الراقم العربي

*سعيد يقطين

ارتبط صوت الشاعر العربي بالقبيلة في المرحلة الشفاهية، وكان الصوت الذي يجسد القيم الأصيلة للقبيلة، مدافعا عن هويتها. وكانت مكانته عالية في المجتمع القبلي. ما كانت هذه الحظوة سوى تعبير عن تميزه عن باقي أفراد القبيلة. فهو إلى جانب ملكته اللغوية ـ الإبداعية، التي تتمثل في إنتاجه خطابا متميزا، كان يمتلك ثقافة العصر الذي يعيش فيه ومحيطا بكل ما يعتمل فيه من أحداث ووقائع.
فإلى جانب حفظه لمدونة شعرية مهمة تؤهله لإنتاج خطاب قابل لأن يتحقق ضمن الخطاب الشعري الذي ينتجه شعراء آخرون من قبائل أخرى، كان على علم بالتاريخ والأخبار وخصوصيات كل مجتمع قبلي. إلى جانب إلمامه بخصوصيات الخطاب الشعري الذي ينتجه فارضا على الجميع التفاعل معه بما يمتلكون من ملكات التمييز والتقييم. ولقد ساهمت كل مقومات تكوينه الشعري والثقافي في قدرته على إنتاج خطابه بداهة وارتجالا في أي موقف من المواقف الذي كان يفرض عليه فيها إنتاج هذا الخطاب، معددا مناقب قومه، ومحيطا بمثالب أعداء قبيلته.
مع ظهور الكتابة، وانتقال المجتمع العربي من البداوة إلى الدولة، سيتقلص دور الشاعر، وإن ظل يحتفظ بجزء من رمزية حضوره التاريخي. لقد صار الكاتب، مع ظهور الكتابة والكتاب، يمثل ذلك الصوت الذي كان ينفرد به الشاعر في المجتمع القبلي. فكان بذلك يحتل مواقع مهمة في الدولة: كاتب إنشاء، وحاجبا، ومستشارا، وعالما في مختلف ضروب المعرفة. وبذلك تم الانتقال من ثقافة «الشعر»، إلى صناعة «الكتابة». وعلى غرار الشاعر لم تكن الملكة الإبداعية النثرية هي رأسمال الكاتب. فقد كان ملما بعلوم عصره الدينية والفلسفية والتاريخية، إلى جانب امتلاكه عدة «الكتابة» باعتبارها صناعة لا تتحقق فقط بمعرفة الكتابة والقراءة، وقواعد اللغة والبلاغة، ولكن أيضا بصناعة المداد ومعرفة الخطوط، ومقاييس الورق وصناعة الكِتاب. هذا طبعا إلى جانب القدرة على الكتابة في مختلف الموضوعات التي صارت لكل منها قواعدها وتقنياتها الخاصة.
في العصر الحديث ظل الكاتب يحتل مكانة خاصة مع ظهور الطباعة، غير أن جزءا أساسيا من ممارسته صار يقتصر على «التأليف»، بينما يضطلع الطابع والناشر بالجزء الأكبر من العملية ليصبح الكتاب قابلا للتداول.
ولم تبق له من مهمة غير «الكتابة»، وحتى بعد أن صارت الآلة الكاتبة متيسرة للعديد من الكتاب، ظل ما يقدمه الكاتب وإن كان مرقونا بواسطتها يعتبر «مخطوطا» حتى يعرف طريقه إلى المطبعة ليصبح بذلك «كتابا». ولذلك سنجد مفهوم «الكاتب» يطلق على كل من «يدبج» بواسطة اللغة أثرا قابلا لأن يضمه «كِتاب» مطبوع ليتداوله القراء بعد تدخل الطابع والناشر، أيا كان الاختصاص الذي يشتغل به، أو نوع الكتابة التي يخوض فيها، على الرغم من كون مصطلح «الكاتب» ظل مقترنا في الأساس بالـ«أديب» الذي ينتج خطابا أدبيا، أيا كان الجنس الذي يكتب في نطاقه.
من الشاعر إلى الكاتب مر زمان طويل تغيرت فيه المفاهيم والممارسات والوسائط. وكلما ظهر وسيط جديد تغيرت العلاقات والتقنيات. ونحن على أعتاب مرحلة الرقامة لا بد لنا أن نتساءل عن الصوت الذي يرتبط بالوسائط الرقمية الجديدة. هل هو الكاتب؟ وما معنى «الكاتب» في العصر الرقمي وهو الاستعمال الأكثر شيوعا إلى الآن؟ صار منظرو الرقميات في الغرب يتحدثون عن ممارسة جديدة يفرضها استعمال الوسيط الرقمي. فوظيفة «الكاتب» و«القارئ» لم تبق محافظة على الصور التي ظلت تحتفظ بها على مر الزمن. وبات من اللازم تحديد مسميات جديدة لهذا الصوت الجديد ليتلاءم مع الوسيط الرقمي.
أسمي هذا الصوت «الراقم»، على وزن الشاعر والكاتب. وهذا الراقم في حاجة إلى جانب ثقافة الكاتب وملكته ومعرفته بالموضوعات التي يكتب فيها، أي كل المعارف الضرورية للكتابة، أن يكون ملما بقوانين «الرقامة» وقواعدها وتقنياتها ليتحقق له مصطلح «الراقم»، وإلا فهو كاتب غير رقمي وإن ادعى الرقمية.
والراقم بهذه الصورة التي نتحدث عنها هو ما تجسد في الإبداع الرقمي الغربي، فوجدنا مبدعي «الرواية المترابطة» راقمين أو رُقَّاما بالمعنى التام للكلمة، أي يمتلكون تقنيات الرقامة (لغات البرمجة) وقواعد الإبداع السردي التي تتلاءم مع متطلبات الرقامة. أمام الراقم العربي إمكانيتان ليكون الصوت الرمزي الحامل للقيم الثقافية العربية في العصر الرقمي الذي يعيش فيه. إما أن يتخذ موقع الكاتب إبان ظهور الطباعة، فيسلم «مخطوطته» للتقني الراقم ليحول نصه الإبداعي بما توفره له الرقامة من إمكانات تسمح له باستخدام الوسائط المترابطة. ولعل سؤالنا الأساس في هذا الصدد هو: هل تكويننا العربي في المعلوميات يسمح لنا بإعداد هذا النوع من التقنيين الرقميين؟ وجوابنا لا يحتاج إلى تصريح. وبالقياس إلى الطباعة العربية يمكننا طرح السؤال التالي: كم من زمان كنا في حاجة إليه لتتطور طباعتنا وتصل إلى المستوى الذي وصلت إليه اليوم؟
والخيار الثاني هو ان يضطلع الكاتب في تكوين نفسه رقميا إسوة بالكاتب العربي في العصر العباسي. بتحقق الراقم العربي ندخل العصر الرقمي، وإلا فإننا سنظل خارج هذا العصر.
____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *