تفسير كلمة “قَسوَرَة” بالقرآن[*]

خاص- ثقافات

*كريستوف لوكسنبرغ/ ترجمة: إبراهيم قيس جركس

جاء في سورة القيامة {فَمَا لَهُم عن التّذكِرَةِ مُعرِضين *48* كأنَّهُم حُمُرٌ مُستَنفِرة *49* فَرَّت من قَسْوَرَة *50*}.

والكلمة التي يدور حولها الإشكال هنا هي “قَسْوَرَة” التي تمّت ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية على النحو التالي:

((What Is the matter with them that they from the reminder turn away, as if they were startled asses fleeing from a “lion”?)). [Bell II 619: 50-51]

وقد أشار آرثر جيفري [Foreign Vocabulary 31f] إلى كلمة “قسورة” عندما أرجعها إلى الشارح الطبري، الذي فسّر الكلمة على أساس حديث منسوب لابن عباس، يقول فيه أنّ أصل هذه الكلمة “إثيوبي” وتعني “الأسد”. ومن خلال نطرة متأنّية ومدقّقة إلى المفردات، لا نعثر على أي معنى لهذه الكلمة لا في اللغة الآرامية ولا في الإثيوبية. وبإمعان النظر في المشكلة، يتابع جبفري كلامه [35f]:

((إنّ كلمة “قَسْوَرَة” في الآية رقم 51 من سورة القيامة ما زالت تمثّل لغزاً غامضاً لنا في يومنا هذا، لذا لا عجب إذا وجدنا أنّها مثّلت ذات الإشكالية والغموض بالنسبة للشرّاح والمفسّرين القدماء. ويشار عادةً إلى أنّها تعني “الأسد”، ويورد السيوطي أحاديث تثبت أصولها الإثيوبية. لكننا لا نجد أي أثر لهذه الكلمة في اللغة الحبشية القديمة أو في أي لهجة من اللهجات الإثيوبية الحديثة… كما أنّ هذه الكلمة لا وجود لها في أيٍ من اللغات الأخرى، لذلك فإنّ أبسط الحلول على الأرجح إرجاع الكلمة إلى جذرها الثلاثي “قَسَرَ” qasara، مع أنّ أغلب الآراء تُجمِعُ بأنّ هذه الكلمة ذات أصول عربية من دون أدنى شك)).

يورد ابن كثير تفسيره للكلمة في معرض شرحه للآية: ((كأنّهم في نفارهم عن الحق، وإعراضِهِم عنه حُمُرٌ من حُمُرِ الوحش إذا فَرّت مِمَّن يريد صيدها من الأسد)). و((عن ابن عباس قال: الأسد بالعربية، ويقال له بالحبشية: قَسْوَرَة، وبالفارسية/ شير، وبالنبطية: أويا)) [تفسير ابن كثير، 273-274/8]

بأيّة حال، جيفري محقٌ في هذه النقطة، فالكلمة ذات أصول سريانية-آرامية، وترد في قاموس المرادفات السريانية [Thes II, 3681][1] على الشكل التالي في الصورة الأولى qusrā وجرى تفسيرها من قبل علماء اللسانيات واللغويات السريانية المشرقية بأنّها تعني: asinus decrepitus وترجمتها ((حمار عجوز، حمار هَرِم))، وتكتب بالسريانية على الصيغة التي في الصورة الثانية، وتُقرأ: qusrā: ḥmārā sāḇā ḏ-lā m-saybar ṭaʿnā

بالعربية: حِمار هَرِم ما يحمِل، حمار عجوز غير قادر على الحَمل، حمار طاعِن في السن مَهدود الحَيل.

لذا يتبيّن لدينا بأنّ الكلمة ذات شكل لهجوي ينحدر من الجذر الفعلي qṣar، ويرسم بالسريانية كما في الصورة الثالثة، ومعناه بالعربية “قَصُرَ” qaṣura، (أي: عَجِزَ، لم يعد قادراً)، وتختلف عن كلمة “قَسَرَ” qasara (أي: أجبَرَ، أكرَهَ).

وتحت هذا الجذر يورد لنا من جديد قاموس المفردات السريانية [Thes II, 3707] اللفظ كمُتَغَيّر لهجوي آخر مصحوب بنفس التفسير عن علماء اللغويات السريانية المشرقية، والترجمة اللاتينية المصاحبة في الصورة رقم4، وتُلفَظ quṣrā:

asinus a senectute decrepitus qui onus sustinere non possit

“حمار عجوز مُرهَق عاجز على حَمْل الأسفار”.

استدراك: المثير للاهتمام هنا، أنّ معجم لسان العرب [Lisan V, 104b] يشير إلى أهالي البَصْرَةَ إذ قيل أنّهم لقّبوا أحد منبوذيهم باسم “ابن قَوصَرَة” ibn qauṣara، لكنه في الحقيقة يُدعى “ابن قُصرَه” ibn quṣrā. ويرى ابن داؤود أنّ هذا التعبير ليس عربياً، قائلاً: ((لا أحسَبه عَرَبياً)). وكان يُرسَم في الحقيقة كما في الشكل رقم5، ويلفَظ “قُسْرَه” qusrā، ومازال هذا اللفظ مستَخدَماً في يومنا هذا بمعنى “فَشَل، عَجز، تقصير” في اللهجات السريانية المشرقية الحديثة (أي ما بين قبائل الطيري بالعراق).

وجديرٌ بالذكر أنّ اللفظ القرآني قَسْوَرَة (الذي يُلفَظ qasōrā/qasūrā) يدلّ على شكل آرامي مبكّر لاسم المفعول كما شرح تيودور نولدكه في كتابه “النحو السرياني” Syrische Grammatik. P. 69: ((بحرف ليّن قصير بالبداية (واو ساكنة o)، وتاء مربوطة (ō) بنهاية جذر الكلمة)). و [p.113]: ((وما بين الـواو الساكنة ū و المتحرّكة ō لا يوجد اختلاف جذري، حيث يفترض أنّ الواو المتحرّكة مخفّفة من الواو الساكنة [صورة6] (أو العكس هو الصحيح). وهناك عدد قليل منها يظهر على شكل اسم المفعول مثل: رَحُومَا، طَهورا.

مثل هذه الأشكال من أسماء المفعول ترد ضمن عدّة أمثلة من الآيات القرآنية مثل: رِسول (rasūl) =مُرْسَل، مِرسال. طَهور (ṭahūr) =طاهِر، مُطَهّر، كما في الآية 48 من سورة الفُرقان {وأنزَلنا من السماءِ ماءً طَهورا}. والآية 21 من سورة الإنسان {وسَقاهُم رَبَّهُم شراباً طَهورا}، في حين أنّ الدلالة السلبية لكلمة “طَهورا”  ṭahūrāتظهر بوضوح بالمقارنة مع صيغة اسم المفعول من الجذر الثاني مُطَهَّرَة muṭahhara (بدلاً من طاهِرَه ṭahira) في الآيات التالية: البقرة 25، آل عمران 15، النساء 57، عبس 14، البيّنة 2. بأيّة حال، في حالة كلمة “قَسوَرَة”، يمكننا أن نفترض أنّ أصل الكلمة اسم مفعول، كما سبق وبيّنّا، حيث أنّه في اللغة العربية الحديثة الشكل الفعلي المطابق هو صيغة اسم الفاعل للجذر الأول “قاصِر” qāṣir أي عاجز،غير قادر.

الآن، إذا كان المتغيّر اللهجوي السيرو-آرامي هو المعنى الأصلي والصحيح لهذه المفردة القرآنية، فتجدر الإشارة عندئذٍ إلى أنّ القرآن قد احتفظ بالشكل السيرو-آرامي الأصلي لكلمة “قسورة”. والمثير للاهتمام أنّ الكلمة تتقاطع مع اسم المفعول nomina agentis الذي تحدّث عنه نولدكه سابقاً. لذلك، وطبقاً للصيغة الأولية لاسم المفعول “فَعُولَة”، لا يجب أن تُقرأ كلمة “قَسْوَرَة” على هذا النحو، بل تكون قرائتها على النحو التالي: قَسْوْرَة qāsūrā.

بالنسبة لمعنى هذه الكلمة ضمن سياق الآية القرآنية، يمكننا القول أنّ تشبيه هؤلاء الذين يُعرِضون عن التحذيرات والتنبيهات القرآنية بالحمير الخائفة أو المُستَنفرة يمكن تفسيره على وجهين:

الوجه الأول: إمّا أنّهم يهربون من شيءٍ ما يمثّل خَطَراً حقيقياً مُحدِقاً (من الأسد مثلاً، وهذا منطقي).

الوجه الثاني: أو أنّهم يهربون من شيءٍ ما لا ينطوي على شرٍّ في حقيقته. أي قد يبدو لهم أنّه يضمُرُ شرَّاً، أو يتوهّمون ذلك، وهو في الحقيقة خيرٌ لهم.

والحالة الثانية هي الأصوب هنا.

والنتيجة: يريد القرآن بهذا التشبيه القول أنّ لا شيء يدعو للخوف في تحذيراته. لذلك فهو يشبّه هؤلاء الذين يُعرِضون عنه خوفاً بالحمير التي تستسلم للخوف والفَزَع من أشياء لا تدعو لذلك، ليس من أسد يتهدّدها، ولا حتى من حمير مثلها، بل من اشياء يجفل ويخاف منها الحمار العجوز الهَرِم، التي لا تمثّل أي تهديد له ولا تنطوي على أي شرّ أو خطر.

تنويه أخير: إذا كانت “قسورة”/qāsōrā هنا تعني “الأسد”، في حين أنّها تعني “الحمار العجوزالواهن”، فإنّ لفظ “حمار” ḥimār تُفهَم في سورة البقرة، آية 259، المقصود بها “حمار”، أمّا الكلمة السيرو-آرامية جمارا gmārā كما في الصورة رقم7، تعني “كَمال الإنسان المبعوث من بين الأموات”.

================

[*] من كتاب “قراءة سيرو-آرامية للقرآن، كريستوف لوكسنبرغ

Christoph Luxenberg, The Syro-Aramaic Reading of the Koran: A Contribution to the Decoding of the Language of the Koran. Verlag Hans Schiler, Berlin, 1st Edition, 2007

(Die syro-aramäische Lesart des Koran: Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache)

[1] قاموس المفردات السريانية

Payne Smith, ed., Thesaurus Syriacus, tomus I, Oxonii 1879; tomus II, Oxonii 1901

وقد جاء الاقتباس هنا على الشكل التالي: عنوان القاموس Thes، ثمّ الجزء، ثمّ العمود.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *