موزارت.. تدمير الأســـطورة

*ترجمة – أحمد حميدة

تشاء الأسطورة أن يكون كلّ أولئك الذين يفارقون الحياة على عجل، عباداً محبوبين من الآلهة. ولا شكّ أنّه من منطلق ذلك التصوّر، كان الرّومنطيقيّون قد ذهبوا في عشقهم لموزارت إلى حدّ ما سمّاه فولفاغ هيلدشهايمر بهوس موزارت، وأنّ كيركغارد كان يريد بعث طائفة لتمجيد ذكراه. كما لا شكّ في أنّ المرور الخاطف لهذا الموسيقيّ الطّفل، والاختفاء المبكّر للفنّان الذي كان، قد انطوى على بذور ملائمة لبلورة سيرة ملتبسة ما فتئت تتلوّن بتلوّن العصور التي تفصلنا عن مماته.

ساهمت الأساطير الورديّة أو السّوداء، التي لم تكن أبدا نصفيّة اللّون، في تشكيل ملامح شخصيّة ظلّت موهوبة للتّخمين ولشطحات الخيال. كما ساهم إرث روسّو الذي قام على تعظيم الطّفولة وإجلالها، في بلورة تمثُّلٍ «ملائكيّ» لهذا الموسيقيّ الفذّ، تمثُّلٍ عملت على إشاعته الصّورة كما النّصوص المنشورة. ولنذكر تثمين ستندال لموزارت حين صرّح: «إنّ الجانب المدهش الأكثر روعة في موزار هو طفولته، وهذه الجزئيّة قد تكون رائقة للفيلسوف كما للفنّان»، وعامّة ما كانت تلك الطّفولة تُختَزل في الصّور متعدّدة الملامح التي يتبدّى فيها موزارت طفلاً هشّاً.. باسماً، تعلو محيّاه نظرة مشرقة، وهو جالس أمام معزفه الوتريّ.

وبشكل موازٍ، كان الغموض الذي ظلّ يلفّ تأليف القدّاس، قد دفع بالبعض إلى بناء رواية مزدوجة عنه، على علاقة بتلك الرّواية وبأسطورة الفنّان الذي أسيء فهمه. كان مآل المؤلّف الموسيقيّ سالييري أن غدا رمزاً للحسد، بل ونموذجاً للفنّ الرّسمي المتعارض مع عبقريّة موزارت، عبقريّة كم كان هذا الأخير يهابها ويخشاها.. وإلى بوشكين يعود أوّل نصّ تبنّى مثل هذا الموقف، أمّا في زمننا الرّاهن فهو ميلوش فورمان الذي على خطى المسرحيّ بيتر شافر، روّج لتلك الشّائعة التي ترجّح أن يكون سالييري هو قاتل موزارت.

على أنّه، وحتّى إنْ احتلّت حادثة القدّاس حيّزاً مهمّاً في شريط فورمان، فإنّ اختزال تلك الرّائعة السّينمائيّة في مجرّد مكيدة يكون دبّرها سالييري، قد يعني حجب جانب مهمّ من أبعاد الفيلم، أي ترجمته للأسرار التي حفّت بهذا التّأليف الموسيقيّ المهيب، كما بإعادة كتابة الأسطورة التي أحاطت بشخصيّة موزارت حين قام بذلك التّأليف الموسيقيّ الفذّ.

هكذا.. يضعنا شريط أماديوس إزاء إشكالين محيّرين: الاقتباس السّينمائي لنصّ مسرحي من ناحية، وإقحام المصادر الموسيقيّة الأصليّة للقدّاس في الشّريط من ناحية ثانية. وقد نضيف إلى ذلك، القراءة الشّخصيّة لفورمان لسيرة المُوسيقِيِّ ذاته، واعتراضه على البعد «الملائكيّ» الذي غالباً ما أفاض في الحديث عنه المهتمّون بسيرة موزارت.

سنتوقّف حينئذ عند المصادر التي اعتمدها فورمان لبناء هذا الشّريط، وعند دور موسيقى المسرح في السّينما، وذلك.. قبل أن نتناول بالتّمحيص مقطعين لهما رمزيّة خاصّة في بلورةِ ملمحٍ لموزارت يتحدّى كلّ التصوّرات المنمّطة.

من النصّ إلى الصّورة

بعد رحيل موزارت المبكّر، أدخَلَ التّنافس بين المدرستين الإيطاليّة والألمانيّة في البلاط النّمساوي الكثير من الالتباس والإرباك على الأوبرا. ففي سنة 1798، أي بعد مضيّ سبع سنوات فحسب على رحيله، برزت سيرة عن موزارت تضمّنت إشارة إلى نزهة في حديقة براتار صحبة كونستانس، أسرَّ فيها موزارت لرفيقته: «أشعر بأنّني لن أعيش طويلاً، فأنا على يقين من أنّهم قد دسّوا لي السمّ».

حينها، بدا بسرعة أنّ (أنّهم) تلك، كانت إصبع اتّهام موجّهاً إلى سالييري، وذلك رغم ما صرّح به فولكمار بروبهرانس: «منذ 1803، كانت الشّكوك تحوم حول الإيطاليّين، ولكنّ اسم سالييري لم يذكر البتّة بصورة صريحة». وكان أفول نجم سالييري في البلاط الملكي، وشغفه المفاجئ بموزارت بعد وفاته، قد جاءت لتأكّد اعترافات أدلى بها حين أدركته الشّيخوخة، واتّهم فيها سالييري نفسه صراحة بأنّه قاتل موزارت. وكان ذلك الاعتراف محلّ اهتمام بوشكين الذي رأى فيه «موضوعاً يتّسق وانشغاله بطبيعة الفنّان والظّروف التي تحكم عمله الإبداعيّ». ورغم أنّ هذه التّراجيديا لم يقع إخراجها مسرحيّاً، فإنّها أثارت اهتمام ريمسكي كورساكوف الذي أعدّ لها تأليفاً موسيقيّاً سنة 1897. لذا، فإنّ الأسطورة السّوداء ازدادت رسوخاً في الخيال الجماعيّ، فيما تواصلت الصّورة الإلهيّة للفتى موزارت، لتستمرّ في القرن الموالي، إذ نقرأ لكاميل بلاّني: «ساعة طفولة لا تُضاهَى، ساعة مجدٍ منخطفة، ساعة موتٍ مستعجَلة، بتلك اللّحظات الثّلاث وتلك العلامات، تعود إلينا دوماً ذكرى ذلك الكائن المُبهِج، نسيج وحده، جان كريستسوستوم فولفانغ أماديوس موزارت».

وكان ذلك التّأثير بليغاً على بيتر شافر، حتّى أنّه فكّر في كتابة مسرحيّة، سوف يحاول فيها تأمّل هذا الفنّان من خلال سيرته والتفكّر في العلاقات بين جانب الإبداع فيه ومعيشه اليوميّ. وقد أبدى هذا الأخير إرادته وحرصه على تدمير الأسطورة الذّهبيّة، ومواجهة المواقف العاطفيّة، التي حوّلت الفتى موزارت إلى دمية خزفيّة، حتّى غدا حضوره مقترناً برؤية صندوق كان يمتلكه الموسيقيّ، ويبدو «كبيت صغير يحدّق فيه شخصان تحت سماء ليليّة مخيفة، يديران ظهريهما وكأنّهما متآمران: رجل وامرأة، أحدهما حذو الآخر». هكذا ترسّخت لدى شافر صورة عن موزارت كان يبدو فيها هذا الأخير معذّباً، صورة سوف تسهم في تشكيل رؤية ميلوش فورمان حين سيتعاون مع شافر ويُقْدم على إخراج شريط «أماديوس». (…)

وقد أثار النّجاح الباهر الذي حقّقته المسرحيّة انتباه ميلوش فورمان الذي صرّح: «لقد مضى وقت طويل قبل أن أتخلّص من التصوّرات السّخيفة التي عشّشت في دماغي عن طيش موزارت، وبعد مشاهدتي لمسرحيّة شافر، أدركت أنّ موزارت ليس ذلك الملاك ذّهبيّ الشّعر، الجالس على ركيزة مرمريّة، وإنّما هو كائن محتشد بالتّناقضات». ولكن، فضلاً عن الفضول الفكريّ الذي يمكن تفهّمه، يطرح هنا سؤال عن سرّ انشغال هذا السّينمائيّ بجنس من الأعمال لم نعهده في مسيرته السّينمائيّة السّابقة. لا شكّ أن ّ نجاح (دون جيوفانّي دي لوزاي) 1979، كان قد أعدّ الجمهور للاستئناس بذلك التوجّه الجديد، ولكن ما كان لافتاً حقّاً لدى فورمان، هو جمعه بين مواضيع كان قد تناولها سابقاً، واكتشافه لملامح جديدة للشّخصيّة المدهشة لموزارت كما جسّدتها مسرحيّة شافر. وكما يشير إلى ذاك ميشال شيون: «لم يتضمّن هذا العمل الدّرامي أكثر من عشر دقائق من الموسيقى، لذا كانت فكرة تحويله إلى عمل سينمائيّ، وكان حرص فورمان على إضافة ما تعذّر تقديمه في العمل المسرحي».

وقد ارتكز الجانب الأساسي في هذا العمل، كما في مسرحيّة شافر، ولكن بأسلوب أكثر رشاقة تسمح به التّقنية السينمائيّة، على المكان والزّمان اللّذين يعيداننا إلى حياة سالييري ما بين 1781 و1824، أي إلى الفترة التي تردّد خلالها هذا الأخير بين صالونات البلاط الملكي بفيّينّا ومستشفى الأمراض العقليّة. ومنذ المشهد الثّاني استطاع المخرج أن يجعل من سالييري السّارد الأساسي، وذلك بلعبة تركيب متعاقب، تعيد مشهدة الهياج الذي كان ينتهب الرّجل العجوز. وكانت ذريعة الاعتراف قد سمحت بكتابة رواية أكثر جوهريّة في سردها للماضي، وذلك بصوت سالييري الخارج عن نطاق المشهد. ومن سارد بالمعنى الدّقيق للكلمة، سيغدو هذا الأخير شاهداً على الموهبة العارمة التي أوتيها موزارت. ولكن، بشكل مفارق، بدت فكرة المؤامرة أكثر كثافة على الشّاشة، لأنّ الكاميرا التي تكون دوماً ذاتيّة، والتي كانت متعاطفة مع سالييري، تسلّلت شيئاً فشيئاً إلى خيال موزارت لسبر أسرار تأليف «القدّاس» الذي كان المقطع 163 منه يفصح عن خيميائيّة ولادته.

قصُّ الموسيقا

مختتماً اللّحظات الأخيرة من الفيلم، ينبئنا المقطع 163 بأمرين اثنين: اختفاء الرّجل المتّشح بالأسود الذي أخلى المكان لسالييري، وقد شكّل ذلك الاختفاء مفاجأة حقيقيّة للمتفرّج حين شاهد عياناً حيلة الموسيقيّ الإيطاليّ، وحين تحوّل سجلّ السّرد من الهزل إلى الدّراما. ثمّ حين سقوط القناع الأسود للأسطورة، ومعه خيال وجه الأب الذي كان يحمل العباءة نفسها، وقناع سالييري نفسه. وبذلك يكون فورمان قد سدّد نظرة عن الإبداع الموسيقي أقرب إلى التّحليل النفسيّ، لمقاربة رواية خالصة من الشّوائب.

كان سالييري يرتدي لباساً أسود، فيما كان موزار يحمل قميصاً فاتحاً، وكان الاثنان منعزليْن تماماً عن العالم، ولا شيء يعكّر صفو انشغالهما بالتّأليف الموسيقيّ. كانت نغمات القدّاس تتدفّق من رأس موزار لترتطم ببطء نسق تدوينها من قبل سالييري، فيما كان بإمكان المشاهد سماع الموسيقى الآسرة المتردّدة في سرّ موزارت، وهي تتصاعد في الأجواء. وهنا، يزيح فورمان سرد سالييري، حتّى يغدو كليّ الإحساس بتلك الموسيقى الآسرة، ويمنح للمشاهد بالتّالي فرصة الإنصات إلى موسيقى تصويريّة مضاعفة مع نهاية كلّ مشهد: ألا وهي صوت موزار الذي كان سالييري يدركه بوضوح، ولكن أيضاً عزف الأوركسترا وإنشاد المغنّين اللّذين كانا لا يطرقان سوى مسمع موزارت. هكذا غدت الكاميرا شاهداً حميماً على انغمار في عمق الجيشان الإبداعيّ المعتمل بسرّ الموسيقِيِّ في لحظات كشفيّة.. إشراقيّة.

كما تركّز التّركيب على إيقاع متسارع يشهد عليه العدد المذهل من المشاهد، فيما كان ضبط الصّورة قليل التنوّع، إذ اعتمد فورمان لقطات تسمح برؤية موزارت وسالييري على نحو متناوب، عبر المجال والمجال المعاكس، متوفّقاً بذلك في توثيق الكثافة الدّراميّة لتلك اللّحظات المنخطفة. وعبر ذاك التّناوب للمشاهد، جعل فورمان من سالييري مجرّد (ناسخ) ذكيّ، غالباً ما كانت تتجاوزه حمّى الخلق الحارقة عند موزارت. ولقطات كثيرة كانت تبرز بالفعل، عجز الموسيقيّ الإيطاليّ عن مواكبة سرعة المبدع، فيما أضحى المشاهد ينصت إلى الأصوات الجهيرة وهي تردّد إنشادها على خلفيّة صوت موزارت الذي غدا يرافق، مدندناً، تلك الموسيقى الأثيريّة بصوت خافت.. واهن.

كما عمل فورمان على تغيير النّظام المألوف لشريط الصّوت، فاختفت المؤثّرات الصّوتيّة، لفائدة التّأليف الموسيقيّ الذي كان بصدد الانسياب في أجواء الغرفة، وإنْ تخلّل تلك الموسيقى التّصويريّة حوار بين موزار وسالييري، فقد كان له في غالب الأحيان دورٌ مربكُ، وجاء ليومئ إلى عجز سالييري عن إدراك ما كان يحدث حقيقة. وفي الواقع، إنّ الأمر لم يكن ليتعلّق بحوار، وإنّما بعلامة بيّنة على الهوّة الشّاسعة التي كانت تفصل بين الرّجلين. وفي هذه الأثناء، أحال فورمان الرّواية المدمجة لسالييري إلى راوٍ كليّ المعرفة قادر على ولوج الأسرار الدّاخليّة لموزارت، ألا وهي اللّحظات الضّوئيّة للتجلّي، ليظلّ سالييري بالنّهاية ذلك المشاهد المدهوش، المأخوذ في دوار موسيقى ملائكيّة غاية في الإشراق والشّفافيّة.

وقد تمّ تغيير تركيب الفيلم على نحو ملحوظ، لنسخ الصّورة بطريقة أفضل، وجعلها متّسقة مع الجملة الموسيقيّة المناسبة. ويروي لنا فورمان في مذكّراته، أنّه تمّ في (أماديوس)، ما لم يحدث في أفلامه الأخرى، أي تسجيل الموسيقى قبل بداية التّصوير: «كانت تلك الموسيقى تُعزف على منصّة التّصوير، وكنّا بعدها نعمل على الملاءمة بين ضرورات الإخراج من ناحية والنصّ الموسيقيّ من ناحية ثانية». وبالتّالي، فإن القراءة السّينمائيّة للإلهام عند الموسيقيّ موزارت، تؤكّد حسب ميشال شيون ذلك «الاعتقاد السّائد لدى المتيّمين بالموسيقى، من أنّ الموسيقى التي نبدعها، لا نملك في الحقيقة غير نقلها، لأنّنا نستمدّها من صوت يكون قد أملاها علينا».

تحطيم الأصنام

أن ننقل إلى السّينما اللّحظات الأخيرة من حياة موزارت، مستبعدين تهمة قتل سالييري لهذا الأخير، سوف يصبّ ذلك لا محالة في أسطورة موزارت المزعوج من سالييري. وفي هذه الحال لن يكون بوسعنا الجزم بأنّ فورمان كان مجدّداً في هذا الصّدد، لا لأنّه اقتفى أثر شافر فحسب، وإنّما لأنّه انضمّ لكتّاب السّير الذين يؤكّدون إلى غاية اليوم على وجود «مكائد من العدوّ الأكبر لموزارت، أنطونيو سالييري، ذلك الرّجل الحقود، وإنْ كان في ظاهره بالغ العذوبة، والذي كانت عبقريّة موزارت تؤرقه وتثير فيه حسداً مميتاً، ويسمّيه فولفانغ بالسيّد بونبونياري (صاحب صندوق الحلويّات). غير أنّه حين يقدّم لنا شخصيّة موزارت وهو في البلاط الملكي بفيينّا، فإنّه كان يُخفي بداخله إحساسه الكاذب بالفتى العبقريّ الذي غدا موعوداً بالخلود. فسالييري، كما يشير إلى ذلك ميشال شيون، يتبدّى في انبهاره بموزارت كنسخة أو نظير للمتفرّج. والتّذكير بالأسطورة عبر (الفلاشباك) في المشهد 17 (إقحام لقطة متوسّطة يبدو فيها موزارت الطّفل عازفاً على الكمان)، جاء معلناً عن نيّة فورمان تدمير الصّورة المفرطة عن موزارت.

وفي البلاط النّمساوي، تمّ لقاء سالييري بالفتى النّمساوي على إيقاع الأبواق وبكاميرا محايدة. لقد وضع فورمان الكاميرا قبالة سالييري حين كان هذا الأخير يتنقّل بين الصّالونات، حيث استقبل الإمبراطور.. أسقف سالوبورغ، مازجاً بذلك بين عين المشاهد، وعين سالييري الذي تقدّمت به السنّ، والذي كان يتأمّل ذاته مفصحاً عن اندهاش قديم: «من تراه يكون موزارت بين هؤلاء المدعوّين؟»، وبسرعة غدت الكاميرا ذاتيّة، وانصهرت في حاضر السّرد. وسوف تصوّر هذه اللّقطة المتتابعة بأكملها، مع تركيز على متاهة الصّالونات، وذلك إلى غاية اللّحظة التي ستثير فيها العودة إلى الحاضر علامة التعجّب المشمئزّة والمزدرية لسالييري: «هذا هو موزارت إذن، أوَيعقل أن يكون مثل هذا.. هو موزارت؟». وكانت كلمة (هذا) في تعجّب سالييري تعني ذلك الفتى الأشعث الذي كان يلاحق فتاة، مطلقاً صيحات هيستيريّة تتخلّلها دعابات خليعة، لينتهي به الأمر إلى التقلّب معها تحت مائدة. وبعيداً عن اعتراف الموسيقيّ العجوز، يتكشّف تصميم على إضاءة ملمح في شخصيّة موزارت تمّ إخفاؤه عمداً، ولم ينكشف إلاّ في مراسلاته، ألا وهو ميله الواضح للدّعابات الفاحشة. ولم تحتفظ الأجيال بعد ذلك، بشكل إراديّ أو عفويّ، بغير (شخصيّة واحدة) لموزارت، وهي الأقلّ اشتباهاً وأنسبها لتحويل هذا الفتى إلى فنّان أنموذج.

ففي الوقت الذي انهارت فيه رؤية سالييري الشّاعريّة عن الفتى موزارت الذي كان هذا الأخير يغار من نجاحه الاجتماعيّ، تشظّت في خيال المشاهد الصّورة الذّهبيّة للموسيقيّ الملاك. فلم تعد فترة الطّفولة لتوضع وحدها قاب قوسين، ولكنّ موزارت بدا في الصّالونات الملكيّة الأنيقة، كائناً مختلاً وغير قادر على ضبط نفسه. وانكشاف تلك الحقيقة جعله محلّ انتقاد من قبل الكثيرين، مثلما يشهد على ذلك مقال لجيرار كوندي الذي كتب: «إنّ الانطباع الأكثر إيذاء عن موزارت البذيء.. الفظّ، السكّير، ليس سوى ملاءمةٍ للصّورة الملائكيّة الرّشيقة والمثاليّة لذوق العصر، لصورة كانت هكذا ترسم في ما مضى، وللأسباب نفسها. وإنّنا بتعلّة إدخال تعديلات عليها، قد نحجب في الحقيقة القليل ممّا كان بإمكاننا معرفته عن هذا الفنّان الاستثنائيّ».

وكما أشار إلى ذلك فولفونغ هيلدشماير، فإنّ «الدّارسين المحقّقين كانوا ينظرون بشيء من الحرج إلى ظاهرة موزارت كما تبدّت وانكشفت للجميع، خاصّة أنّ هذا الأخير لا يقدم على مراقبة منطِقه، فيغدو مسرفاً في استخدام لغة فاحشة.. بذيئة، مستشهدين في هذا الخصوص «بإرث للرّومنطيقيّة التي كانت في إطار تحليلها النّفسيّ للإنسان لا ترى فارقاً كبيراً بين الحقيقة والخيال». ولا ينكر فورمان انحيازه إلى الخيال، بل إنّنا نرى أنّه كان على العكس من ذلك ينشده بقوّة حين صرّح: «إنّ عملنا السّينمائيّ هذا، هو أقرب إلى حلم تاريخيّ، البناء الدّراميّ فيه، تأمّل في ما كان بالإمكان أن يكون عملاً مبهجاً».

وفي الأثناء كان فورمان يريد العودة إلى موضوع أثير لديه منذ إخراجه شريط (وطار فوق عشّ المجانين) 1975، ألا وهو الجنون. فعلى ضوء طبّ النّفس المعاصر الذي يقدّم تصوّراً أكثر رحابة للهَرَعِ (الهستيريا) الذي يطال النّسوة وحدهنّ، انكبّ فورمان على حالة محدّدة، لوصف تجلّياتها الخاصّة. والحال أنّ سلوك موزارت كان يكشف عن أعراض لمثل تلك العلّة العصابيّة، ويتبدّى ذلك بوجه خاصّ في شخصيّته المتعدّدة الملامح، في اهتياجه وفي رغبته الجنسيّة الجامحة.

وقد انطوى أوّل ظهور لموزارت على جميع تلك العناصر، حتّى وإن بدت في مقاربة أولى تعبيراً عن لهو طفوليّ. ومع ذلك، فإنّ التغيّر المفاجئ في موقف موزارت حين أنصت إلى موسيقاه، تحملنا على الاعتقاد بأنّنا في حضرة حالة هياج سريريّة.

أمّا الضّحك الهيستيريّ لموزارت الذي شدّد عليه فورمان، فقد كان رَجْعَ صدًى للّقطات الأولى والأخيرة، التي حملتنا فيها الكاميرا إلى أروقة مستشفى الأمراض العقليّة، حيث المجانين المصفّدين. وكان الرّبط بين الفضاء المغلق للجنون المفزع وفضاء الجنون الخلاّق، تعبيراً عن إرادة بيّنة لإثارة إشكاليّة العلاقة بين الجنون والعبقريّة. وبقطع النّظر عن عملٍ كان في نهاية الأمر متّسقا ووضعه كمخرج، سعى فورمان إلى اعتماد تأمّل فلسفيّ، انبثقت منه رؤية محبطة للمجتمع وللإكراهات التي كان يسلّطها على الفنّان حتّى يحمله قسراً على (ترشيد) خياله. والحال.. أنّ الفنّ متى تأمّلناه جيّداً، تبدّى لنا كلوحة خلاص من الجنون والاختلال العقليّ، وبهذا المعنى، يكون موزارت قد غدا وجهاً رمزيّاً للفنّان، وجهاً تماهى معه السّينمائيّ. وكان فورمان يرى أنّه لا بدّ أن يُفلت موزارت من الاحتجاز بفضل عبقريّته الموسيقيّة، وألاّ يكون بإمكان سالييري التّوق إلى مثل تلك النّجاة، وهذا ما سيجعل هذا الأخير ينهي أيّامه في مستشفى للأمراض العقليّة.

وليس من قبيل الصّدفة أن يكون فورمان قد عاد مجدّداً إلى براغ التي كانت توفّر الدّيكور المناسب للتّصوير. وفضلاً عن السّهولة العمليّة الذي كانت توفّرها هندسة العمارة هناك، أفصح فورمان عن مواقف نقديّة تجاه الممارسات الاستبداديّة للسّلطة القائمة هناك، والتي كانت تجعل من الفنّان مجرّد عامل في خدمتها. وغداً موزارت هكذا.. رمزاً لرفض تلك السّلطة الكليّة الحضور، وعنوان تمرّد على الأمير- الأسقف لمملكة سالزبورغ، فيما بدا سالييري على هيئة إنسان طامح، جاهز لقبول أيّة تسويات. وبذلك يكون موزارت أوّل فنّان حرّ، في عالم غدت فيه رعاية السّلطة الحاكمة تعني إذعان الفنّان لإرادتها. ولا شكّ في أنّنا سنرى موزارت يواجه صعوبات ماديّة، وأنّ تلك الصّعوبات ستنال من رؤيته المثاليّة، ولكنّه سيغدو مع ذلك أكثر جرأة، ليكون الفنّان الرّائد الذي سوف يفتح الطّريق لتحرّر قادم. ويؤكّد لنا كلود بوازو أنّه: «مع موزار تبدّى ملمح الموسقيِّ الحديث، الذي بدأ ينتقل من وضعيّة الموظّف إلى وضعيّة الحرفيّ المبدع».

كما تبدّت علامات جنون موزارت في الأزياء التي كان يرتديها، في تسريحة شعره وفي أداء دوره كممثّل. وكانت موسيقاه الشفّافة البالغة التّناغم، تبدو متعارضة مع مواقفه ولغته وإفراطه، قيما كانت صورته الملائكيّة، غالباً ما تختفي أمام جموحه وميله إلى التمرّد. لذلك.. فإنّ فورمان كان لا يرى فيه الطّفل المعجز، بقدر ما كان يعتبره متحدّراً من سلالة كبار المتمرّدين. لقد كان الشّقيق الموسيقِيِّ لرمبو الذي جسّم معه، ولكن في مجال آخر، الثّورة على الوضع الاجتماعيّ القائم، وغداً تبعاً لذلك سلفاً للفنّان الحديث الذي بإمكانه أن يقول: لا.. لا للتوعّد والتّرهيب. حينئذ يكون هذا الطّفل الذي نحتفظ بذكراه، قد غدا بعينيّ فورمان، المتمرّد الذي تمّ كبح اندفاعه وإخماد حماسته بذريعة أنّه مراهق.

وفي الحقيقة.. إنّ إفراط موزارت كما صوّره فورمان يلتقي مع ما ذهب إليه نيتشه حين قال: «نفْسُ الأرستقراطيّ بصفة عامّة، لا تتعلّق همّتها بالنّطر إلى فوق، وإنّما بإيثار التملّي في ذاتها، أو النّظر إلى الأسفل، مقتنعة أنّها تعيش في الأعلى».

لقد أراد فورمان بإخراجه شريط أماديوس، التّأكيد على ضرورة أن يعمل الفنّان على الإفلات من المعايير الشّائعة، والقطع مع الأعراف والنّواميس السّائدة، كي يظفر بحريّته. ولا أحد بإمكانه الحكم على ما يتفلّت عن الإدراك العاديّ، لأنّ كلّ واحد منّا يظلّ عاجزاً عن الإحاطة بالخيمياء الغريبة.. العجيبة للإبداع الموسيقيّ. وهنا، يجعل السّينمائيّ نفسه وسيطاً بين الفنّ وجمهور المتفرّجين ليُسِرّ لهم بأنّنا نحتاج إلى تدمير الأسطورة الموشّاة لموزارت، وتشكيل صورة أخرى عنه، تستمدّ عناصرها من الأسرار التي كانت محتشدة بداخله.

موزارت المتناقض

لقد مضى وقت طويل قبل أن أتخلّص من التصوّرات السّخيفة التي عشّشت في دماغي عن طيش موزارت، وبعد مشاهدتي لمسرحيّة شافر، أدركت أنّ موزارت ليس ذلك الملاك الذّهبيّ الشّعر، الجالس على ركيزة مرمريّة، وإنّما هو كائن محتشد بالتّناقضات.

ميلوش فورمان

حيرة

يضعنا شريط أماديوس إزاء إشكالين محيّرين: الاقتباس السّينمائي لنصّ مسرحي من ناحية وإقحام المصادر الموسيقيّة الأصليّة للقدّاس في الشّريط من ناحية ثانية. وقد نضيف إلى ذلك، القراءة الشّخصيّة لفورمان لسيرة المُوسيقِيِّ ذاته، واعتراضه على البعد «الملائكيّ» الذي غالباً ما أفاض في الحديث عنه المهتمّون بسيرة موزارت.

إلهام

يروي فورمان في مذكّراته، أنّه تمّ في فيلم أماديوس، ما لم يحدث في أفلامه الأخرى، أي تسجيل الموسيقى قبل بداية التّصوير، «كانت تلك الموسيقى تُعزف على منصّة التّصوير، وكنّا بعدها نعمل على الملاءمة بين ضرورات الإخراج من ناحية والنصّ الموسيقيّ من ناحية ثانية». وبالتّالي، فإن القراءة السّينمائيّة للإلهام الموسيقيّ لدى موزارت، تؤكّد – حسب ميشال شيون – ذلك «الاعتقاد السّائد لدى المتيّمين بالموسيقى، من أنّ الموسيقى التي نبدعها، لا نملك في الحقيقة غير نقلها، لأنّنا نستمدّها من صوت يكون قد أملاها علينا».
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *