محمّد الطّالبي… التغيير من داخل البيت

*ساسي جبيل

بموت محمّد الطّالبي (1921-2017) يمكن، اليوم، للباحثين أن يعيدوا رسم صورة هذا المفكّر والمؤرّخ الذي بدأ حياته المعرفيّة أكاديميّاً متمرّساً لينتهي مفكّراً «خلافيّاً»، رسماً يضع مسيرته كلّها على محكّ التّقويم والنّقد. لكنّنا نكتفي اليوم، وقد غيّبه الموت، بترسّم أهمّ ملامح مسيرته «الرّسميّة» والعلميّة والنّضاليّة.

يُعدّ محمّد الطّالبي علَماً فكريّاً وعلميّاً في دولة الاستقلال بتونس؛ وهو أحد مؤسّسي الجامعة التّونسيّة الحديثة، وقد كان أوّل عميد لكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بتونس (من 1966 إلى 1970). وتولّى فيها لعقود تدريس التّاريخ الوسيط متنقّلاً في دروبه بين السّياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ والدّينيّ. كما أسهم في ضبط السّياسة الثقافيّة بترؤسّه اللّجنة الثقافيّة الوطنيّة، في ثمانينات القرن الماضي.

المؤرّخ والمفكّر

غنم محمّد الطّالبي من معرفته باللّغات الأجنبيّة (الفرنسيّة، والإنجليزيّة، والإيطاليّة، والألمانيّة) مغانم معرفيّة كثيرة؛ فاستقى ممّا ورد ضمنها عن اللاّهوت والدّيانات عموماً، وأيضاً عن الفكر الإسلاميّ ممّا بخلت به اللّغة العربيّة في بعض الأحقاب من تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة ليقلّب النّظر في تاريخ أمّته وفكرها واعياً تماماً بمحاذير الانزلاق إلى التّعاطي الاستشراقيّ مع الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وهو لا يرى في الاستشراق منزعاً غربيّاً فقط، وإنّما يرى أنّ بعض المفكّرين العرب انزلقوا إلى ما يعتبره «استشراقاً عربيّاً». وغنم منها ما يسمح له بأن يحاول أن يترسّم السّبيل إلى حوار إسلاميّ مسيحيّ رآه ممكناً. وأكثر من ذلك، فقد أثرى المكتبات المنتسبة إلى هذه اللّغات بعشرات الكتب وعشرات المقالات التي حبّرها بلسان قلمه مباشرة دون وساطة التّرجمة.

حباه اللّه بطاقة عمل هائلة، فلم يكن منكبّاً على القراءة والتّأليف فقط، وإنّما أسهم في التّدريس في جامعة بلاده وفي غيرها من جامعات أوروبا وشمال أميركا، وفي النّشر وفي ضبط السّياسات العلميّة والثقافيّة لمؤسّسات أكاديميّة ببلاده وخارجها. فقد أدار «الكرّاسات التّونسيّة وهي مجلّة جامعيّة، تمّ تأسيسها في 1953، تُعنى بالعلوم الإنسانيّة. وهو عضو بإدارة «موسوعة الإسلام»، عضو الأكاديميّة الملكيّة للتّاريخ بإسبانيا (1970). وعضو الأكاديميّة الكونيّة للثقافات (1994).

نشر حوالي ثلاثين مؤلَّفا ومئات المقالات بكبرى الدّوريّات والمجلاّت الأكاديميّة العلميّة بلغات مختلفة من ضمنها العربيّة. وتدور مجمل كتاباته على «الإسلام» في صلة بالقرآن الكريم، النّصّ المؤسِّس، وفي صلة بالتّاريخ السّياسيّ، وبخاصّة مؤسّسة الحكم/‏‏‏الدّولة، وفي صلة بالإيمان، وفي صلة بوضع المسلم اليوم، وفي صلة بالشّريعة، وفي صلة بالحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وفي صلة بالمرأة وحقوقها.

في ما يخصّ القرآن، وهو يعتبر نفسه «مسلماً قرآنيّاً،» حيث يعرّف نفسه بكونه مفكّراً حرّاً ينتصر للقراءة المقاصديّة للقرآن الكريم، حيث يدعو إلى استيعاب مقاصده وتدبّر مغزاه الشّموليّ لا الوقوف عند أحكام قُرّرت في فترات انقضت وولّت من تاريخ الأمّة. وقد وثّق جماع فكرته هذه في مؤلّفه الذي أصدره سنة 2002 «كونيّة القرآن… مفكّر حرّ في الإسلام». ولئن كانت القراءة المقاصديّة للقرآن سابقة عليه ضمن إطار تفاسير القرآن وتأويلاته (لنستحضر الشّاطبيّ، القرن الثامن للهجرة، وكتابه «الموافقات»)؛ فإنّه يقرنها بالرّاهن الثقافيّ، أي هو يدعو إلى عدم التّقيّد بالقراءات والتّفاسير القديمة، وإنّما إلى أن يتدبّر مسلم اليوم صلته بالقرآن مباشرة مقدّراً أنّه بذلك ينسف كلّ وساطة بشريّة بين المسلم وربّه. وقد أثار في كتاباته مسائل حارقة من قبيل «الاجتهاد» و»التّأويل» في القرآن فاقتحم بذلك أصقاعاً لاهوتيّة ومعرفيّة كانت حكراً على العلماء. كما أثار في كتاباته موقع مسلم اليوم في عالَم اليوم. وحلّل في بعضها أسباب انهيار الحضارة العربيّة الإسلاميّة

تناول في أطروحته (باللّغة الفرنسيّة) الدّولة الأغلبيّة التي نال بها شهادة الدّكتوراه من السّوربون سنة 1968. (تمّ نشرها معرّبة عن دار الغرب الإسلاميّ، سنة 1985، تحت عنوان «الدّولة الأغلبيّة-التّاريخ السّياسيّ، ترجمة الدّكتور المنجي الصيّادي). وقد حاول، من خلالها، أن يغطّي كلّ تاريخ إفريقيّة؛ فتكفّل في البحث في السّياسة الخارجيّة والسّياسة الدّاخليّة للأمراء الأغالبة. كما تقصّى عن علاقة الأمير الأغلبيّ في القيروان بالخليفة العبّاسي في بغداد. واستدعى إلى دائرة الفحص التّاريخيّ، في هذه الأطروحة، أعلاماً من سجّلات مختلفة تتراوح بين كبار مسؤولي البلاط وأشهر الشّعراء والفقهاء، فضلاً عن التّجّار والقائمين على الحياة اليوميّة للرّعيّة. وقد استأنف التوسّع في الجانب الاقتصاديّ لهذه الحقبة، فاحصاً العلاقات التّجاريّة بين الإمارات المغربيّة في إفريقيّة وبين عاصمة الخلافة في بحث ركّز فيه على اعتماد السّياسة الاقتصاديّة في إفريقيّة على الفلاحة ودور العبيد في تنمية الحياة الاقتصاديّة في القرن الثالث للهجرة (انظر مؤلّفه بالإنجليزيّة تحت عنوان «الشّريعة والاقتصاد في إفريقيّة في القرن الثالث للهجرة، عن دار The Darwin Press, Princeton, 1981 ).

ولئن ألّف عن ابن خلدون، كما دأب على ذلك بعض أساتذة الجامعة التّونسيّة، فإنّه تفادى الكتابة الاحتفائيّة بهذا العلاّمة كما فعل بعض زملائه في كتاباتهم؛ وإنّما سعى أن يجترح من مقدّمته سوسيولوجيا سياسيّة مبتكرة وأنثروبولوجيا للسّلطان غير مسبوقة. (انظر كتابه «ابن خلدون والتّاريخ» الذي أصدره بالفرنسيّة سنة 1973 عن الدّار التّونسيّة للنّشر).

لم يشذ عن مسار كبار مصلحي عصره؛ فكرّس فكره لقضيّة المرأة، حيث بيّن أنّ إحياء الحضارة العربيّة الإسلاميّة رهن بمنزلة المرأة فيها؛ فإذا كان المجتمع مستمرّاً في وأدها رمزيّاً ومعنويّاً فلن تقوم قائمة لهذه الحضارة وسيكون مآلها، في تقديره، الانحطاط والانهيار لا محالة؛ ولذلك انتصر لمجلّة الأحوال الشّخصيّة في تونس. وقد كتب في هذه القضيّة في مناسبات عديدة، بل لقد ختم بها مسيرته في التّأليف (آخر مؤلّفاته: «الإسلام ليس حجاباً»).

المثقّف العمليّ

لم يكتف بدوره العلميّ والفكريّ، وإنّما انخرط في الفعل السّياسيّ. ويمكن القول في هذا الصّدد بأنّ مشاركته في المشهد السّياسيّ تنقسم إلى ثلاث مراحل. مرحلة أولى تقلّد فيها مهامّ رسميّة في صلب دولة الاستقلال في سياقين متكامليْن: السّياق الجامعيّ، حيث شغل منصب عميد كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بتونس (هو أوّل عميد لها)، والسّياق الثقافيّ حيث رأس اللّجنة الوطنيّة للثقافة في الثّمانينات من القرن الماضي، وهي اللّجنة التي كانت تسهم في تسطير السياسة الثقافيّة بالبلاد والسّهر عليها. ومرحلة ثانية، انخرط فيها في معارضة حكم بن عليّ بانتمائه إلى المجلس الوطنيّ للحرّيات الذي أسهم أيضاً في تأسيسه سنة 1997. فكان لا يتوانى عن حضور الاجتماعات التي تنجح المعارضة في تنظيمها أو فرضها بنضاليّتها. ومرحلة ثالثة، صدح فيها برأيه واضحاً مجلجلاً ضدّ حكم حركة النّهضة، مسفّهاً ادّعاءها للدّيمقراطيّة، ومتّهماً لها بأنّها شقّ من تنظيم «الإخوان المسلمين».

محمّد الطّالبي، المفكّر «الخلافيّ»: أثار بآرائه التي تدعو إلى قراءة القرآن قراءة مباشرة دون المرور بالضّرورة بالتّفاسير المعهودة وبمواقفه التي تستنكر العمل بالشّريعة التي اعتبرها مؤسّسة بشريّة تاريخيّة انتهت صلاحيّتها بزوال سياقها التاريخي والاجتماعي الذي ظهرت فيه؛ أثار حفيظة كثيرين بحقّ وبغير وجه حقّ. فبعضهم تربّى على ثقافة دينيّة محافظة تنتصر للمكرّس وللمعهود من اعتماد التّفاسير الرّاسخة والأحاديث النبويّة الموثوقة؛ وجد في مثل هذه الآراء تشويشاً على العقيدة، وبعضهم ممّن ينتسبون إلى التّيارات السّلفيّة والإخوانيّة وإلى مختلف الحركات المنضوية إلى الإسلام السياسيّ التي لم يتوانَ الطّالبي عن التّنديد بها واتّهامها بالتّطرّف، وبالإرهاب أحياناً، تذرّع بهذه الآراء ذات الطّابع الفكريّ ليحمل على الرّجل ورميه بالعته والمروق عن الدّين. وربّما عزّزت تصريحاته الإعلاميّة في السّنوات القليلة الأخيرة بشأن الخمر والبغاء والرّجم التّشدّد الذي اعترى بعض ردود الفعل عليه محلّياً وعربيّاً. وهو لا يتردّد في انتقاد الخطاب التي تروّجه التّيّارات السّلفيّة؛ فبيّن أنّها في حالة انفصام دينيّ وازدواجيّة فكريّة ممّا يحول دون قدرة هذا الخطاب على التّأقلم مع روح العصر. ولذلك هو يدعو إلى إلغاء أولويّة الحكم الدّينيّ وإعطاء الحكم للشّعب؛ فذلك وحده شرط إصلاح الدّيمقراطيّة.

لكن بغضّ النّظر عن ردود الفعل؛ فإنّ فصله بين القرآن مصدرا وحيدا لفهم المقاصد الإلهيّة وبين الشّريعة مؤسّسةً سلطويّةً فرضها الفقهاء يُعدّ تدبيراً مستحدثاً في القراءات «اللاّهوتيّة» الإسلاميّة لأنّه يقوّض بمثل هذا التّدبير الأسس التي يقوم عليها التّقليد السّلفيّ وينزع عنه كلّ قدسيّة ما دام يرجعه إلى سياق تاريخيّ زائل. على أنّ اللاّفت هو كونه يبسط فكره داخل الدّائرة الإيمانيّة لا من خارجها؛ فهو لا يرى إلى العلمانيّة دخيلاً على الإسلام وإنّما يقرّ بأنّ الحضارة الإسلاميّة عرفت التّدبير العلمانيّ للحكم في فترات مطوّلة. وهو لا يرى إلى الدّيمقراطية خصماً للإسلام وإنّما يعتبر ألاّ إصلاح لشؤون الدّين إلاّ بها.

يحتلّ محمّد الطّالبي بمسيرته العلميّة و«مواقفه» الفكريّة المستنيرة التي يحاول أن يستنبتها داخل الفضاء الإسلاميّ، لا خارجه، موقعاً إشكاليّاً يسفّه من خلاله خصوم الإسلام، ويشدّد الخناق على الظّلاميّة الدّينيّة.

الإسلام.. نصاً وتاريخاً

نشر حوالي ثلاثين مؤلَّفاً ومئات المقالات في كبرى الدّوريّات والمجلاّت الأكاديميّة العلميّة بلغات مختلفة، من ضمنها العربيّة. وتدور مجمل كتاباته على «الإسلام» في صلة بالقرآن الكريم، النّصّ المؤسِّس، وفي صلة بالتّاريخ السّياسيّ، خاصّة مؤسّسة الحكم/‏‏ الدّولة، وفي صلة بالإيمان، وفي صلة بوضع المسلم اليوم، وفي صلة بالشّريعة، وفي صلة بالحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وفي صلة بالمرأة وحقوقها.
___
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *