*جابر طاحون
هاري ماثيوز روائي وشاعر ومترجم أمريكي، نُشر له أكثر من ثلاثين عملاً تنوعت ما بين الرواية والشعر والقصة القصيرة، ومن أشهر أعماله: تولوز، سجائر، حياتي في السي أي أيه، المحادثات، الصحفي، وعشرون سطرًا يوميًا.
جورج بيريك كان يقول عنه إنه يكتب بقواعد قادمة من كوكب آخر، حيث اشتهر ماثيوز باستخدام المنهجية الرياضية في بناء بعض رواياته، وهو كان عضوًا في جماعة أوليبو، وهي جماعة تتحدث الفرنسية وتستخدم الرياضيات والمعادلات في الكتابة وتهتم بفلسفة العلاقة بينهما (الكتابة والرياضيات).
اشتهر ماثيوز بالتجريب والبعض كان يصفه بأنه منطقة تقاطع بيكيت وجويس وكافكا رغم أسلوبه الكلاسيكي مقارنة بنباكوف وجين أوستن.
تصدر له رواية قريبًا وهي آخر ما كتب قبل وفاته منذ أكثر من شهر عن عمر 87عامًا. وكانت قد أجرت معه سوزانا هو نويل هذا الحوار لصالح باريس ريفيو.
هل تضع الجمهور في اعتبارك حين تكتب؟
كنت أقول دائمًا إن قارئي المثالي يمكن أن يكون شخصاً بعد انتهائه من قراءة إحدي رواياتي، يقوم بإلقائها من النافذة، يحتمل من طابق علوي في مبني سكني في نيويورك، وفيما هي تسقط، يقوم بركوب المصعد ليستعيدها.
يُفترض أن أحلم باعتراف أكبر، ولكن كان لدي دومًا الجمهور الذي أريده، وكان ذلك الجمهور الذي يقرأ الشعر. ما أريده هوالحماسة بين أصدقائي وأصدقاء أصدقائي. القراء الذين أعرافهم، قراء جيدون.
متي بدأت الكتابة؟
أول قصيدة جدية كتبتها وقت كنت في سن الحادية عشرة. كنت قد التحقت بمدرسة للبنين تدعي سانت برنارد. كان لي مدرس إنجليزية رائع، كون فصلاً خاصاً في الشعر اللاتيني والإنجليزي، لي وبعض التلاميذ الآخرين. في يوم ما في الفصل كتبت أول قصيدة، قرأها، حدق خارج النافذة مع تعبير: ماذا فعلت؟ لم تهدف مدارس “واسب” الخاصة إلي أن تخرج شعراء. الأطباء، المحامين، رجال الأعمال وهكذا.
ماذا قرأت وأنت طفل؟
جدي كان يدرّس اليونانية واللاتينية في جامعة كولومبيا، وقرأ لي من نسخ مختصرة للإلياذة والأوديسة، بالإضافة إلي الكثير من الحكايات الخرافية، والتي، كما تعرف، مزعجة للغاية.
بعد ذلك بدأت قراءاتي الخاصة، قراءات معظمها غربية. والداي استحسنوا ذلك، علي الأقل كانت كتباً. ولكن وقت أخذت أقرأ الكتب المصورة، استهجنوا ذلك. كان يمكنني قراءتها علي ضوء المصباح تحت الأغطية في الفراش. لم يدرك أحد في تلك الأيام أن ” أكشن كوميكس”، “دي سي كوميكس”، سوبرمان وباتمان، يمكن أن يصبحوا أساطير في الثقافة الأمريكية. لقد علموني الكثير عن السرد، الكثير من الابتكارات وعدم التظاهر بالواقعية.
تزوجت في التاسعة عشرة وأنجبت في الواحد والعشرين. هذه أمور شديدة التقليدية.
الزواج كان وسيلة ناكي ووسيلتي للخروج من جنوب الجانب الشرقي. كنا في طريقنا نحو الجنون في هذا العالم، كان خانقًا أكثر مما هو عليه الآن. عرفت أن الجحيم سيصل مداه إن تزوجنا، وقد كان، أدي ذلك إلي القطيعة مع والديّ والتي طالت لعشرين عامًا حتي تسويتها. والداي قدما تضحيات كبيرة لي، أرسلوني إلي أفضل المدارس والكليات الموجودة. الفكرة كلها بالنسبة لي كانت أن أصبح رجلاً مسئولاً مع وظيفة مكتبية في نيويورك. الأمر الوحيد بصفة التضحية الذي قدمته إليهما كان إنهائي الدراسة في هارفرد بعد سنتين في البحرية.
ماذا درست هناك؟
تخصصت في الموسيقي. الأدب كان حبي الكبير، وكنت مصممًا علي الحفاظ عليه بلا شائبة من الدراسة الأكاديمية، نتيجةً لذلك كنت أقرأ بشكل غير متساو في كلاسيكيات الأدب الإنجليزي، أوأي أدب علي هذه الشاكلة.
بالنظر لاهتماماتك اللاحقة، أنت اهتممت بالجانبين المنهجي والحسابي للموسيقي؟
صحيح. ومثال علي ذلك؛ يوجد مدرسة موسيقية من القرن الرابع عشر اسمها “أرس نوفا”، فيها متطلبات منهجية مفصّلة تسيّر العرض. تلك الطريقة ابتكرها فيليب دي فيرتي (موسيقي فرنسي)، واستمرت بواسطة العظيم غيوم دوماشو (موسيقي وشاعر فرنسي)، كانت فترة تشبه كثيرًا مدرسة الاثنتي عشرة نغمة؛ فيها هؤلاء الموسيقيون العظام تبعهم مجموعة كبري من التلاميذ الذين تناولوا طرقهم لفترة مهولة. كان بإمكانهم تأليف موسيقي من ثلاثين نوتة موسيقية في مقابل تسع نوتات التي يمكن أن تُؤدي في مقابل خمسة. أمور يصعب تمييزها علي الصفحة.
دراسة أرس نوفا كان انغماسًا في طريقة غير رومانسية أو درامية لتأليف الموسيقي.
لو غير رومانسية وغير درامية، ماذا يعني ذلك؟
في أبهي حالاتها، إنها فائقة الجمال. الموسيقي في كثير من الأحيان صَدَّاحة، ما قصدته بغير درامية هوأن البنية المنهجية المستخدمة لم توجد لتنتج تأثيرا معينا علي المستمع. مثل المقطع الشعري، كانت أدوات يستخدمها الموسيقيون ليؤلفوا موسيقاهم، وهذا في الواقع ما كان يفعله الشعراء دائمًا، حتي جاء الشعر الحر. المثير بخصوص الأشكال الشعرية المعقدة؟ ليس لديها أي قيمة درامية أو عاطفية. استخدامها الرئيسي هو بناء القصيدة.
هل حاولت فعل أي شيء بدرجتك الموسيقية؟
كان من المفترض أن أدرس سنة دراسة كاملة في الايكول نورمال دي ميوزك في باريس، لكني تراجعت بعد ثلاثة أشهر، لم أشعر بالارتياح، ربما لعلمي أن أذني ميؤوس منها.
قابلت جون أشبيري في باريس. ما هو تأثيره عليك؟
بخصوصه أظن أن حياتي الكتابية بدأت حين قابلته. كان قد نشر كتابه الأول، لكنه لا يتحدث أبدًا بالكثير عن الشعر. كان منضبطًا جدًا، رغم الحياة التي يعيشها في الليل؛ مخمورًا ومحمولاً. أخبرني عن الشعراء الفرنسيين المعاصرين مثل بيير ريفيردي وهنري ميشو، لم أكن قرأت أيًا منهم. بعد أسبوعين، أعطيته قصيدة، قرأها وقال: أري أنك قرأت كل الشعراء الذين رشحتهم لك. لكني لم أكن قد فعلت. ذِكره لهم، والوصف الوجيز، كانا كافيين لتبديل كتابتي. هكذا تسير الأمور. لقد قلت دائمًا، أني تأثرت كثيرًا بحكايات هو ثورن، رغم أني لم أقرأها أبدًا.
هناك أمر آخر مهم فعله. عندما سألته هل مقبول أن أفعل هذا أو ذاك في قصيدة، أخبرني أنه يمكنني فعل أي شيء أريده. وكان ذلك وداعًا لنماذج نيويورك أوأية نماذج أخري. في حياتي كان هذا تحولاً جذريًا. كنت دائمًا حريصًا علي أن تكون الأمور في نصابها الصحيح.
في تلك الأثناء، أنت، جون آشبيري، كينيثكوش وجيمس شوكيولر أسستم مجلة لوكس سولز. كيف تحقق ذلك؟
جدي توفي في 1959وترك لي عشرين ألف دولار، وهي مثل مائة وأربعين ألف دولار هذه الأيام. جون قال: لم لا تستخدم بعض المال لتنشئ مجلة؟ لذا وافقت علي وضع خمسة آلاف دولار في لوكس سولز، دون أدني علم بما أنا مقبل عليه. هذه هي النقطة وقت كان زواجي من نيكي ينهار، ووفر لي شيئاً لفعله حين كنت أحاول أن أتخطي ذلك.
كيف تصورت المجلة؟
لم أكن أعرف الكثير عن الكتابة الجديدة، ربما كنت أقرأ لناس مثل ثيودور رويثك وروبرت لويل. ولعي كان إليوت وباوند. لم أكن قرأت شيء لولاس ستيفنز. لذا قررت أن تكون لوكس سولز صوت الآخرين، ومثل الآخرين كنت أمتلك الفيتو، ولأني كنت جاهلاً، نادرًا ما تجرأت علي استخدامه. كانت فكرتهم نشر أعمالهم وأعمال أصدقائهم. نتج عن المجلة دائرة صغيرة، منها ثلاثة فائزين بالبوليتزر. لا تحدق فيّ!
تظن أنك كنت جزءاً من حركة ما؟
نحن نُصنف بانتمائنا إلي مدرسة نيويورك، لأنه لم يكن هناك أي مدرسة. كان هناك القليل مشترك بين كتابة جون، جيمي، كينيث وأنا.
لماذا استمرت لوكس سولز لأربعة أعداد فقط؟
الخمسة آلاف دولار نفدت.
ماذا عن إيتالو كالفينو؟
كان رجلاً رائعًا، يتأتئ وخجول. علي العكس تمامًا من كتاباته، وقت عليه أن يتحدث إلي مجموعة كان صعبًا عليه.
هل يمكنك أن تتذكر شيء بخصوصه؟
أتذكر شيء. حين يؤدي المغنون يبدأون بسكون ويتبعونه بسلسلة من العلة، مثل ثنائية بوبو. هو بإمكانه أخذ تلك الأصوات ويعيد توزيعها صوتيًا لتصبح كلمات، والتي تاليًا تصبح جملاً. وبعد ذلك يشكلهم في قصة ليخلق معني لتلك الجمل المبهمة.
ماذا عن ابتكارك الخاص، خوارزمية ماثيوز؟
إنها معقدة للغاية.
شكرًا لقولك ذلك.
حسنًا. تعتمد الفكرة علي تباديل دائرية بسيطة. مثلاً، هناك أربعة خطوط من أربع كلمات لكل منها. أنت تبدل كل كلمة، في موضع، اثنين أوثلاثة، من اليمين أواليسار، ومن ثم، ها لديك جملة جديدة. يمكن تطبيق هذا النظام علي أي كيان لغوي.
أنت ابتكرت أيضًا شيء يسمي perverb. ما هذا؟
perverb- الكلمة صاغها ماكسين جروفسكي- نتاج تقاطع حكمتين/ أمثولتين يمكن تقسيمهما بسهولة إلي نصفين. مثلًا “كل الطرق تؤدي إلي روما” و”لا حال في كثرة الترحال/ غنم من استقر” ينتج عنهما: ” كل الترحال يؤدي إلي روما” و” لا غنيمة في سلوك كل الطرق”.
نحن نسمع دائمًا عن باريس في الثلاثينيات، باريس في الخمسينيات. كيف كانت باريس في السبعينيات؟
سأخبرك شيئًا واحدًا كان لطيفًا. في السبعينيات ظهرت موضة جديدة ظريفة في الملابس، امتلكت بدلة إدواردية من ثلاث قطع، أطراف الأكمام محززة ورمادية، والبنطلون شديد الضيق والسترة طويلة مع ياقة متعجرف.
والداي كانا مفزوعين بالكامل من طريقة لبسي، لأنه كان لديهما هاجس دائم أني كنت مثلي الجنس.
هل كنت ترتدي تلك الملابس من أجل الحفلات؟
باريس كانت بها حفلات أقل من نيويورك. كانت هناك الكثير من الأماكن لاكتشافها والقليل من الأندية.
ماذا يفعل كل الكتاب؟
يبقون بعيدين عن بعضهم البعض. مرة سألت كل الكتاب الفرنسيين الذين عرفتهم، وكانت واحدة من أكثر التجارب احباطًا بالنسبة لي،نادرًا ما يتحدث واحد إلي الآخر.
هل لذلك رجعت للولايات المتحدة؟
رجعت إلي الولايات المتحدة في عام 1976 للتدريس في بينينغتون. في تلك الأثناء قررت أن أكتب رواية أو ليبيانية (تجمع كتاب وعلماء الرياضة الناطقين بالفرنسية). شكّلت مخطوط استنتاج لتباديل المواقف التي فيها إيه سيقابل بي، وبي سيقابل سي وهكذا.
لا جدوي من البحث في ذلك الآن لأن لا أحد سيكتشفها ولا حتي أنا. علي أية حال، بقيت متسمرًا في ذلك لمدة عام، وخلال تلك الفترة بدأت الناس تظهر، ثم المواقف، ثم القصص. وشيء مفاجئ حدث. لم أكن أبدًا قادرًا علي كتابة العالم الذي كبرت فيه، لكن سجائر اتاحت لي ذلك.
رواياتك وقصصك القصيرة تضم الكثير من النوادر ودة سخافات. هل تحتفظ باستمرار بدفتر لهذا النوع من المواد؟
لا منهجية. أنا فعلاً أحتفظ ببعض الأشياء،علي سبيل المثال في “الصحفي” فقرة كاملة مأخوذة من مراجعة صحيفة لمطعم تشيكي في ألبانيا. إنها ليست حرفية، لكن تقريبًا بالنسبة للقصص، كثير منها يبدأ بفكرة منافية للعقل. مثلاً، المجتمع القديم في ” ملاحظات طالب الدراسات العليا” الذي يستخدم الخط الأفقي كرسالته الوحيدة. أنا بدأت بذلك ثم تساءلت، ماذا يحدث بعد ذلك؟
كيف جاءتك فكرة قصة الأشهر “بلد الطبخ من وسط فرنسا”؟
دانيال هالبيرن (شاعر أمريكي) رئيس تحرير أنتايس، أعلن عن رحلة كتابة وسألني ما إن كنت أرغب في الانضمام. السفر في حد ذاته لم يكن مصدر إلهام لي، لكن بعد ذلك فكرت بخصوص وصفة أجنبية، وصفة توظف مكونات وطرقاً معروفة للمطبخ الأوروبي، باستثناء السكر والخبز؟ كان ذلك ذريعة. أثناء الكتابة جاءت المشاهد والأحداث من تلقاء نفسها.
يمكن أن نسمي كتابتك تصويرية أو تجريدية كما في الرسم أو النحت؟
بالنسبة لي، التجانس الأفضل هو الموسيقي. تعرف كاتباً فرنسياً اسمه جان ايشونز؟ طُلب مني مرة الانضمام إلي حلقة نقاش حول عمله. كان هناك بنفسه، وواحد سأله: ماذا يعني الذي تكتب؟ الحاضرون في حلقة النقاش كانوا مفكرين فرنسيين تعليمهم جيد، صدقني، تعليمهم جيد، لكنهم تفاجئوا وأًصبحوا مرتبكين مع إجابات معقدة وغير مرضية. انتقلنا للسؤال التالي. بعد عشرين دقيقة، قال جان أريد العودة إلي ذلك السؤال. معني الذي أكتبه؟ المعني هو الصوت. كنت مندهشًا تمامًا. أدركت أنه قد أصاب عين الثور. أظن أن ما علي الكتاب الجيدين فعله هوإعادة العمل علي الجمل والفقرات، بحث يتناغم السرد ويعمل بالضبط بالطريقة التي يريدونه أن يعمل بها، أيًا كان ما يقوله. وبالنسبة لي ذلك ظاهرة موسيقية.
ما الذي يوفره لك الشعر ولا توفره الرواية؟
شيء واحد، هو إمكانية إنجازه بسرعة. قصيدتي الأطول حوالي 10 صفحات. وقت أجلس لأكتب رواية، أعرف أنه سيكون وقتًا طويلاً. أفكر دائمًا فيما قاله ويليام جاديس لي ذات مرة: الرواية التي لم تنته مثل الضيف المريض. أحلم باليوم الذي تنتهي فيه الرواية، رغم ذلك يوم انتهاء المسودة الأخيرة خيبة كبيرة، الشيء الوحيد الأسوأ منه هو يوم النشر.
هل يزعجك أن يُساء تفسيرك؟
لا أظن أن هناك شيئاً من هذا القبيل. النثر لدي يطمح لأن يكون شعرًا. هناك قصائد لم تُفسر أبدًا علي نحومُرضٍ، مثل قصيدة بليك:” الدودة غير المرئية/ التي تطير في الليل/ في عويل العاصفة/ وجدت فراشها/ من الفرح القرمزي”، قصيدة فاتنة، لكن التفسيرات تبدأ من الغولاش (اللحم علي الطريقة الهنغارية) إلي الزُهري.
إذن لا يهم؟
يهم طبعًا، لكن معني القصيدة هو قراءة القصيدة. لم يؤثر فيك بليك؟ إنه يؤثر فيّ. من الواضح أن شيئاً يحدث، لكن أن تقول ماذا يحدث أوما يعني من حيث الصياغة لا يهم. هناك العديد من الأِشياء التي كتبتها لم أفهمهما إلا بعد وقت طويل.
ما هي عاداتك بخصوص الكتابة؟
اعتدت أن استيقظ وأكون علي مكتبي في التاسعة صباحًا. الآن أنا محظوظ إن بدأت في الحادية عشرة. أقوم بمعظم عملي بالايميل والانترنت بعد الظهيرة. في البداية أكتب بيدي، أنسخ ما كتبت علي الكومبيوتر، أطبعه، أصححه بيدي، وهكذا.
تعدل كثيرًا؟
إلي ما لا نهاية. دائمًا ما أضع مدي 300 صفحة للرواية، ولكن مهما كان طول المسودة الأولي، مع قطع الأغصان الميتة، تتضاءل إلي حوالي مائتي صفحة. باستثناء الكتابة بالفرنسية. كل شيء في الفرنسية ينتج أطول.
بالرغم من شهرتك في فرنسا، أنت قلت إن الأمريكيين وحدهم يستطيعون فهم أعمالك.أمر صعب أن يفهم قارئ ليس من لغة الكاتب الأم ما يفعله. وهناك مسحة درامية في كل ما أكتبه، وهذا هوالأمريكي عادة. “بلد الطبخ” ليست مجرد قصة في شكل وصفة، الراوي الذي هومزردٍ وفظ، يضفي علي القصة صبغة درامية.
الأمريكي شخص درامي؟
نعم. مرة حضرت محاضرة لصحفي إيطالي عن الأفلام الإباحية. كان يقول: الإباحية الأمريكية دومًا درامية، بينما الإباحية الفرنسية، ممارسة مجردة مستمرة للجنس، مع حد أدني للحركة. أظن أن هذا حقيقي بخصوص الكتابة الأمريكية أيضًا، هناك دومًا ما يبدو وكأن إشكالية أخلاقية مقحمة في كل ما نقوم به.
عملك الأخير، حياتي في السي أي إيه، مذكرات افتراضية لحياتك في باريس في فترة السبعينيات، حين كان الناس يشتبهون في كونك عميل للمخابرات لأنك كنت أمريكياً ولم يكن لك وظيفة واضحة. لماذا قررت أن تكتب سيرة تخيلية؟
الكثير من الأِشياء تدخلت في نشأة الكتاب. إحداها كان حقيقة كوني عميلاً للمخابرات الأمريكية. عامل آخر أني سئمت من سيل المذكرات والتي كانت مألوفة في العقود الأخيرة. بالنسبة لي كانت هناك أخطاء فادحة ترتكب في الطريقة التي يقيم بها الناس تلك الكتب.
في حديث ألقيته في جامعة بنسلفانيا، سيدة صارمة كانت تدرِّس الكتابة الإبداعية، حذرتني: يجب أن تدرك أن الكاتب عليه مسئولية قول الحقيقة حين يكتب عن حياته الشخصية. وفكرت: هذا هراء. لم أرغب في الدخول في جدال، لكني قلت: ماذا عن مارسيل بروست؟ هل من الأفضل أن يكون هناك حساب حول ما فعله فعلًا أوالابتكار المذهل لحياة فيها بطل الرواية اسمه مارسيل؟
هكذا اًصبحت مهتمًا باستخدام جزء من حياتي كمادة لسيرة. في النهاية، اقتنعت بنشره كرواية. لقد نصحني ناشري: هاري، إن نشرته كسيرة، سينحصر في خانة السيرة. إن نشرته كرواية، برودر آند بارنرز سيطلب عشرات النسخ. لهذا أصبحت رواية.
لو كانت نشرت كسيرة، كنت ستتورط في مشاكل؟
تظن أن أي أحد قد يكلف نفسه العناء؟ وكيف يمكنهم إُثبات أي شيء؟ حين سُئلت عن كتاب السي أي إيه، جوابي كان: كل ما قلته صحيح، وكل ما قلته زائف، مثل أي كتاب. لا مانع في التحدث عنه، لكن الوقائع ليست الحقيقة. الواقع مسألة مقاربات.
هنري جيمس قال مرة إن الرسام الفيينيسيتين توريتو لم يرسم أبدًا خط دون غاية. وذلك يبدو جنونيًا لأن تينتوريت وكان يرسم بعشوائية في كل مكان. خلصت إلي أن جيمس كان يعني أن مسئولية الفنان هي جعل شيء حقيقي يحدث مهما تطلب الأمر. وبالنسبة لي تلك هي غاية الكاتب: جعل شيء حقيقي يحدث فوق الورق وعلاقته بالواقع غير حقيقية.
الشيء الذي قلته مرارًا وتكرارًا والذي أريد أن أؤكده في جميع كتبي، أن تجربة القراءة هي تجربة القراءة. في أمريكا هناك تقليد يقول إن ما يجب أن يفعله الأدب هو أن يقدم لك شيئًا حقيقيًا. لكن الشيء الحقيقي الوحيد بالنسبة لي هو الكتابة.
________
*أخبار الأدب