من رائحة الصلصال والصمغ إلى عطر القراءة…

خاص- ثقافات

*عبد الجليل لعميري

(إلى روح والدي…)

          مع بداية كل موسم دراسي أرافق أطفالي إلى المكتبة لاقتناء اللوازم المدرسية : محافظ ، أقلام حبر متنوعة الألوان ،أقلام رصاص،لوحات معدنية وملونات ودفاتر وكتب مدرسية وأغلفة بلاستيكية….موسم كبير للبيع والشراء…وهذا يولد في ذكريات طفولة بعيدة …لاستحضر معالم “اللوازم المدرسية” القديمة :

*المسيد أو عبق المكان :

     كان المسجد ،كمكان للعبادة ،يتحول جزء منه إلى مكان للتعلم والدراسة فيسمى بالمسيد او الجامع او الحضار او الكتاب…حيث يسهر عليه فقيه حافظ  او حامل للقران يسمى الطالب…ويؤم إليه أطفال البلدة ذكورا وإناثا ،فقد كان الوعي بتعليم الطفلات حاضرا عند الأسر منذ زمن بعيد (في عهد الحماية وبعيد الاستقلال ما بين بداية القرن 20 ومنتصفه).وتلاميذ المسيد أو “لمحاضر” هم من أعمار مختلفة بعضهم قد يكون قد ولج مدرسة ومعظمهم يكون في خطوات تعلمه الأولى…حيث يكون الكتاب شبيها بالتعليم الأولي الذي أصبح معروفا حاليا اي ما يسمى بالروض.فكان بذلك هذا المكان يلعب دورين أساسيين :ديني وعظي وتربوي تعليمي..

*اللوازم المدرسية  القديمة:

   هي أدوات تستعمل في تعلم الكتابة والقراءة وحفظ القران ،وهي مأخوذة من المحيط الاجتماعي والبيئي للإنسان.وأهمها :

+اللوح : او اللوحة وهو عبارة عن قطعة خشب مستطيلة ،اشتغلت عليها يد نجار فشذبتها وجعلتها مستوية ،تطلى هذه الخشبة بالصلصال ، وهو  تراب مائل إلى البياض  يخلط بالماء يصبح لزجا ، ثم تعرض  اللوحة للشمس او الهواء لتجف فيمسح  الصلصال او يحك برفق لتصبح اللوحة جاهزة للكتابة ،فلا دفاتر في الكتاب بل اللوح هو أداة التعلم التي تكتب عليها الفقرات او الجمل لتحفظ من طرف الطفل أو حتى البالغ..

+الصمغ : محليا نسميه السمخ او السمق تحريفا للفظة الصمغ ،وهو عبارة عن حبر او مداد من نوعية خاصة مختلفة عن الحبر الصيني…إذ يصنع  من صوف الغنم غير المغسولة او النظيفة (تسمى عندنا بالودحة أي صوف لم تتدخل فيها يد الإنسان بالنفش والتنظيف والغزل) ،تنقع هذه الصوف في ماء يغلى على النار،مع التحريك الخفيف إلى أن تحترق تماما وتتحول إلى سائل اسود لزج ، يخلص من الشوائب ويضاف إليه الماء ليوضع في دواة و يستعمل في الكتابة على اللوح..كان الفقيه هو صانع ومحضر هذا الصمغ إذ يوفره لتلاميذه …وقد يتعلم بعض كبار التلاميذ تقنية تحضيره فيساعدون الفقيه في ذلك…وتكون جودته حسب حسن إعداده وكيفية تخزينه…ولونه اقرب إلى السواد ويكون سريع المحو بالماء…

+القلم : وهو أداة الكتابة الأساسية الصالحة لتزين وجه اللوحة بالكلمات…يصنع من قصب ، يكون في طول قلم الحبر الجاف مع عرض اكبر..له رأس  يشبه ريشة الكتابة بالحبر الصيني …يتراوح بين الدقة و الغلض حسب رغبة صاحبه..وله قاعدة أعرض من الرأس صلبة محكوكة ومبراة لأنها تستعمل  في الوشم أو الرسم على اللوحة بدون حبر أو ما يسمى “بالتحناش” أي رسم حروف بواسطة قاعدة القلم على اللوح وقيام التلميذ بتتبع هذا الرسم لكتابة الحروف والكلمات ليتعلم الكتابة والإملاء..والقلم كلما كتب به كثيرا كلما أصبح أجود…

+الكراك :لفظة محلية تعني المكرر أي الذي يكرر الفعل ويعيده، وتطلق على أداة عجيبة يستعملها التلميذ في الكتاب هي عبارة عن قطعة خشب مأخوذة من فرع شجرة متوسط الحجم والقطر يكون في حجم القلم براسين متساويين يحك بها التلميذ وجه اللوح صعودا ونزولا وهو يحفظ المكتوب عليه ، دلالة على رغبته الشديدة في الحظ بسرعة ، ونظرا لكثرة الحك صعودا ونزولا على وجه اللوح فان معالم الكلمات تنمحي لان الصمغ ليس شديد اللصوق مثل الحبر الصيني وإنما يمحي بسهولة اكبر ولا يترك أثرا واضحا مثل بعض الحبر…الكراك لا يستعمله إلا الكبار من التلاميذ او لمحاضر الذين بلغوا شأوا في القران …أما الصغار منهم و المبتدئون فإنهم يكتفون بالحفظ العادي…

+الحزب : يطلق على جزء من القرآن …فالتلميذ أو المحضار(امحضار بالامازيغبة) يشرع في قراءة القران وحفظه بداية بسور قصيرة وصولا إلى سور أطول وبلوغا إلى السلكة وهي حفظ 60 حزبا المشكلة للقران … وكلما نجح الطالب في السلكة كلما منحت له صفة الفقيه ،خاصة إذا أعادها أكثر من مرة وأجازه فقهاء آخرون، وشارك بفعالية في القراءات الجماعية التي تكون خلال مناسبات اجتماعية مختلفة : فرح أو مأثم…وكلما كان قادرا على مساعدة غيره من التلاميذ او الطلبة وتعليمهم وتصحيح او تقويم أخطائهم…والحائز على السلكة ينظم له احتفال كبير يشارك فيه شيخه وزملاءه والعائلة …ويكرم بالمناسبة شيخه اي الفقيه الذي علمه فتقدم له الهدية (ملابس مثل جلباب وبلغة أو سلهام/برنس وبعض النقود والحبوب والسكر وذلك حسب غنى او فقر الطالب)…ويسير الطالب المتوج في موكب يعلم به الخاص والعام…

  وكلما اجتهد الطالب المتخرج أكثر، واطلع على بعض دروس النحو والبلاغة والتفسير ، فانه يكون أكثر حظا وذا مكانة مهمة في المجالس، خصوصا أن معظم حاملي القران لا يعرفون أكثر من الحفظ ولا يتقنون علوم اللغة والتفسير…وكان الذين يتخصصون في حفظ القران ولا يلتحقون بالمدارس يصبحون فقهاء لكتاتيب منتشرة في البادية او بعض الحواضر …ولكن معظم الذين يدخلون المدارس لا يستمرون في متابعة حفظ القران ويكتفون بما حفظوه مستفيدين منه في تقوية لغتهم العربية …

    ذكريات يفوح منها عبق الصلصال والصمغ……كانت بدايتي في طريق عشق القراءة والكتابة……

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *