«المربع» لروبن أوستلوند: فيلم لاذع حاد موجع السخرية من النخبة الثقافية

*نسرين علام

ضجت القاعة الضخمة، التي امتلأت مقاعدها تماما، فلم يبق فيها مقعد شاغر، بالضحك من القلب مرارا أثناء العرض الصحافي لفيلم المخرج السويدي روبن أوستلوند «المربع»، الذي يتنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان في دورته السبعين. فيلم ساخر لاذع، يقدم الضحك بذكاء ونقد بالغين، ليس بالضحك الفارغ، ولكنه ضحك يأتي من رؤية أنفسنا ومجتمعنا تحت المجهر فيه، خاصة طبقة النخبة الثقافية.
تدور أحداث الفيلم في ستوكهولم، والشخصية المحورية فيه هي كريستيان (كلييس بانغ)، وهو أربعيني وسيم وأنيق للغاية، أنيق تلك الأناقة الراقية، التي لا تخلو من الادعاء، التي يتسم بها من هم في منصبه وطبقته، فهو مدير متحف للفن الحديث. يحمل كريستيان منصبه كما لو كان شارة على جبينه، ويرسم صورته بكل الكمالايات التي يتطلبها المنصب: النظارة الفاخرة، الحلل الأنيقة، السيارة الحديثة التسلا، التي تدار بالكهرباء، فهو على وعي كبير بالبيئة، كما يجدر بمثقف كبير.
ويأتي المكمل الأكبر لصورة كريستيان في صورة الكلمات الضخمة المتثاقفة الوقع، والتي يجب أن تكون في الحصيلة اللغوية لطبقة «المثقفين». يبدأ الفيلم بمقابلة بين صحافية أمريكية وكريستيان، تحاول خلالها استيضاح معنى عبارة ذات وقع عميق كتبها في كتيب أحد المعارض، ويبدو أن كرستان ذاته، لم يجد تفسيرا لمعنى عباراته الضخمة! عبارات جوفاء رنانة تعطي إيحاء بالثقافة مع خواء جوهرها.
جاء فيلم أوستلوند السابق «قوة قاهرة» كاشفا لكل أوجه الخلل في العلاقة بين زوجين، ذلك الخلل الذي لم يكشفه سوى حادث عارض صادم تتعرض له الأسرة، التي تبدو من بعيد مثالية كاملة.
وفي «المربع» يأتي أيضا حادث عارض تماما ليكشف الخلل في صورة كريستيان التي تبدو كاملة مبهرة في ظاهرها. في طريقه للعمل وقبالة مدخل المتحف تصيح امرأة تركض في هلع طالبة النجدة قائلة إن هناك من يلحقها مهددا إياها بالقتل. يتدخل كريستيان للمساعدة، كما يجدر برجل شهم، ولكنه يكتشف لاحقا أن الأمر برمته كان حيلة لسرقة حافظة نقوده وهاتفه المحمول. وكيف يرضى من هو على اعتداد كريستيان بنفسه بأن يُخدع ويُسرق!
إثر ذلك يصحبنا أوستلاند في رحلة مجنونة وبها من الغرائبية الكثير وتزخر بالسخرية نبحر فيها في عالم كريستيان وعالم الفن الحديث والثقافة المعاصرة، وتكشف رحلة العثور على الهاتف السليب الكثير عن قيم كريستيان، تلك القيم التي تحتاج لاختبار لاكتشاف مدى صدقها.
في معرض بحثه عن الهاتف المسروق يدخل كريستيان في مواجهة مع طفل صغير وتكشف المواجهة مدى هشاشة كريستيان ومدى كذب قيمه عن الحق والصدق وفعل الواجب.
وفي عالم كريستيان المترف المرفه الآمن الذي لا خطر ولا مغامرة فيه، تأتي رحلة البحث عن الهاتف كمغامرة تبث الروح والحياة والإحساس بالخطر في نفس كريستيان. يقدم أوستلوند تعليقا على ذلك المجتمع الأوروبي الشمالي الثري الذي يعيش سكانه في خواء روحي واعتياد للأمان الراكد مما يجعله يبحث عن أي مصدر للإثارة التي تبث فيه الروح.
يستمد الفيلم عنوانه من فكرة معرض يستعد المتحف الذي يديره كريستيان لإطلاقه. يسعى طاقم الدعاية والعلاقات العامة في المتحف تحت إدارة كريستيان لعمل حملة ترويجية للمعرض الجديد لجذب أكبر عدد من الزوار للمتحف. وفي عصر تسيطر عليه الانترنت، يفكر طاقم العمل في فكرة ترويجية لا تراعي أي قيم إنسانية أو حساسيات، فالقيم لا مكان لها في عالم يقيَّم فيه النجاح بعدد متابعي صفحة الفيسبوك الخاصة بالمتحف أو العدد القياسي لمشاهدة الفيديو الترويجي على قناة «يوتيوب» للمتحف، بغض النظر عما يحمل الفيديو من أفكار سامة. عالم الفن والثقافة المعاصرين كما يصورهما أوستلوند يغص بالادعاء والرغبة في الظهور على حساب أي قيمة فنية حقة.
ويصل الفيلم ذروة تعليقه على عالم الفن المعاصر وادعائه وتثاقفه في مشهدين بالغي السخرية. المشهد الأول عن معرض مكون من أكوام متساوية من قصاصات الأوراق، فيزيل عمال النظافة في المتحف جزءا منها أثناء التنظف. إنه الفن المدعي الذي ليس في الواقع إلا قمامة يجب أن تزال حتى يصبح المكان أنيقا! والمشهد الآخر هو عرض لذلك الفنان المعاصر، الذي يؤدي عرضا يبدو فيه كما لو كان غوريلا شرسة فيثير الفزع السيريالي الغرائبي وسط الحضور في حفل أنيق. يضعنا الفيلم في مواجهة سؤال هام وهو: ما هو حقا الفن؟ هل كل ما اقتنته المتاحف وعرضته قاعات العرض يعد حقا أعمالا فنية؟
يقدم أوستلوند في الفيلم نقدا لاذعا على المجتمع الاسكندنافي المترف المغرق في رفاهيته وفي ادعاءاته المعرفية والثقافية. ولا يفوت أوستلوند الفرصة لكشف الجانب الآخر للحياة، ذلك الجانب الذي يتعامى عنه المجمتمع الأنيق. إنه عالم المشردين الذين يبيتون في العراء والمهاجرين الذي يتسولون قوت يومهم، هؤلاء الغائبين عن وعي كريستيان وطبقته في حياتهم اليومية، والذين لا يكتشف وجودهم إلا في رحلته في قلب المدينة بحثا عن رمز هذا العصر، ذلك الرمز الذي يوحي لنا أننا على دراية واتصال بالعالم بأسره رغم وحدتنا ووحشتنا، ذلك الجهاز الصغير، الذي نحن أسراه وعبيده: الهاتف المحمول، الذي سرق منه. لا تفوت أوستلوند أي فرصة لكشف مثالب مجتمعه وأوجه الخلل فيه في فيلم ساخر مضحك ولكنه لاذع موجع كمبضع جراح.
_______

*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *