي اقرب إلى حالات الصوفيين والشاعر هنا منخطفا من ذاته متحدا بالمطلق ولا يربطه بهذا الواقع إلا خيط أثيري رهيف حتى يعود من رحلته التي ترتقي إلى أبعد مما هو طيني محدود , الشاعر هنا طيف أو خيال يسري ما بين الأكوان في خفة لا يضاهيها إلا خفة الشعر إذ يداهم الشاعر ويجتث سهوه .
وفي إطلالة أخرى على ديوان ” لا تعتذر عما فعلت ” ينير لنا الناقد شيئا مما علق به من شعر طازج والذي لا يعده الشاعر إلا صدىً لكلام آخر أبعد غورا في الزمن متنصلاً من فكرة التفاخر والإستعلاء والغرور مُحيلا إلى فكرة الإلهام في الشعر .
يختارني الإيقاع
يشرق بي
أنا رجع الكمان ولست عازفه
أنا في حضرة الذكرى
صدى
الأشياء تنطق بي فأنطق .
ولربما قصد الشاعر من كلامه هذا أنه مجرد صوت تنطق به الحياة لأن ليس لديها صوت تستعين به لقول ما يجول في خاطرها ولأن لا لسان لديها لتقول ما تبتغي قوله والبوح به .
ومن ديوان أثر الفراشة ينتقي الناقد عدة نصوص ويخضعها لتحليلاته وأول هذه النصوص نص ” البنت \ الصرخة ” الذي يقول فيه الشاعر :-
على شاطئ البحر بنت , وللبنت أهل
وللأهل بيت , وللبيت نافذتان وباب
وفي البحر بارجة تتسلى
بصيد المشاة على شاطئ , البحر
أربعة , خمسة , سبعة
يسقطون على الرمل
والبنت تنجو قليلاً
لأن يدا في الضباب
يداً إلهية أسعفتها
فنادت أبي
يا أبي قم لنرجع , فالبحر ليس لأمثالنا
لم يُجبها أبوها المسجى على ظله
في مهب الغياب
دم في النخيل , دم في السحاب
يطير بها الصوت أعلى وأبعد
من شاطئ البحر
تصرخ في ليل برية , لا صدى للصدى
فتصير هي الصرخة الأبدية في خبر عاجل
لم يعد خبراً عاجلاً
عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتا بنافذتين وباب .

وإذ كان للكلام السابق معنى حرفي يحيل إلى تلك الحادثة أو بالأصح الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ذات عام في حق عائلة فلسطينية في غزة كانت تصطاف على الشاطئ فقامت بارجة حربية بقصفها وقتل أفرادا منها , إذا كان الكلام يحيل إلى تلك الجريمة البشعة التي سكت العالم عنها كما سكت على الكثير من الجرائم قبلها فإنها – إي القصيدة – جعلت من البنت التي صارت تذهب وتجيء على الشاطئ وتتنقل من جثة إلى أخرى صارخة ومصدومة جعلت منها رمزا لظلم الاحتلال ولعنجهية الآلة الحربية وغطرستها مقابل شعب أعزل إلا من إيمانه بقضيته وجعلت من القتلى أبطالا وشهداء ومن القضية مسألة موت أو حياة ومن الغزاة جبناء ومتخاذلون خائفون وإلا لما فعلوا ما فعلوا , وقديما قيل احذر ضربة الخائف أو الجبان لأنها في العادة لا تكون موزونة بل انها قد تكون قاتلة بعكس ضربة الشجاع الواثق التي قد تكون فقط للترهيب وإبعاد الخطر , وضرب اسرائيل هو ضرب الخائف الرعديد .
ثم يمسك الناقد بأهم خصيصة من خصائص شعر درويش ليضيئها من الداخل ومن الخارج , وهي السمة التي اختصرت شعره وشغلت تفكيره السنوات الأخيرة من حياته , كما لو انه أحس بدنو أجله طفق يعابث الموت تارة ويسخر منه تارة أخرى ويهادنه مرات في جداريته وفي قصيدة ” لاعب النرد ” أما هنا في قصيدة ” بقية حياة ” فاختار كما يبدو ان يستسلم له بعد أن امتلأ بأسبابه وظن أنه غير ناجٍ منه ولا مستثنى من الأنسحاق تحت جنازيره .
فها هو بلهجة الحكيم والمذعن الذي لا يرى جدوى من المعارضة والأحتجاج ولا زال يحتفظ بكامل هدوئه واتزانه يقول عبر سيناريو مُحكم قد يحدث أو لا يحدث كما لو أنهُ محكوماً بالإعدام :-
إذا قيل لي : ستموت هذا المساء
فماذا ستفعل فيما تبقى من الوقت ؟
أنظر في ساعة اليد
أشرب كأس عصير
وأقضم تفاحة
وأُطيل التأمل في نملة وجدت رزقها
ثم أنظر في ساعة اليد
ما زال ثمة وقت لأُحلق ذقني
وأغطس في الماء
أهجس !
لابد من زينة للكتابة
فليكن الثوب أزرق
أجلس حتى الظهيرة حياً إلى مكتبي
لا أرى أثر اللون في الكلمات
بياض بياض بياض .
يأخذ الشاعر نفساً ثم يستأنف حديثه الذي قطعه الناقد بتحليلاته :-
أعد غذائي الأخير
أصب النبيذ بكأسين : لي
ولمن سوف يأتي بلا موعد
ثم آخذ قيلولة بين حلمين
لكن صوت شخيري سيوقظني !
ثم انظر في ساعة اليد
ما زال ثمة وقت لأقرأ
أقرأ فصل لدانتي, ونصف معلقة
وأرى كيف تذهب مني حياتي
إلى الآخرين ولا أسأل عمن سيملأ نقصانها
هكذا ؟
هكذا !
. . ثم ماذا ؟
أمشط شعري
وأرمي القصيدة
هذي القصيدة
في سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا
وأُشيع نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا
ثم أمشي
إلى المقبرة .
هكذا بهدوء وبلا صخب يكتب الشاعر نهايته , مع الموت الذي لم يعد مرعباً ومخيفا بل كأئن لطيف وأليف كانه صديق مقرب .
يمضي الناقد فيما تبقى من صفحات الكتاب الخمسة عشر في إخضاع بعض قصائد ديوان أثر الفراشة للقراءة النقدية الواعية التي ما انفكت تمارس فعل الإغواء تجاه القارئ وتحثه على الغوص في ثنايا وتعرجات شعر درويش وتذوق جمالياته , فيحلل قصائد ” أغتيال ” و ” ربيع سريع ” و “صيف وشتاء ”  حتى يصل مربط الفرس وهو قصيدة أثر لفراشة ثم مقاطعه الشعرية والنثرية ثم ” في صحبة الأشياء ” و ” خيالي كلب صيد وفي ” .
ثم لقصيدة ” لاعب النرد ” يخصص الناقد ثلاث مقالات قصيرة جاءت بعناوين ” محمود درويش لاعب النرد ” و ” بطاقة الختام ” و ” الوحي اجتهاد ” وفي كل ما تناول الناقد وحلل واختار قدم إضاءات مهمة وساعد إلى حد كبير في ترجمة جماليات قصيدة درويش وإظهار سماتها الفنية ومواطن قوتها , ولا ريب في أن هاته الشروحات التي وضعها الناقد على هامش القصائد ستفيد كثيرا من القراء العاديين مثلما ستفيد المختصين والضليعين في النقد والشعراء على السواء لجمال خطابها في المقام الأول ولموضوعيتها ولتخففها من النبرة الأكاديمية الصارمة التي يجد البعض صعوبة في التواصل معها وأيضا لتعامل الناقد مع النصوص من منطلق العاشق والمقبل عليها بحب وشغف .

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *