هاري ماثيوز‮: ‬ الشيء الحقيقي الوحيد بالنسبة لي هو الكتابة

*جابر طاحون

هاري ماثيوز روائي وشاعر ومترجم أمريكي،‮ ‬نُشر له أكثر من ثلاثين عملاً‮ ‬تنوعت ما بين الرواية والشعر والقصة القصيرة،‮ ‬ومن أشهر أعماله‮: ‬تولوز،‮ ‬سجائر،‮ ‬حياتي في السي أي أيه،‮ ‬المحادثات،‮ ‬الصحفي،‮ ‬وعشرون سطرًا‮ ‬يوميًا‮.‬
جورج بيريك كان‮ ‬يقول عنه إنه‮ ‬يكتب بقواعد قادمة من كوكب آخر،‮ ‬حيث اشتهر ماثيوز باستخدام المنهجية الرياضية في بناء بعض رواياته،‮ ‬وهو كان عضوًا في جماعة أوليبو،‮ ‬وهي جماعة تتحدث الفرنسية وتستخدم الرياضيات والمعادلات في الكتابة وتهتم بفلسفة العلاقة بينهما‮ (‬الكتابة والرياضيات‮).‬
اشتهر ماثيوز بالتجريب والبعض كان‮ ‬يصفه بأنه منطقة تقاطع بيكيت وجويس وكافكا رغم أسلوبه الكلاسيكي مقارنة بنباكوف وجين أوستن‮. ‬
‮ ‬تصدر له رواية قريبًا وهي آخر ما كتب قبل وفاته منذ أكثر من شهر عن عمر‮ ‬87عامًا‮. ‬وكانت قد أجرت معه سوزانا هو نويل هذا الحوار لصالح باريس ريفيو‮.‬

هل تضع الجمهور في اعتبارك حين تكتب؟
كنت أقول دائمًا إن قارئي المثالي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون شخصاً‮ ‬بعد انتهائه من قراءة إحدي رواياتي،‮ ‬يقوم بإلقائها من النافذة،‮ ‬يحتمل من طابق علوي في مبني سكني في نيويورك،‮ ‬وفيما هي تسقط،‮ ‬يقوم بركوب المصعد ليستعيدها‮.‬
يُفترض أن أحلم باعتراف أكبر،‮ ‬ولكن كان لدي دومًا الجمهور الذي أريده،‮ ‬وكان ذلك الجمهور الذي‮ ‬يقرأ الشعر‮. ‬ما أريده هوالحماسة بين أصدقائي وأصدقاء أصدقائي‮. ‬القراء الذين أعرافهم،‮ ‬قراء جيدون‮.‬
متي بدأت الكتابة؟
أول قصيدة جدية كتبتها وقت كنت في سن الحادية عشرة‮. ‬كنت قد التحقت بمدرسة للبنين تدعي سانت برنارد‮. ‬كان لي مدرس إنجليزية رائع،‮ ‬كون فصلاً‮ ‬خاصاً‮ ‬في الشعر اللاتيني والإنجليزي،‮ ‬لي وبعض التلاميذ الآخرين‮. ‬في‮ ‬يوم ما في الفصل كتبت أول قصيدة،‮ ‬قرأها،‮ ‬حدق خارج النافذة مع تعبير‮: ‬ماذا فعلت؟ لم تهدف مدارس‮ “‬واسب‮” ‬الخاصة إلي أن تخرج شعراء‮. ‬الأطباء،‮ ‬المحامين،‮ ‬رجال الأعمال وهكذا‮.‬

ماذا قرأت وأنت طفل؟
جدي كان‮ ‬يدرّس اليونانية واللاتينية في جامعة كولومبيا،‮ ‬وقرأ لي من نسخ مختصرة للإلياذة والأوديسة،‮ ‬بالإضافة إلي الكثير من الحكايات الخرافية،‮ ‬والتي،‮ ‬كما تعرف،‮ ‬مزعجة للغاية‮.‬
بعد ذلك بدأت قراءاتي الخاصة،‮ ‬قراءات معظمها‮ ‬غربية‮. ‬والداي‮ ‬استحسنوا ذلك،‮ ‬علي الأقل كانت كتباً‮. ‬ولكن وقت أخذت أقرأ الكتب المصورة،‮ ‬استهجنوا ذلك‮. ‬كان‮ ‬يمكنني قراءتها علي ضوء المصباح تحت الأغطية في الفراش‮. ‬لم‮ ‬يدرك أحد في تلك الأيام أن‮ ” ‬أكشن كوميكس‮”‬،‮ “‬دي سي كوميكس‮”‬،‮ ‬سوبرمان وباتمان،‮ ‬يمكن أن‮ ‬يصبحوا أساطير في الثقافة الأمريكية‮. ‬لقد علموني‮ ‬الكثير عن السرد،‮ ‬الكثير من الابتكارات وعدم التظاهر بالواقعية‮.‬
تزوجت في التاسعة عشرة وأنجبت في الواحد والعشرين‮. ‬هذه أمور شديدة التقليدية‮. ‬
الزواج كان وسيلة ناكي ووسيلتي للخروج من جنوب الجانب الشرقي‮. ‬كنا في طريقنا نحو الجنون في هذا العالم،‮ ‬كان خانقًا أكثر مما هو عليه الآن‮. ‬عرفت أن الجحيم سيصل مداه إن تزوجنا،‮ ‬وقد كان،‮ ‬أدي ذلك إلي القطيعة مع والديّ‮ ‬والتي طالت لعشرين عامًا حتي تسويتها‮. ‬والداي‮ ‬قدما تضحيات كبيرة لي،‮ ‬أرسلوني إلي أفضل المدارس والكليات الموجودة‮. الفكرة كلها بالنسبة لي كانت أن أصبح رجلاً‮ ‬مسئولاً‮ ‬مع وظيفة مكتبية في نيويورك‮. ‬الأمر الوحيد بصفة التضحية الذي قدمته إليهما كان إنهائي الدراسة في هارفرد بعد سنتين في البحرية‮.‬
ماذا درست هناك؟
تخصصت في الموسيقي‮. ‬الأدب كان حبي الكبير،‮ ‬وكنت مصممًا علي الحفاظ عليه بلا شائبة من الدراسة الأكاديمية،‮ ‬نتيجةً‮ ‬لذلك كنت أقرأ بشكل‮ ‬غير متساو في كلاسيكيات الأدب الإنجليزي،‮ ‬أوأي أدب علي هذه الشاكلة‮.‬
بالنظر لاهتماماتك اللاحقة،‮ ‬أنت اهتممت بالجانبين المنهجي والحسابي للموسيقي؟
صحيح‮. ‬ومثال علي ذلك؛‮ ‬يوجد مدرسة موسيقية من القرن الرابع عشر اسمها‮ “‬أرس نوفا‮”‬،‮ ‬فيها متطلبات منهجية مفصّلة تسيّر العرض‮. ‬تلك الطريقة ابتكرها فيليب دي فيرتي‮ (‬موسيقي فرنسي‮)‬،‮ ‬واستمرت بواسطة العظيم‮ ‬غيوم دوماشو‮ (‬موسيقي وشاعر فرنسي‮)‬،‮ ‬كانت فترة تشبه كثيرًا مدرسة الاثنتي عشرة نغمة؛ فيها هؤلاء الموسيقيون العظام تبعهم مجموعة كبري من التلاميذ الذين تناولوا طرقهم لفترة مهولة‮. ‬كان بإمكانهم تأليف موسيقي من ثلاثين نوتة موسيقية في مقابل تسع نوتات التي‮ ‬يمكن أن تُؤدي في مقابل خمسة‮. ‬أمور‮ ‬يصعب تمييزها علي الصفحة‮. ‬
دراسة أرس نوفا كان انغماسًا في طريقة‮ ‬غير رومانسية أو‮ ‬درامية لتأليف الموسيقي‮. ‬
‮ ‬لو‮ ‬غير رومانسية وغير درامية،‮ ‬ماذا‮ ‬يعني ذلك؟
في أبهي حالاتها،‮ ‬إنها فائقة الجمال‮. ‬الموسيقي في كثير من الأحيان صَدَّاحة،‮ ‬ما قصدته بغير درامية هوأن البنية المنهجية المستخدمة لم توجد لتنتج تأثيرا معينا علي المستمع‮. ‬مثل المقطع الشعري،‮ ‬كانت أدوات‮ ‬يستخدمها الموسيقيون ليؤلفوا موسيقاهم،‮ ‬وهذا في الواقع ما كان‮ ‬يفعله الشعراء دائمًا،‮ ‬حتي جاء الشعر الحر‮. ‬المثير بخصوص الأشكال الشعرية المعقدة؟ ليس لديها أي قيمة درامية أو عاطفية‮. ‬استخدامها الرئيسي هو بناء القصيدة‮.‬
هل حاولت فعل أي شيء بدرجتك الموسيقية؟
كان من المفترض أن أدرس سنة دراسة كاملة في الايكول نورمال دي ميوزك في باريس،‮ ‬لكني تراجعت بعد ثلاثة أشهر،‮ ‬لم أشعر بالارتياح،‮ ‬ربما لعلمي أن أذني ميؤوس منها‮.‬
قابلت جون أشبيري في باريس‮. ‬ما هو تأثيره عليك؟
بخصوصه أظن أن حياتي الكتابية بدأت حين قابلته‮. ‬كان قد نشر كتابه الأول،‮ ‬لكنه لا‮ ‬يتحدث أبدًا بالكثير عن الشعر‮. ‬كان منضبطًا جدًا،‮ ‬رغم الحياة التي‮ ‬يعيشها في الليل؛ مخمورًا ومحمولاً‮. ‬أخبرني عن الشعراء الفرنسيين المعاصرين مثل بيير ريفيردي وهنري ميشو،‮ ‬لم أكن قرأت أيًا منهم‮. ‬بعد أسبوعين،‮ ‬أعطيته قصيدة،‮ ‬قرأها وقال‮: ‬أري أنك قرأت كل الشعراء الذين رشحتهم لك‮. ‬لكني لم أكن قد فعلت‮. ‬ذِكره لهم،‮ ‬والوصف الوجيز،‮ ‬كانا كافيين لتبديل كتابتي‮. ‬هكذا تسير الأمور‮. ‬لقد قلت دائمًا،‮ ‬أني تأثرت كثيرًا بحكايات هو ثورن،‮ ‬رغم أني لم أقرأها أبدًا‮.‬
هناك أمر آخر مهم فعله‮. ‬عندما سألته هل مقبول أن أفعل هذا أو ذاك في قصيدة،‮ ‬أخبرني أنه‮ ‬يمكنني فعل أي شيء أريده‮. ‬وكان ذلك وداعًا لنماذج نيويورك أوأية نماذج أخري‮. ‬في حياتي كان هذا تحولاً‮ ‬جذريًا‮. ‬كنت دائمًا حريصًا علي أن تكون الأمور في نصابها الصحيح‮.‬
في تلك الأثناء،‮ ‬أنت،‮ ‬جون آشبيري،‮ ‬كينيثكوش وجيمس شوكيولر أسستم مجلة لوكس سولز‮. ‬كيف تحقق ذلك؟
جدي توفي في‮ ‬1959وترك لي عشرين ألف دولار،‮ ‬وهي مثل‮ ‬مائة وأربعين ألف دولار هذه الأيام‮. ‬جون قال‮: ‬لم لا تستخدم بعض المال لتنشئ مجلة؟ لذا وافقت علي وضع خمسة آلاف دولار في لوكس سولز،‮ ‬دون أدني علم بما أنا مقبل عليه‮. ‬هذه هي النقطة وقت كان زواجي من نيكي‮ ‬ينهار،‮ ‬ووفر لي شيئاً‮ ‬لفعله حين كنت أحاول أن أتخطي ذلك‮.‬
كيف تصورت المجلة؟
لم أكن أعرف الكثير عن الكتابة الجديدة،‮ ‬ربما كنت أقرأ لناس مثل ثيودور رويثك وروبرت لويل‮. ‬ولعي كان إليوت وباوند‮. ‬لم أكن قرأت شيء لولاس ستيفنز‮. ‬لذا قررت أن تكون لوكس سولز صوت الآخرين،‮ ‬ومثل الآخرين كنت أمتلك الفيتو،‮ ‬ولأني كنت جاهلاً،‮ ‬نادرًا ما تجرأت علي استخدامه‮. ‬كانت فكرتهم نشر أعمالهم وأعمال أصدقائهم‮. ‬نتج عن المجلة دائرة صغيرة،‮ ‬منها ثلاثة فائزين بالبوليتزر‮. ‬لا تحدق فيّ‮!‬
تظن أنك كنت جزءاً‮ ‬من حركة ما؟
نحن نُصنف بانتمائنا إلي مدرسة نيويورك،‮ ‬لأنه لم‮ ‬يكن هناك أي مدرسة‮. ‬كان هناك القليل مشترك بين كتابة جون،‮ ‬جيمي،‮ ‬كينيث وأنا‮. ‬
لماذا استمرت لوكس سولز لأربعة أعداد فقط؟

الخمسة آلاف دولار نفدت‮.‬
ماذا عن إيتالو كالفينو؟
كان رجلاً‮ ‬رائعًا،‮ ‬يتأتئ وخجول‮. ‬علي العكس تمامًا من كتاباته،‮ ‬وقت عليه أن‮ ‬يتحدث إلي مجموعة كان صعبًا عليه‮.‬
‮ ‬هل‮ ‬يمكنك أن تتذكر شيء بخصوصه؟
أتذكر شيء‮. ‬حين‮ ‬يؤدي المغنون‮ ‬يبدأون بسكون ويتبعونه بسلسلة من العلة،‮ ‬مثل ثنائية بوبو‮. ‬هو بإمكانه أخذ تلك الأصوات ويعيد توزيعها صوتيًا لتصبح كلمات،‮ ‬والتي تاليًا تصبح جملاً‮. ‬وبعد ذلك‮ ‬يشكلهم في قصة ليخلق معني لتلك الجمل المبهمة‮.‬
ماذا عن ابتكارك الخاص،‮ ‬خوارزمية ماثيوز؟
إنها معقدة للغاية‮.‬
شكرًا لقولك ذلك‮.‬
حسنًا‮. ‬تعتمد الفكرة علي تباديل دائرية بسيطة‮. ‬مثلاً،‮ ‬هناك أربعة خطوط من أربع كلمات لكل منها‮. ‬أنت تبدل كل كلمة،‮ ‬في موضع،‮ ‬اثنين أوثلاثة،‮ ‬من اليمين أواليسار،‮ ‬ومن ثم،‮ ‬ها لديك جملة جديدة‮. ‬يمكن تطبيق هذا النظام علي أي كيان لغوي‮.‬
أنت ابتكرت أيضًا شيء‮ ‬يسمي‮ ‬perverb. ما هذا؟
perverb- الكلمة صاغها ماكسين جروفسكي‮- ‬نتاج تقاطع حكمتين‮/ ‬أمثولتين‮ ‬يمكن تقسيمهما بسهولة إلي نصفين‮. ‬مثلًا‮ “‬كل الطرق تؤدي إلي روما‮” ‬و”لا حال في كثرة الترحال‮/ ‬غنم من استقر‮” ‬ينتج عنهما‮: ” ‬كل الترحال‮ ‬يؤدي إلي روما‮” ‬و‮” ‬لا‮ ‬غنيمة في سلوك كل الطرق‮”. ‬
نحن نسمع دائمًا عن باريس في الثلاثينيات،‮ ‬باريس في الخمسينيات‮. ‬كيف كانت باريس في السبعينيات؟
سأخبرك شيئًا واحدًا كان لطيفًا‮. ‬في السبعينيات ظهرت موضة جديدة ظريفة في الملابس،‮ ‬امتلكت بدلة إدواردية من ثلاث قطع،‮ ‬أطراف الأكمام محززة ورمادية،‮ ‬والبنطلون شديد الضيق والسترة طويلة مع‮ ‬ياقة متعجرف‮. ‬
والداي كانا مفزوعين بالكامل من طريقة لبسي،‮ ‬لأنه كان لديهما هاجس دائم أني كنت مثلي الجنس‮.‬

هل كنت ترتدي تلك الملابس من أجل الحفلات؟
باريس كانت بها حفلات أقل من نيويورك‮. ‬كانت هناك الكثير من الأماكن لاكتشافها والقليل من الأندية‮.‬

ماذا‮ ‬يفعل كل الكتاب؟
يبقون بعيدين عن بعضهم البعض‮. ‬مرة سألت كل الكتاب الفرنسيين الذين عرفتهم،‮ ‬وكانت واحدة من أكثر التجارب احباطًا بالنسبة لي،نادرًا ما‮ ‬يتحدث واحد إلي الآخر‮.‬

هل لذلك رجعت للولايات المتحدة؟
رجعت إلي الولايات المتحدة في عام‮ ‬1976‮ ‬للتدريس في بينينغتون‮. ‬في تلك الأثناء قررت أن أكتب رواية أو ليبيانية‮ (‬تجمع كتاب وعلماء الرياضة الناطقين بالفرنسية‮). ‬شكّلت مخطوط استنتاج لتباديل المواقف التي فيها إيه سيقابل بي،‮ ‬وبي سيقابل سي وهكذا‮. ‬
لا جدوي من البحث في ذلك الآن لأن لا أحد سيكتشفها ولا حتي أنا‮. ‬علي أية حال،‮ ‬بقيت متسمرًا في ذلك لمدة عام،‮ ‬وخلال تلك الفترة بدأت الناس تظهر،‮ ‬ثم المواقف،‮ ‬ثم القصص‮. ‬وشيء مفاجئ حدث‮. ‬لم أكن أبدًا قادرًا علي كتابة العالم الذي كبرت فيه،‮ ‬لكن سجائر اتاحت لي ذلك‮.‬

رواياتك وقصصك القصيرة تضم الكثير من النوادر ودة سخافات‮. ‬هل تحتفظ باستمرار بدفتر لهذا النوع من المواد؟
لا منهجية‮. ‬أنا فعلاً‮ ‬أحتفظ ببعض الأشياء،علي سبيل المثال في‮ “‬الصحفي‮” ‬فقرة كاملة مأخوذة من مراجعة صحيفة لمطعم تشيكي في ألبانيا‮. ‬إنها ليست حرفية،‮ ‬لكن تقريبًا بالنسبة للقصص،‮ ‬كثير منها‮ ‬يبدأ بفكرة منافية للعقل‮. ‬مثلاً،‮ ‬المجتمع القديم في‮ ” ‬ملاحظات طالب الدراسات العليا‮” ‬الذي‮ ‬يستخدم الخط الأفقي كرسالته الوحيدة‮. ‬أنا بدأت بذلك ثم تساءلت،‮ ‬ماذا‮ ‬يحدث بعد ذلك؟‮ ‬

كيف جاءتك فكرة قصة الأشهر‮ “‬بلد الطبخ من وسط فرنسا”؟‮ ‬
دانيال هالبيرن‮ (‬شاعر أمريكي‮) ‬رئيس تحرير أنتايس،‮ ‬أعلن عن رحلة كتابة وسألني ما إن كنت أرغب في الانضمام‮. ‬السفر في حد ذاته لم‮ ‬يكن مصدر إلهام لي،‮ ‬لكن بعد ذلك فكرت بخصوص وصفة أجنبية،‮ ‬وصفة توظف مكونات وطرقاً‮ ‬معروفة للمطبخ الأوروبي،‮ ‬باستثناء السكر والخبز؟ كان ذلك ذريعة‮. ‬أثناء الكتابة جاءت المشاهد والأحداث من تلقاء نفسها‮. ‬

يمكن أن نسمي كتابتك تصويرية أو تجريدية كما في الرسم أو النحت؟
بالنسبة لي،‮ ‬التجانس الأفضل هو الموسيقي‮. ‬تعرف كاتباً‮ ‬فرنسياً‮ ‬اسمه جان ايشونز؟ طُلب مني مرة الانضمام إلي حلقة نقاش حول عمله‮. ‬كان هناك بنفسه،‮ ‬وواحد سأله‮: ‬ماذا‮ ‬يعني الذي تكتب؟ الحاضرون في حلقة النقاش كانوا مفكرين فرنسيين تعليمهم جيد،‮ ‬صدقني،‮ ‬تعليمهم جيد،‮ ‬لكنهم تفاجئوا وأًصبحوا مرتبكين مع إجابات معقدة وغير مرضية‮. ‬انتقلنا للسؤال التالي‮. ‬بعد عشرين دقيقة،‮ ‬قال جان أريد العودة إلي ذلك السؤال‮. ‬معني الذي أكتبه؟ المعني هو الصوت‮. ‬كنت مندهشًا تمامًا‮. ‬أدركت أنه قد أصاب عين الثور‮. ‬أظن أن ما علي الكتاب الجيدين فعله هوإعادة العمل علي الجمل والفقرات،‮ ‬بحث‮ ‬يتناغم السرد ويعمل بالضبط بالطريقة التي‮ ‬يريدونه أن‮ ‬يعمل بها،‮ ‬أيًا كان ما‮ ‬يقوله‮. ‬وبالنسبة لي ذلك ظاهرة موسيقية‮. ‬

ما الذي‮ ‬يوفره لك الشعر ولا توفره الرواية؟
شيء واحد،‮ ‬هو إمكانية إنجازه بسرعة‮. ‬قصيدتي الأطول حوالي‮ ‬10‮ ‬صفحات‮. ‬وقت أجلس لأكتب رواية،‮ ‬أعرف أنه سيكون وقتًا طويلاً‮. ‬أفكر دائمًا فيما قاله ويليام جاديس لي ذات مرة‮: ‬الرواية التي لم تنته مثل الضيف المريض‮. ‬أحلم باليوم الذي تنتهي فيه الرواية،‮ ‬رغم ذلك‮ ‬يوم انتهاء المسودة الأخيرة خيبة كبيرة،‮ ‬الشيء الوحيد الأسوأ منه هو‮ ‬يوم النشر‮. ‬

هل‮ ‬يزعجك أن‮ ‬يُساء تفسيرك؟
لا أظن أن هناك شيئاً‮ ‬من هذا القبيل‮. ‬النثر لدي‮ ‬يطمح لأن‮ ‬يكون شعرًا‮. ‬هناك قصائد لم تُفسر أبدًا علي نحومُرضٍ،‮ ‬مثل قصيدة بليك‮:” ‬الدودة‮ ‬غير المرئية‮/ ‬التي تطير في الليل‮/ ‬في عويل العاصفة‮/ ‬وجدت فراشها‮/ ‬من الفرح القرمزي‮”‬،‮ ‬قصيدة فاتنة،‮ ‬لكن التفسيرات تبدأ من الغولاش‮ (‬اللحم علي الطريقة الهنغارية‮) ‬إلي الزُهري‮. ‬

إذن لا‮ ‬يهم؟

يهم طبعًا،‮ ‬لكن معني القصيدة هو قراءة القصيدة‮. ‬لم‮ ‬يؤثر فيك بليك؟ إنه‮ ‬يؤثر فيّ‮. ‬من الواضح أن شيئاً‮ ‬يحدث،‮ ‬لكن أن تقول ماذا‮ ‬يحدث أوما‮ ‬يعني من حيث الصياغة لا‮ ‬يهم‮. ‬هناك العديد من الأِشياء التي كتبتها لم أفهمهما إلا بعد وقت طويل‮.‬
ما هي عاداتك بخصوص الكتابة؟
اعتدت أن استيقظ وأكون علي مكتبي في التاسعة صباحًا‮. ‬الآن أنا محظوظ إن بدأت في الحادية عشرة‮. ‬أقوم بمعظم عملي بالايميل والانترنت بعد الظهيرة‮. ‬في البداية أكتب بيدي،‮ ‬أنسخ ما كتبت علي الكومبيوتر،‮ ‬أطبعه،‮ ‬أصححه بيدي،‮ ‬وهكذا‮. ‬
تعدل كثيرًا؟‮ ‬
إلي ما لا نهاية‮. ‬دائمًا ما أضع مدي‮ ‬300‮ ‬صفحة للرواية،‮ ‬ولكن مهما كان طول المسودة الأولي،‮ ‬مع قطع الأغصان الميتة،‮ ‬تتضاءل إلي حوالي مائتي صفحة‮. ‬باستثناء الكتابة بالفرنسية‮. ‬كل شيء في الفرنسية‮ ‬ينتج أطول‮.‬

بالرغم من شهرتك في فرنسا،‮ ‬أنت قلت إن الأمريكيين وحدهم‮ ‬يستطيعون فهم أعمالك‮.‬أمر صعب أن‮ ‬يفهم قارئ ليس من لغة الكاتب الأم ما‮ ‬يفعله‮. ‬وهناك مسحة درامية في كل ما أكتبه،‮ ‬وهذا هوالأمريكي عادة‮. “‬بلد الطبخ‮” ‬ليست مجرد قصة في شكل وصفة،‮ ‬الراوي الذي هومزردٍ‮ ‬وفظ،‮ ‬يضفي علي القصة صبغة درامية‮. ‬
الأمريكي شخص درامي؟
نعم‮. ‬مرة حضرت محاضرة لصحفي إيطالي عن الأفلام الإباحية‮. ‬كان‮ ‬يقول‮: ‬الإباحية الأمريكية دومًا درامية،‮ ‬بينما الإباحية الفرنسية،‮ ‬ممارسة مجردة مستمرة للجنس،‮ ‬مع حد أدني للحركة‮. ‬أظن أن هذا حقيقي بخصوص الكتابة الأمريكية أيضًا،‮ ‬هناك دومًا ما‮ ‬يبدو وكأن إشكالية أخلاقية مقحمة في كل ما نقوم به‮. ‬
عملك الأخير،‮ ‬حياتي في السي أي إيه،‮ ‬مذكرات افتراضية لحياتك في باريس في فترة السبعينيات،‮ ‬حين كان الناس‮ ‬يشتبهون في كونك عميل للمخابرات لأنك كنت أمريكياً‮ ‬ولم‮ ‬يكن لك وظيفة واضحة‮. ‬لماذا قررت أن تكتب سيرة تخيلية؟‮ ‬
الكثير من الأِشياء تدخلت في نشأة الكتاب‮. ‬إحداها كان حقيقة كوني عميلاً‮ ‬للمخابرات الأمريكية‮. ‬عامل آخر أني سئمت من سيل المذكرات والتي كانت مألوفة في العقود الأخيرة‮. ‬بالنسبة لي كانت هناك أخطاء فادحة ترتكب في الطريقة التي‮ ‬يقيم بها الناس تلك الكتب‮. ‬
في حديث ألقيته في جامعة بنسلفانيا،‮ ‬سيدة صارمة كانت تدرِّس الكتابة الإبداعية،‮ ‬حذرتني‮: يجب أن تدرك أن الكاتب عليه مسئولية قول الحقيقة حين‮ ‬يكتب عن حياته الشخصية‮. ‬وفكرت‮: ‬هذا هراء‮. ‬لم أرغب في الدخول في جدال،‮ ‬لكني قلت‮: ‬ماذا عن مارسيل بروست؟ هل من الأفضل أن‮ ‬يكون هناك حساب حول ما فعله فعلًا أوالابتكار المذهل لحياة فيها بطل الرواية اسمه مارسيل؟
هكذا اًصبحت مهتمًا باستخدام جزء من حياتي كمادة لسيرة‮. ‬في النهاية،‮ ‬اقتنعت بنشره كرواية‮. ‬لقد نصحني ناشري‮: ‬هاري،‮ ‬إن نشرته كسيرة،‮ ‬سينحصر في خانة السيرة‮. ‬إن نشرته كرواية،‮ ‬برودر آند بارنرز سيطلب عشرات النسخ‮. ‬لهذا أصبحت رواية‮. ‬
لو كانت نشرت كسيرة،‮ ‬كنت ستتورط في مشاكل؟
تظن أن أي أحد قد‮ ‬يكلف نفسه العناء؟ وكيف‮ ‬يمكنهم إُثبات أي شيء؟ حين سُئلت عن كتاب السي أي إيه،‮ ‬جوابي كان‮: ‬كل ما قلته صحيح،‮ ‬وكل ما قلته زائف،‮ ‬مثل أي كتاب‮. ‬لا مانع في التحدث عنه،‮ ‬لكن الوقائع ليست الحقيقة‮. ‬الواقع مسألة مقاربات‮.‬
هنري جيمس قال مرة إن الرسام الفيينيسيتين توريتو لم‮ ‬يرسم أبدًا خط دون‮ ‬غاية‮. ‬وذلك‮ ‬يبدو جنونيًا لأن تينتوريت وكان‮ ‬يرسم بعشوائية في كل مكان‮. ‬خلصت إلي أن جيمس كان‮ ‬يعني أن مسئولية الفنان هي جعل شيء حقيقي‮ ‬يحدث مهما تطلب الأمر‮. ‬وبالنسبة لي تلك هي‮ ‬غاية الكاتب‮: ‬جعل شيء حقيقي‮ ‬يحدث فوق الورق وعلاقته بالواقع‮ ‬غير حقيقية‮.‬
الشيء الذي قلته مرارًا وتكرارًا والذي أريد أن أؤكده في جميع كتبي،‮ ‬أن تجربة القراءة هي تجربة القراءة‮. ‬في أمريكا هناك تقليد‮ ‬يقول إن ما‮ ‬يجب أن‮ ‬يفعله الأدب هو أن‮ ‬يقدم لك شيئًا حقيقيًا‮. ‬لكن الشيء الحقيقي الوحيد بالنسبة لي هو الكتابة‮.‬
________
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *