خاص- ثقافات
*عبد الواحد مفتاح
قصيد عزالدين بوركة هائلة الكرم، ما إن تطالع ديوانه الأخير “ولاعة ديوجين” (مؤسسة الموجة الثقافية، منشورات نيوبروميثيوس، 2016) حتى يتبدى لك ذلك، وهي قصيدة بهكذا مَسْلَكِيَات تستقر في عمق الشعر ومائه، لتمارس فتنة بنفسها، من خلال جمالية الظلال وَوَارِفِيّة ما ينعكس على جزئياتها البانية، من إشراق شهوة التبليغ عن النفس لأختها النفس.
سؤال الأدبية والخصائص التي تطبع عملا وفرادته التي تشتغل وفق قوانين جد خاصة، في أفق صياغة ما يحقق هذه الأدبية داخله، تبقى من الأسئلة التي طالما كنت أواجه بها رؤيتي بالحكم بالرداءة على أعمالٍ كثيرة، أحير وإياها إلى أن أجد ما يطمئن الجلوس مرة أخرى إلى ما ترتاح له القراءة، فهذا السؤال وما يتطلبه من خلفية معرفية وأرضية تصورية تجعل المرء مدركا لحدودها، حتى مع استيعاب الأساس النظري والمنهجي والقدرة على تثبت مقاييسها وأدواتها.
ننصت للشاعر يقول:
– وما الكتابة إلا محو لما بين الآن وما سبق
أو إفراغ الجمجمة من الأسلاف.
ولا أعلم لماذا تصلح كل
هذه الكلمات الخلاسية
إلا أني أعلم
أن الشعراء
حطب
جهنم
سكانها القراء… (ص 14)
نجد أن قصيدة النثر التي يلتحف هذا الشاعر إزارها تنفلت بألوان الطيف خاصتها وتشاكلاتها الزئبقية، فالشاعر هنا يسعى، ابتداءً، إلى محو وتدمير الآثار الدالة على المقصديات المباشرة في الخطاب، وهو لا يتورع على زرع مؤشرات تواصلية نادرة تماما، كما ينسجم مع صدقه- وهو صدق فني يانع بالمناسبة- وإن كنا نبتعد به عن تقويض ثنائية الصريح والكاذب، وهي بجملتها مؤشرات تشكل مرتكزات النص ودعائمه، لا تساعد القارئ أو تمد له يد داخل القصيدة، لذلك أجدني إزاءها أرتهن إلى الإحساس / الإنطباع، وهو ما سيكون منطلق تواصلي، كما المتلقي الواعي، مع دائرة تأويل وتغيير علاقات هذه الدوال، فلا كبيرَ متعة في الانسياق وراء التحليل والتأويل ونسيان لذة النص، الذي قد تتجنبه القراءة في امتهانها وقصر اهتمامها في دائرة المعارف اللغوية والتاريخية والسيميائية للقصيدة، وهو بهذا اجترار لمظهر السطح للقصيدة، دون حفر في طبقات الكلام وشقوقه.
– العَرَقُ صابونُ العُرْيِ
والعُرْيُ مِصْباحُ الحقيقة.
يا ديوجين تَعَرّى تَرى الحقيقةَ
وما عُريُ حبِيبتي إلّا انْكشافُ الخَلقِ
حَبِيبَتِي القِدَمُ
وقلْبُها هَيُولَى لِلْخَلْقِ
أنا الحديثُ الزَائِلُ
وحبيبتِي البَاقي الأزليُّ
يَنْبَغِي عُرْيٌ لإزَاحَة سِتَار السَّريرِ
وَمَا اللّذة إلّا عَيْنُ قارِئٍ
أو لَعَلّها دُودَة قزٍّ تَجُولُ في نَصٍّ. (ص 43-44)
فسؤال النثر كمضمار للشعر في القصيدة هنا، يتعداه إلى الكشف في إمكانية هذه الموسيقالية الخاصة، التي هي كيانية البنية السردية في قصيدته.. نتكلم هنا عن نظام توليدي تتأسس عليه شعرية اللامرئي.. فبالإضافة لما يعمل عليه الشاعر عزالدين بوركة من كسر مستمر لأفق انتظار القارئ، هو أيضا يرخي قصيدته على غير نموذج تردف نسغها عليه، غير منفك عن معطى التجريب الذي انطلق منه، ولم يتحول عنه في تقديم قصيدة نهائية، يساير عليها مشروعه الجمالي.