*علي حسين
في 12 أيار عام 1915، كان الطالب القادم من مصر قد تقدم لنيل شهادة في التاريخ والجغرافيا في كلية الآداب جامعة مونبليه، وكانت الفتاة الفرنسية سوزان قد بلغت العشرين من العمر، وبين الساعة السادسة والسابعة صباحاً، حدث ما يشبه المعجزة ، لتكتب سوزان بعد ذلك بستين عاماً، في مذكراتها التي أسمتها معك : ” لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمراً مماثلاً “.
نحن الآن أمام فتاة فرنسية متعلمة ومن طبقة متوسطة، تسعى للحصول على عمل، وكانت أمامها وظيفة قارئة لطالب أجنبي وضع إعلاناً في صحيفة محلية. وبعد سنوات طويلة يقصُّ علينا طه حسين حكاية اللقاء الأول فيقول: “كنت أوّل اجنبي تلتقيه هذه الفتاة، وكانت أول فتاة تزورني، وكان من الطبيعي إذن ألا تجري محادثاتنا مجرى سهلاً” (من حوار مطوّل مع غالي شكري نشر بكتاب ماذا بقى من طه حسين؟).
سوزان من ناحيتها قالت إنها كانت مرتبكة، وفي حوارها الوحيد الذي أجرته مع الصحفية المصرية أمينة السعيد ونشر في مجلة المصور عام 1962 تقول : “كنت على شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى”، ولكنها تكتشف فيما بعد أنه لم يكن اعمى، بل اجنبي فقط وكان بحاجة الى قارئة باللغة الفرنسية، وستقوم هي بالدور المطلوب منها، ونراها بعد أشهر تتجاوز كونها مجرد قارئة، لتتحول الى مرشدة تدله على خفايا الأدب الفرنسي: “كانت صديقتي وأستاذتي وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية من خلالها ونجحت في نيل إجازة الآدب، وأنا مدين لها أخيراً حين استطعت أن اقرأ افلاطون بلغته الأصلية “.
ذات مرة، كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: “بدونك اشعر اني اعمى حقاً. أما وأنا معك، فإني اتوصل الى الشعور بكل شيء، واني امتزج بكل الأشياء التي تحيط بي” . وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول: ” ذراعي لن تمسك بذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن”.
****
الحب في عصر التطور العلمي
في باريس يتعرف طه حسين الشاب على أعمال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، وكان هذا الفيلسوف الذي ولد عام 1798 وتوفي 1857، قد وضع اثناء حياته كتاباً عن الحب أراد من خلاله التبشير بفلسفة تنطوي على مفهوم جديد للحب والعلاقات بين البشر، كان كونت يؤكد لتلامذته أن مفهومه للحب هو وحده الملائم لعقل البشر في عصر التطور العلمي.
ونجد طه حسين بعد اكثر من عشرين عاماً، ينشر في مجلة الرسالة مقالاً بعنوان “قصة فيلسوف عاشق ” يقول فيه: ” لم يعرف التاريخ عاشقاً مثل صاحبنا – يقصد كونت – أراد أن يشرك امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به آلهة الحكمة نفسها “.
عام 1840 كان اوغست كونت يلقي محاضراته في الفلسفة الوضعية، فأثار اهتمامهأحد الطلبة “مكسيمليان ماري” الذي اصبح التلميذ المقرب من مدرس علم الفلك ، وتشاء الصدف أن يلتقي اوغست كونت ذات يوم بالطالب مكسيمليان وشقيقته “كلوتيد” التي ستصبح ملهمته في مجال الفلسفة ، حين رآها كانت في الرابعة والعشرين من عمرها، فيما كان يبلغ الثانية والاربعين من عمره ، مرت بتجربة زواج فاشلة عندما كانت في الخامسة عشر من عمرها ، حين تركها زوجها المقامر وهرب الى جهة مجهولة، التقاها الفيلسوف فوجد فيها صورة للفتاة الحزينة، لكنها لم تجد فيه سوى صورة الانسان الدميم ، قبيح الشكل، وأزعجها صوته الغليظ، وقالت لإخيها :” لم استطع التخلص من فكرة انني بمواجهة انسان منعزل” . ويكتب كونت في دفتر يومياته: “عرفت على الفور انني دخلت مرحلة الخطر”، يكتب عبد الرحمن بدوي في كتابه الممتع عن أوغست كونت: “في تلك اللحظة بدأت واحدة من أعظم قصص الحب في تاريخ الفلسفة، ومنها تأسست فلسفة إثارت الكثير من الجدل”.. كان اأوغست كونت قد مر بتجارب مرة مع عدد من النساء، ويخبرنا في دفتر يومياته أن حياته الجنسية لم تنفصل يوماً عن احلامه عن الحب ، تعرّف على أول امرأة في حياته عندما كان في الثامنة عشرة من عمره : “نمت معها من دون حماسة لأنها كانت امرأة قبيحة “. بعد ذلك كانت ثمة امرأة من اقاربه قضى معها اشهر قبل أن يكتشف انها تكره الذين يستخدمون عقولهم، وحين بلغ العشرين من عمره، عاش قصة حب عنيفة مع “جيرمين” احدى زميلاته في الكلية فكتب لها : “احبك إلى درجة الجنون”، لكنها تقابل هذا الجنون بردٍ قاس: “وجدتك بسيطاً، لايمكن أن ترتبط حياتي بك”. وحين فشلت قصة حبه ذهب الى احد الحقول : ” بكيت كثيراً فقد كنت ثملاً، لكني شعرت بالراحة، فقد تصرفت أخيراً على نحو صائب، لاحب بعد اليوم، الفلسفة هي حبيبتي”.
كان كونت يجد الراحة عند زيارة عائلة “كلوتيد” وقد اخذت الفتاة تلقي عليه ببعض ما تكتبه من شعر، ولم يكن هذا الفيلسوف يحب الشعر ويجده مضيعة للعقل، فيحدثها عن الفلسفة الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي نشرت مؤخراً ، وعن دروسه في الفلك، ولانها ارادت ان تجامله ، اخذت تقرأ بعض وؤلفاته ، دون أن تفهم منها شيئاً، لكنها في المقابل بدأت تؤثر بالفيلسوف الوضعي ونراه يكتب : “ما قيمة التفكير العقلي، ومتى كان الرجل رجلاً دون قلبه، ومتى كان الانسان انساناً بالتفكير دون الحب، إن الانسان لايستطيع أن يفكر في كل وقت، لكنه يستطيع أن يحب دائماً ” .
يستعرض طه حسين في مقاله عن أوغست كونت والذي نشر عام 1934 المراحل المختلفة التي مر بها حب الفيلسوف للشابة كلوتيد، وقد تمثلت في السعي نحو الحب الأسمى، ويخبرنا طه حسين أن الفيلسوف عندما تعرف على كلوتيد كان يعيش حالة من اليأس، لكنه بدا بعدها ، يبدأ حياة جديدة، حين اربكت هذه الشابة حياته، يكتب في دفتر يومياته: “انا متعطش لهذا النوع من النساء، وسأضع نفسي في خدمتها دوماً”.
في كتابه عن الحب يكتب اوغست كونت: “لا ريب في أن الفلسفة الوضعية تكفي لفهم قوانين العالم الموضوعي الفيزيائي. إنها تكفي لتحقيق التقدم والتطور على هذه الأرض. إنها تكفي لاختراع الآلات التكنولوجية التي تريح الإنسان من بذل الجهد العضلي المرهق كما كان يفعل في العصور السابقة. إنها تكفي لتحسين معيشة الإنسان وتطوير علم الطب والقضاء على الأمراض وتحويل حياة الناس إلى جنة.. ولكنها لا تكفي لفهم الوجود وإعطاء معنى للحياة. ولذلك فإن دين البشرية الجديد هو الحب ، وهو وحده الذي يتصدى لهذه المهمة الصعبة ويقدم للإنسان كل العزاء والطمأنينة في هذا العالم ” . ويضيف كونت: ” على الرغم من تقدم العلم في عصرنا إلا أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن التمسك بالحب. ولا ينبغي أن يغتر الإنسان كثيراً بنفسه لأنه حقق كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي في عصر الحداثة ، ينبغي عليه أن يتواضع ويعترف بوجود قيم أخرى في الحياة. وهي قيم قائمة على الحب، قائمة على تطهير روح الإنسان من الداخل لكي يتخلص من أنانيته وكرهه للبشر الآخرين” .
****
بدونك أشعر اني أعمى حقا
يكتب طه حسين عن الحب في مقال نشر عام 1945 في مجلة الكاتب :” إنما هو الحب الذي يطمع في كل شيء و يرضى بأقل شيء، بل يرضى بلا شيء، بل هو سعيد كل السعادة ما وثق بأن بيتاً واحداً يحويه مع من يحب و يهوى. هو الحب ما في ذلك من شك، لكن الشك المؤلم المضني إنما يتصل بالقلب ”
وتكتب سوزان طه حسن في كتابها الممتع ” معك ” ، وهي تستذكر أيام اللقاء الاولى بطه حسين :” كنا أمي وأختي وأنا قد أقمنا فى باريس وكنا نلتقي، وكان ثمة غرفة شاغرة في بيتنا، وكان – طه – يبدو مهملاً ضائعاً برغم حضور أخ له لم يكن للأسف معينا، بحيث إن أمي اقترحت عليه المجيء للسكن عندنا، وقبل ولكن بعد كثير من التردد لأنه كان شديد الخجل في حياته اليومية ، لم يقبل إطلاقا أن يتناول وجباته معنا، كان ثمة قارئة تأتيه بانتظام، وكانت هناك سيدة أكبر في العمر تصحبه إلى السور بالجامعة ، لكني شيئا فشيئا أخذت أتدخل في ذلك وأصحبه أنا الأخرى إلى الجامعة من وقت لآخر حتى بت أصحبه غالبا، وكنت أقرأ له عندما يكون وحيداً، كنا نتحدث بكثرة، وكان يحقق تقدما عظيما في اللغة الفرنسية!!
وذات يوم قال لي: اغفري لي، اريد ان تقرأي لي شيئا من أوغست كونت
قلت له : أوغست كونت .. المعذرة لم اسمع بهذا الاسم من قبل .
وكان لابد لي ان ابحث عن كتب هذا الفيلسوف ، ويوم وجدتها امتلأ قلبي بالفرح ، بعد ايام وأنا اقرأ له فصلا كتبه اوغست كونت عن الحب ، سمعته يقول لي المعذرة ، لابد ان أقول لك شيئا ، ثم صمت وبعد دقائق قال : أنا أحبك!!، وصرخت وقد أذهلتني المفاجأة بفظاظة: ولكني لا أحبك!! كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك ، فقال بحزن: آه إنني أعرف ذلك جيدا وأعرف جيدا أنه مستحيل ”
ويخبرها ذات يوم انه معجب بوصية فولتير الشهير من أن على المحب أن يلحّ في حبه حتى يظفر بمن تحب أو تفنى دونه. وتكتب سوزان : ” ولكن هل من الممكن أنني كنت محبوبة على هذا النحو، وأننى كنت المقصودة بكل هذا السيل من الحنان والعاطفة وهذا القدر من الحب الذي كان على أن أحمله وحدي؟! ”
في كتابه الأيام يكتب طه حسين : ” وتسأله الفتاة ذات يوم وقد خلت اليه تقرأ عليه بعض ماكانا يقرآن ، فيريد ان يلتوي بالجواب ، فتلح عليه واذا هو ينبئها مريدا او غير مريد بأمره كله
فتسمع له ثم تأخذ في القراءة حتى اذا أتمتها وهمت ان تنصرف قالت له في رفق
– وإذاً فماذا تريد
– قال الفتى : لا اريد شيئا
– قالت : فاني قد فكرت فيما أنبأتني به وأطلت فيه التفكير ، ولم انته بعد الى شيء ، وقد اوشك الصيف ان ينتهي ، فأصبر حتى اذا كان افتراقنا فستصل بيننا الرسائل .
– ولم يسعد الفتى بشيء قط ، كما سعد بهذا الحديث ، فاخيرا ستكتب اليه وحده”. وذات مرة كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: ” بدونك أشعر اني أعمى حقا. اما وانا معك، فإني اتوصل الى الشعور بكل شيء، واني أمتزج بكل الاشياء التي تحيط بي” . وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول بعد رحيله: ” ذراعي لن تمسك بذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، اريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وامام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، اريد ان أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، اريد ان أرى من جديد ابتسامتك الرائعة.
كان طه حسين في السادسة والعشرين من عمره ولم يكن كاتبا معروفا عندما قرر ان يتزوج من سوزان وتذكر هي في مذكراتها ، انها: ” ذات يوم صرحت برغبتها في الزواج منه فصعقت العائلة وأخذ جميع افرادها يصيحون فيها غاضبين: كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟” ، غير إن الفتاة كانت قد اختارت. وجاءها العون من عم لها كان قسا، فقد قال لها بعد ان تنزه مع طه حسين مدة ساعتين في حقول باريس : “بوسعك ان تنفذي ما عزمت عليه.. لا تخافي، فبصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع الى ذلك سبيلا، انه سيتجاوزك باستمرار” . وفيما بعد سوف تكتشف السيدة سوزان ان عمها كان على حق..فتتم مراسم الزواج في بداية آذار من عام 1917 .
في العام 1922 وبعد مرور خمسة أعوام على الزواج يكتب طه حسين اغنية خاصة لزوجته سوزان، ويقدمها للملحن المعروف انذاك كامل الخلعي الذي يعجب بها ، فيقوم بتلحين كلماتها لتغنيها أشهر مطربات زمانه منيرة المهدية,
وظهرت الأغنية في أسطوانة سجلتها شركة فونوغراف ومكتوب عليها أنها من كلمات الدكتور طه حسين ، تقول كلماتها:
أنا لولاك ما كنت ملاك.. غير مسموح أهوى سواك.. سامحني
بين العشاق أنا مشتاق.. أبكي وأنوح بالأشواق.. صدقني
عهدك فين يا نور العين.. بالمفتوح تهوى اتنين.. جاوبني
واحد بس يهوي القلب.. قلبي ينوح له بالحب.. طاوعني
أنا أهواك مين قساك.. أنا مجروح غايتي رضاك.. واصلني
ما أحلاك وقت رضاك.. لما تلوح ما أبهاك.. كلمني
كتب لها يقول ذات يوم :” أمنعك من أن تكونى حزينة، وآمرك بالابتسام، لا تقولي شيئاً. الآن، تعالي إلى ذراعي. أحبك حتى نهاية الحساب.. أحبك وأنتظرك، ولا أحيا إلا على هذا الانتظار”. في إحدى الليالي، كانت سوزان نائمة، فأشار طه إليها، وقال لابنته أمينة: هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانا آخر.
****
بين الايام واللحظات الاخيرة
في كتاب “الايام” نرى طه حسين ويرانا ، وتخبرنا سوزان في “معك” ان فكرة الكتاب نضجت بعد ان تعرض عميد الادب العربي الى موقف عنيف بسبب صدور كتاب له في الشعر الجاهلي ، وخوفا على حياته سافر الى احدى القرى في باريس. وهناك وفي تسعة أيام بدأ يكتب سيرة الطفل الضرير والتي صدر عام 1926 الجزء الاول منها بعنوان “الايام” ، وفيه نقرا صفحات ناصعة جريئة من نضال الانسان وكفاحة واصراره على خوض المستحيل .
هذا الكتاب هو الرسالة التي وجهها طه حسين لابنته البالغة آنذاك تسعة أعوام : “نعم يا ابنتي لقد عرفت ابيك في هذا الطور من حياته ، واني لأعرف ان في قلبك رقة وليناً ، واني لأخشى لو حدثتك بما عرفت من امر ابيك حينئذ ان يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتجهشين بالبكاء”. كتب طه حسين الكتاب وهو في السابعة والثلاثين من عمره ، وطبع الكتاب اكثر من خمسين طبعة وما زال يطبع ويجد قارئا جديدا كل يوم ، وهو يقول لغالي شكري : ” ليس الغرض من الايام ان اصف حياتي ، وانما كنت اريد ان ادرس حياة المجتمع المصري في ذلك الزمان” وهو يرسم لغالي شكري حدود نظريته الفنية في كتابة السيرة فيقول: “خصلة اخرى حببت إلي نشر هذا الكتاب ، وهي انه يؤرخ حياة الطالب في الازهر وفي الجامعة المصرية ، وهو نوع جديد من الكتابة ، لست ابحث من خلاله عن الاولوية في القيمة وانما اكتفي بهذه الاولوية نفسها مغريا بنشر المعرفة بين الناس ، ولست اتخذ من اولويته فخرا وانما اتخذ منها معذرة ان كان فيه بعض النقص “. في يوم 27 تشرين الاول 1973، أصيب طه حسين بوعكة صحية ، ولما جاء الطبيب لفحصه زالت النوبة وعاد صاحب “الأيام” الى حالته الطبيعية، كانت برقية الأمم المتحدة التي وصلت عصر ذلك اليوم تعلن فوزه بجائزة حقوق الانسان، غير انه لم يسعد كثيرا بتلك البرقية ، وبإشارة من يده تعرفها زوجته جيدا ، علّق على ذلك قائلا: ” أية حماقة ، يريدون ان يجعلوا من رجل اعمى قائدا لسفينة ؟ ” صبيحة اليوم التالي شرب العميد قليلا من الحليب، ثم لفظ انفاسه. وفيما بعد كتبت زوجته تقول واصفة مشاعرها في تلك اللحظة العصيبة: “جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وان كنت هادئة هدوءا غريبا ، ما اكثر ما كنت اتخيل هذه اللحظة الصعبة، كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن ابكي ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن احد يعرف بعد بالذي حدث، كان الواحد منا مثل الاخر مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا”.
وتروي سوزان لحظة الذهاب الى المقبرة بعد وفاة طه حسين : ذهبنا إلى المقبرة، ابنتك أمينة وابنك مؤنس وأنا.. لم أكن قد نمت جيدا، لكني حاولت الظهور بمظهر الهادئة. إذا بكيت فإنما أبكي غيابك الذي لا دواء له، وربما أبكي حياتي التي بت لا أتعرف عليها. أرفع عيني وأنظر إلى الجرف المنحدر الأصفر للمقطم, كنا نأتي إليه في بعض الأحيان صباحا ونتوقف على حافته، لكننا لم نكن نترك السيارة التي كانت تحمينا من شمس حادة حتى في الشتاء.. أفكر في تلك السعادات الصغيرة التي منحت لنا ونحن ساكنين في السيارة البويك القديمة.. كانت الأيام عذبة بلا حدود.. كانت نعمة.. ويبدو لي الآن أنني أرتكب عملا جائرا إذ أجد أن السماء جميلة وأن الصخرة جميلة وأن أوراق الشجر جميلة.. إذ أنني لا أملك الحق في ذلك ما دمت لا أستطيع أبدا أن أقول ذلك لك ”
وعلى قبره تقرأ قصيدة نزار قباني
يا حبيبي ويا حبيب البيان
ما علينا إذا جلسنا بركن
وفتحنا حقائب الأحزان
وقرأنا أبا العلاء قليلا
وقرأنا رسالة الغفران
آه يا سيدي الذي جعل الليل
نهارا.. والأرض كالمهرجان
وحدك المبصر الذي كشف النفس
إرم نظارتيك.. ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان