خاص- ثقافات
*كريم ناصر
“لا وجود أصلاً للعالم الشعري، وما هو موجود الطريقة الشعرية في التعبير عن العالم”
جان كوهن
الاختلاف جوهر الانزياح:
لا يبدو لنا أنّ شعر ناجي رحيم سهل الانقياد، سيكون من الصعب جدّاً دراسة تجربته الشعرية من غير إخضاعها لتحليل نقدي يتناسب مع الوحدات الشعرية بما تحمل من دلالات وقيم تعبيرية مغايرة ومغامرة..
إنّنا نستطيع أن نقدّم البراهين لإثبات كلامنا هذا، لنكشف عن حيثيات مطلقة يقتضيها الشعر، ويبقى في العمق محافظاً على مقوّماتها العملية ضمن هذا المبدأ الذي يختلف اختلافاً كاملاً إذا ما قيس بغيره، ويعترض اعتراضاً شاملاً على بنى فقدت سماتها الشعرية، وبقيت كلّ الوقت محتفظة بولائها للتقليد..
أمّا إذا ثبت لنا بالدلائل أنَّ تلك البنى الطارئة قد أخلّت بالبناء العماري، وسارت بعمليات الإنزياح إلى أقصى حدود المنطق نفياً ومنافرة، نحوية ولا نحوية، فذلك لإدراكنا العميق أنَّ السبب الجوهري في حقيقته يرجع إلى نقص مطّرد يفرضه سلوكها النمطي، وعلى الشاعر أن يبحث بداهةً عن آلية عميقة لإضعاف وظيفتها التعبيرية ليس إلّا لتشخيص البنى الناقصة وتعطيل مجالها وإعطائها قيمة أقل لئلّا تغدو عبئاً على كاهل الشعر وتؤدي إلى تفكّكه، ومن باب درء الحوافز التي فرضتها عليه في أثناء صوغه، وعلى كلّ فلا يمكن فصل البنية اللغوية عن المعايير العميقة، وهذا شيء طبيعي لكي يحتفظ الشعرُ بمحتواه اللغوي ويعمل في نطاقه، وفي كلّ الأحوال فإنّنا نستيطع أن نثبت أنَّ الشعر جنس أدبي متسامٍ من ناحية بنيته، أي أنّه يبقى في الأغلب الأعم ماسكاً بموضوعه، ولا يوافق على الصورة النمطية، بل كثيراً ما يفقد شيئاً من خصوصيته الجوهرية إذا لم تتحقّق دلالته بواسطة اللغة، وذلك لإبلاغ الشيء ليصبح نادراً ولبناء جملة نادرة تقوم بدور جدير بها.
نحن هنا بصدد طريقة تعبير لها خاصية مرتبطة بالشعر نفسه، وخاصة بجوهره الدلالي والزمني، لهذا تبدو وكأنّها امتداد مطّرد لمشهد أدبي استراتيجي لا ينفصل عن الفضاء الشعري المتناغم، نستطيع أن نقول عنه إنّه فضاء شاسع ورهيف نرى فيه جذورنا العميقة التي يستلزم الحفاظ على صيرورتها، سوف يبرهن لنا التاريخ أنَّ الحرص على الشعر كأثرٍ هو حرص على ذاكرتنا الجمعية ـ الثقافة خاصة ـ من هنا فيجب على الشاعر الذكي أن يفهم ذلك فهماً تاماً، ويفترض أن يرقى بالشعر إلى أعلى درجاته من التماسك ليبعث في روحه شيئاً إضافياً من قوّته، وذلك لضمان بقاء فاعليته التي يستلزمها بدلاً من أن يفقد بريقه استجابة لحاجة ذاتية لا تضمن دلالتها، ويمكن أن نطبق ذلك على سياقات خاصة من شعر ناجي ولتمييز الأسلوب يقدّم لنا الشاعر صيغة شعرية تسعى إلى تعدديّة السمات والصور والتراكيب لتنتفي الأنا الضخمة التي تنزع إلى ترسيخ الذات أو تأكيد وجودها الفوضوي..
هنا تترك طريقة التعبير أثرها الحميم في وعي القارئ على رغم من الافراط في تغليب القيمة الذاتية، وتمدّد الانزياحات اللغوية فضلاً عن تنامي البديهيات السردية في بعض المفاصل، ولإدراكنا كما يمكن لأية سيرورة أن تنجز دلالتها وتمضي بها كشكل تعبيري يحافظ على ثرائه اللغوي، يعني أن هناك عاملاً مساعداً يرفع من مستوى الدلالة:
“منذ الصباح وأنا أبحث عن أستاذ كي يتحدّث عن الأمل” ص13
لا شيء يضمن سلامة الدلالة سوى حالة الانزياح أو عدمه، من هنا يغدو الانزياح أسلوباً قائماً بذاته بصفته أساس كلّ صيغة، ولذا فكلّ قيمة شعرية تحمل في داخلها قيمة تعبيرية خالصة لا تنفصل عن بنيتها التركيبية، وهذا يكفي أن نعرف ومنذ البداية، وانطلاقاً من معايير النصوص أنَّ هذه المتوالية تمثّل المفصل وتمثّل البوصلة، ويتحتّم عليها أن تظهر بصيغة استدلالية، وكذلك يجب أن تسعى إلى تقوية صيرورتها لتظلّ قوية:
“في القطار الصاعد إلى روحي عوالم لا تحصيها كلمات
كلّ عين تصرخ في عالمها” ص10
“أود لو أقضم نهديك وأستريح
هكذا قد نتصالح أيّتها الحياة” ص54
“في حمى رجرجة الأثداء والمطر
قطرني الحزن في قلب المدينة” ص9
في حين أنَّ كلّ انزياح شعري نستطيع أن نسمّيه طريقة من طرائق التعبير، وهذا أسلوب محسّن بدرجات متفاوتة، أمّا إذا ما اندلقت العبارات المطّردة من دون دعامة أساسية تحفظها، فربما يصعب حينئذ ترويضها فيما لو انفرط عقدها في السياق..
إنَّ الشاعر شأنه شأن الفنان يرسم الأشكال الفنية، ويعمل على اختزالها بالتواصل اللغوي لئلّا تولّد انزياحاً ضعيفاً أو مفرطاً في طريقة التقديم والتأخير* وبهذا يصنع الشاعر من التفاصيل معياراً جمالياً للحفاظ على خط تطوّر الصورة الشعرية للتعويض عن انعدام عنصر الخيال بالبلاغة التصويرية التي استلّت من اليوميات، أو ببدائل تغذّيها تفاصيل موصولة بالأيام السالفة حصراً ـ أحداث الحرب ـ لتغدو حينئذ مسلّمة:
“أتناول نتفاً من آلهة تتحدّث دون كلام،
كلام ينساب في أروقة الأرض،
في عروقي،
في رئة الحرب،
في ذاكرة شجرة ماتت” ص76
التنوّع وحقيقة الابداع:
الحقيقة أنَّ التنوّع مذهب ينزع إلى إشاعة لغة الابداع، ونعتقد أنَّ الشعر بحاجة إلى انقلاب في بنيته التركيبية وإلى إجراء عملية تطهير في الآليات الشكلية لعلاقتها الوثيقة بظاهرة التنميط، وهي ظاهرة تثير الكثير من الاستشكالات التي من شأنها أن تضعف من صيرورة الشعر وتجعله في موقع الشك، وقد ترهق شعريته تماماً، ومن هنا لن تبقى الوحدات الشعرية فاعلة إلّا إذا استنفرت ذاتها، ولن تنفع اللغة في هذه الحال، وذلك لاحتوائها على صيغ لا تنبع من صلب الفكر الشعري، ولا تعارض كذلك المستويات المتدنّية التي لا تنتمي إلى أيّ ابتكار شعري..
فالمشكل الحقيقي كما يبدو ليس في المتن اللغوي، ولا في جوهر موضوعه، بل يظهر بداهة في انسيابية الشكل التقليدي الذي لا يمكنه الانفصال عن الشعرية التقليدية التي تجد نفسها من ضمن البديهيات المتأخرة، فنحن لا نريد أن تغدو هذه الظاهرة مذهباً شائعاً والتقليد لا يقود إلى الابتكار، فلا يمكن أن يخدم بالطبع فكرة الشعر، هذا، ومن المفارقات أن نرى من يجاري فكرة قديمة ويعدها مرجعاً معيارياً بذريعة الحفاظ على مسلّمات تندرج في إطار حماية التراث والمبادئ التي تقوّمه، والواقع أنَّ تفسيرنا هذا مرتبط بظاهرة عامة، ولا ينطبق بالتأكيد على أشعار ناجي رحيم المتألّق، لقد ثبت أنَّ الشعر في تاريخه مذ سجّل حضوره الأول لم يخضع للإبتزاز المجاني، وهذا ما يعرفه الشاعر قبل غيره:
“الملاعق تحفر في الصحون وفي رأسك تحفر الهموم” ص79
“يا هالات النعاس المتهدّل تحت جفني
كلما أمعنت فيك باعدني رفيف من ندم” ص 87
“كلما أصغيت إليك زفرت في وجهي وعول راكضة
يا بئراً ولحاء يا عصف مصائر” ص89
تطور البنية التركيبية وتشكّل الصورة الشعرية:
لن تبقى الجملة الشعرية تامّة من غير إسناد من اللغة يقوّي فكرتها التركيبية ويجسّد دلالتها لإثبات أنَّ الشعر قيمة فريدة، والحق أنّ الجملة في تركيبتها اللغوية الصارمة تمنح الشكل صفة الاستقامة لتعيد المعيار إلى وعيه الجمالي، فكلّ جملة دلالية هي نتيجة وعي جمالي يظهر بمظهر اللغة المتماسكة، ولن تصل الصورة الشعرية إلى الذروة من غير بنية لغوية تحمل مقوّمات القوّة وتبني الشعر ليحقق شعريته، فالعلاقة بين البنية والشكل تبقى حينئذ علاقة متسامية في ذاتها يقتضي أن تنمو في صورتها المثيرة ولو بطريقة جدلية:
“أمواج النهر هي الأمواج
وكذلك صلعة البحر
ما الجديد في ذلك سوى أن الطفل صار شيخاً يهذي” ص36
“أبدأ بالعالم وأنتهي به
مرت الكائنات في كامل أناقتها
فالتمع رأس الأبدية” ص38
“على الطريق أرتدي وجهاً من جلد الفيل وأمدّ رموشي كي أسمع نبض الشارع” ص88
ولكي تنمو هذه العلاقة، فيجب أن تحتفظ بقيمتها الشعرية على أحسن وجه، ولهذا فلربما لا تستجيب الصيغة الشعرية لمحتواها إلّا بوجوب اختبار عميق يولّد انزياحها ولو بمعيار جمالي يُعيد مسلسل الجمُل المضمرة، وغير المُعبّرة نتيجة فوضى التقديم والتأخير في سياقاتها اللغوية، أو نتيجة عدم تحوّل مفاصلها البنيوية، وهذا ليس ببعيد أن تتأثّر القصيدة مثلاً بأجواء الشعر الهولندي الذي يفتقر في الأساس إلى بنية لغوية صارمة..
إنَّ مطلب الشعر باختصار لا يتحقّق إلّا بتفكيك آلياته وتعطيل وحداته المتوالية، وذلك لإعادة بنائه من جديد ليغدو وحدةً متكاملة من القيم والمعاني الدلالية:
“وفيما أنا أتشبّث بأذيال الفكرة إذا بالهاتف يرن” ص55
كان من الأفضل استعمال (بينما) هنا بدل (فيما) و (إذ) أو (فإذا) بدل (إذا) وما عدا ذلك يبقى الشعر في حدود المعقول يلامس ظواهر الحياة ويحمل أثراً، وهذا هو المنحى الذي يشتغل عليه:
“تجلس خلف مكتبك المكتظ
تباشر عاداتك السمجة
تضع الأقلام على الجانب
طويلاً تتغزل بجسد الورقة” ص43
معيار التعارض بين قيمتين:
تبرز عناصر القوّة إلى العلن حين يستعمل الشاعر كلّ أدواته، ويستنفر لغته إلى أقصى درجاتها، وترتدّ هذه العناصر على نفسها إذا ما سارت على نقيض سياقاتها، ورغبت في التضحية باللغة من أجل قيم ذاتية بحتة كما توحي بها الإحساسات الداخلية التي جسّدتها الوقائع اليومية، وبهذا فمهما اختلفت الرؤى كانت المحصّلة كفيلة بتحديد المعيار، وإن احتوت على قيمتين متعارضتين أو متوازنتين في الوقت نفسه (1) وهكذا تقودنا النتيجة إلى ملمحٍ مميّزٍ طبيعته متفرّدة من حيث التراكيب البنيوية، أي من حيث الخاصية التعبيرية، هذا وبالقياس إلى شعراء قصيدة النثر، فيبدو لنا أنّ الشاعر ناجي رحيم كائنٌ مغامرٌ ومتمرّد وجريء، والذي يقنعنا أكثر إنّما اشتغاله بإنشاء بنية عميقة لتغدو معياراً، والشعر هنا بالتحديد يدفعه إلى البحث عن فضاء جمالي يجعله مغامراً كأيّ سندبادٍ يبحث عن كنوزه في أعماق البحار.
عن كمال سبتي وزياد حيدر والدراما الانسانية:
قد يتحوّل الشعر في بعض الأحيان إلى تعبير انفعالي لا يقدّم صورةً شعريةً تضاهي رسالة الشاعر ـ كمال سبتي ـ المومأ إليه، سيكون المحتوى ناقصاً إذا ما افتقرت التعابير إلى مجالها الدلالي، هذا وبعد فلأنّها لا تنتمي أي التعابير في العمق إلى محاور استراتيجية تخصّ الشاعر، ومن ضمنها بحثه في الفكر الشعري، وخصوصاً تاريخه، وهذا يفترض أن يتحقّق بطريقة ما مُرضية تنطبق تماماً على حياته التي هي بعينها مرجعٌ شعري.
وهذا الرأي نفسه ينطبق على طريقة إستذكار الفنان زياد حيدر، فلا نكاد نرى تحوّلاً بنيوياً في السياق أو في المتن يرفع من شان اللغة، حيث لا يرثي الشاعرُ الفنانَ قدر ما يصف الشوارع والساحات والعابرين والقطة وباولا رفيقة حياة الفنان..
والحق لا يمنع كلّ ذلك من أن يبلغ الشعر وجدانية التعبير ليمسك بالدلالة، فإنَّ الاقبال على النبش في أحداث الحرب فليس له غير دلالة، وانطلاقاً من هذا المعنى يمكن أن نتحدّث عن وقائع تراجيدية ملتبسة يكفّ فيها الشاعر عن الخيال ليحفر في التفاصيل اليومية، وذلك لإخضاعها إلى اختبارٍ عميق، من هنا تأتي صدقية التعبير وتصبح خاصية جوهرية، فالبشعر يرسم الشاعر لوحةً دلاليةً ترتبط في العمق بتاريخنا.. إنَّ هذا الأسلوب وقبل كلّ شيء ليس إلّا نتيجة موضوعية تشترك فيها كلّ المعايير تضميناً لواقعة لا تعدو أن تكون إلّا مرجعاً لظاهرة سالبة في تاريخ العراق ألا وهي الحرب:
“حمال جثث كنت في عجلة الإيفا
حيث أساق
أجمع حيوات في صناديق عتاد” ص86
القيمة الشعرية الفريدة في (قبل أن):
كيفما كان الأمر فإن الأنماط الشعرية تنزع إلى الانزياح عن طريق التضحية باللغة، مع تأكيد أنَّ الانزياح معيار، ولكن بدرجات أقل، ونحن نعرف جيداً أنَّ (نفي الانزياح) يستلزم بالتحديد التعبير عن الأشياء بالإعتماد على تقطيع الجُمل وبالطبع بعد التضحية باللغة، وهنا يذهب الشعر مذهباً بعيداً وكثيراً ما يصاحبه القول:
“ولكي أهدأ سأهجر وجع الرأس كما نصحتني أمي” ص71
ولتلافي هذه المتوالية يقدّم الشاعر معياراً لتقوية البنية اللغوية لضرورة الاحتفاظ بألق الشعرية، ولإعادة الهيبة لها، وهو بذلك لا يلغي الذات المضخمة كليّة، بل إنّه يدرجها في إطار اللغة بطريقة من الطرائق، وعليه فينجم عن ذلك انزياح دلالي، وهذا يفترض في نظرنا حذف الانزياح المتراكم ـ المفرط ـ الذي لا يطابق روح الشعر، ولا يحمل أثراً من قيمته الجمالية:
“تعال لنعلّق خوفنا على مشجب الترقب
تعال نغذي الصهيل ببكاء عصفور جريح” ص90
وقد يجوز أن تكون قوّة العبارة خاصيّة جمالية تقوّي بنية اللغة، وترجح الشعر ليكون مميّزاً كما في الأمثلة:
[تلابيب الأيام، شواء اللب، مهبل اللحظة، مشجب الترقب، رداء الملح]
شذرات من (لحظات):
فما لم تتباين المقاطع الشعرية، فلن يأتي الامتاع طبعاً، وهذا هو الجدل الذي تخوض فيه الشعرية، إنَّ الشعر في وسعه الثبات، لأنّه يتمثّل اللغة ويخترق لبّها، ويبني نفسه على المتناقضات التي تضمن قيمة الصدق مهما اختلفت سماتها التعبيرية، وبناء على ذلك فما بين الدهشة واللغة الذاتية، وما بين سردية الجمل وعبث التراكيب الناقصة، وما بين ايحائية اللغة الدلالية والتهويمات البلاغية تنشأ الشعرية الفذّة من تطوّر محتوياتها المتباينة، ويقتضي هنا أن تتحقّق الدلالة من التراكيب المحسوسة وغير المحسوسة، وخصوصاً في ما يتعلّق بالمجال الدلالي:
“ثم تنقع صوتك في زخم العالم في بحة أصوات في سبيل براعم
تنقع روحك في نثيث من كلمات” ص95
“في دموع أمّ حياة كاملة هي صخب من صلاة” ص95
“تصوّر أنك تفتل أوجاعك، تعصرها مثل قميص وتنام” ص97
“أستشعر روح الأرض فتشتعل كأسي بالشتائم
إليها تنداح خطى العابيرين
والنظرات التي أعرف نصاعة زيفها” ص99
“تأخذ من الغفلة وردتها
ونهمّ إلى بستان المتوحّدين” ص104
عن السرد والتهويمات البلاغية:
وبهذا يأخذ الشاعر من الواقع المعيش شذراتٍ ايروتيكيةً تحمل بذور جمالياتها معها، وهذا لا يعني أنّها لم تسلم من نقص:
“ماذا لشهوات العقم إذ تستمني في فراش القيء ذاكرة العقوق، ماذا لنهم الرغبة رازحة في بحر الجنس خميرة شكر لفحولة تحرس بكلاب” ص105
غير أنّها تظلّ بالطبع سياقات شعرية معبّرة عن احساس جمالي على رغم من الانثيالات الرومانسية وتداعياتها:
“هنا مع كائنات تفح على رفوف
هنا نام الجميع وقلبي معي
سوى نباح كلب في البعيد” ص106
عن التماسك السردي في (سرد لا يمشي):
فلنتفق على أنَّ قيمة السرد تتجسّد على امتداد العبارات المختلفة تجسيداً قوياً، وباختصار فهذه العقيدة بانتمائها إلى الشعر تسمح بإدراج السرد في سياقها كمعيار لتعزّز تلقائياً الديمومة الشعرية، وإذا ما اعتبرنا الذات قطباً محركاً، فذلك يمكن أن يرتبط بداهة بعفوية التراكيب لتأثيرها الذاتي فيها، والحق أنَّ الشعر يسعى إلى فرض كينونته انطلاقاً من هذه الصيغة:
“هنا على هذا الرمل لي ما يكفي من دعامات لترميم رفوف العمر” ص108
فهناك إذاً إنسيابية سردية تغذّيها دراما إنسانية (تداعيات) من تمفصلات الماضي ساهمت في صنعها سماتٌ مميّزة تستمدّ قوّتها من عمق المعاني، ومن التراكيب اللغوية في الآن نفسه.
عن مستويات قصيدة (دع سجائرك ترويك):
هذه القراءة السريعة من شأنها أن تسهّل معرفة مكامن الفرق على طول امتداد القصيدة، فهناك إذاً غرابة في خط تطوّر البيت الشعري، فالصورة تعبّر عن دهشة ذات دلالة:
“كل صباح تطالعني شوارع من بصل
والرأس المشجوج بلد يأتي كل صباح” ص109
أمّا هنا فنلاحظ أنَّ الانزياح المفرط قد يولد خديجاً:
“أصابعك ترتعش، لا تقوى على ضمّها لا كحول، روحك المتعطشة أعرفها، أعرف دهاليزك أيها المختبئ” ص110
وهذه واقعة أخرى تجعل الشاعر يغذّي الفكرة بقبسات من أفكاره:
“ماذا تريد ناجي رحيم حياتك مزبلة وأنت تغذّيها
بذكريات لم تعد صالحة
أيّها الوغد العنيد.. أعرفك تقتلني” ص110
من العبث ومن الألم حيث نظفر بالشعر، فالتمرّد إذاً من مقوّمات التحرّر والتناغم، إذا ما كان قيمة إضافية لتقوية بنية الجملة الشعرية:
“توقف أيّها الصعلوك النزيه في قتل روحه
لا شيء يستحق حينما تغادر ص111
“أدم إبط الوقت علّه يسمع تكّات الساعة في رأسك” ص111
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مثال التقديم والتأخير:
“يمدّ صوتاً نيئاً والكلام حاسراً يغادر القاعة” ص46
“على سفح الأصغاء وقفت” ص46
(1) القيمة الأولى: عقلانية شعرية مطّردة النمو
“والصغير يركلني
أتصور أن لا شيء في حوض الرأس سوى كون من دخان موتور يغشي رئة الأبجدية” ص47
القيمة الثانية: متمردة وقولية غير معقولة
“تدخن مدخنة أنت لم تزل آثار البارحة” ص73