“ومضات العقل البراقة”!

خاص- ثقافات

 

المهندس مهند عارف النابلسي*

(دعوة جديدة لإنشاء “دماغ عربي مشترك”)

على هامش استمرارية التلسكوب “هابل” لعقدين ونصف

عندما أطلق تلسكوب الفضاء الأمريكي منذ حوالي عقدين ونصف، توقع العلماء اكتشافات توازي أهمية اكتشافات كولومبس، فهل حقق “هابل” التوقعات المنتظرة منه، وخاصة مع كثرة مشاكل التي واكبت إطلاقه، ومنها: اللوحات الشمسية، وغطاء الحماية، وضعف التوجيه وتعطل منظارين، ومع حدوث رجات غير متوقعة وتعطل أحد هوائيي المركبة، مما أثر سلبا على توصيل المعلومات والمعطيات الفلكية، وبالفعل فقد نجح أخيرا بإرسال بعض الصور الجيدة للأرض!

هكذا من معرفة كونية بالغة التعقيد لمعرفة داخلية بالغة القرب، فهل تم اكتشاف مجاهل “الدماغ البشري”؟ حيث يتحدث علماء الدماغ عن احتمال مستقبلي مذهل، عندما نتمكن من التحدث إلى دماغ بشري غير متجسد عن طريق استئصاله بعد الوفاة والحفاظ عليه في سائل خاص.

لقد تمت أول تجربة بشرية لمحاكاة طريقة عمل “القشرة الدماغية” بواسطة الحاسوب المسمى “جحيم” الذي أنجز عام 1959، والذي تمكن من كشف الملامح والتعرف على النماذج…ويؤكد العلماء أن ازدياد القشرة الدماغية حجما وتعقيدا هو العلامة الجوهرية على تطور الدماغ البشري، ولقد أثبت عالم اللسانيات “شومسكي” أن القواعد اللغوية العالمية موجودة مسبقا في الدماغ البشري بشكل وراثي مما يؤكد توفر آلية الإبداع العقلي لدى جميع الشعوب دون تمييز.

ولو اندفعنا بالغوض في مجاهل الدماغ البشري لذهلنا من الفروقات المكتشفة لطبيعة عمل نصفي الدماغ الأيسر والأيمن: إن اهم رابط بين نصفي الكرة الدماغية هو حبل مسطح من الألياف العصبية يسمى “الجسم التقني”، تتلخص وظيفته في وصل الأجزاء المتوافقة للنصفين الأيمن والأيسر، ويستخدم أساسا لنقل المعلومات ولتنسيق النشاطات، وهو مؤلف من مليوني “ليفة عصبية”. وقد لاحظ الباحث “روجيه سبري” أن البتر التام للنصف الأيسر المسيطر يمكن أن يترك المصاب في حالة من “الترقب والمسؤولية والذكاء”، وهذا يثبت أن النصف الأيمن ليس “عجلة احتياط” فقط، وإنما تتوفر لديه الإمكانيات لتوفير وعي ذكي بالرغم من أنه “أبكم”، وهنا كاحتمال وارد لاكتسابه وظيفة اللغة عندما يكون الدماغ بحالة نمو، وفيما تنحصر قدرته عادة بالتعابير التلقائية، بينما يتميز الشطر الأيسر بالكفاءة الفصحى الغير محدودة..

إن النصف الأيمن من الدماغ هو الذي يتعرف على الوجود، كما يتفوق في الإدراك الموسيقي، ولكن نجاحه العظيم يكمن في قدراته البصرية الفراغية، فقد لوحظ أن أصحاب الإصابات في النصف الأيمن تتكون لديهم صعوبات جمة في مجال الفكر البصري الفراغي، كما تصبح رسومهم ومخططاتهم غير منتظمة وعديمة الشكل، ويجدون عسرا في العثور على منازلهم، وفي إدراك الفراغ المتشكل من قبل أجسامهم.

ترتبط الأحلام مباشرة بتشكيل النصف الأيمن للدماغ، ولكن النصف الأيسر هو الوحيد القادر على التحدث عنها، ويمنعنا نشاطنا النهاري من أن نكون واعين لأحلامنا. لقد تحدثت كتابات كثيرة عن التفاعل المتبادل بين العقل والبديهة بغرض إنتاج الأفكار الخلاقة، وحتى فيما يختص بالفكر العلمي الأكثر موضوعية وبرودة فانه كثيرا ما يوصف على أنه يتضمن ومضات من البديهة النابعة من أعماق النفس، ويمكننا  في هذا الصدد أن نذكر مثالا شهيرا من الحدس في مجال الكيمياء وهو اكتشاف البنية الكيميائية للبنزين، فبعد ان انكب العالم الكيماوي”فريدريك كيكول” لفترة طويلة من الوقت على حل هذه المشكلة، بدت له فجاة في حالة من الحلم “نصف الواعي” صورة بصرية لمجموعة من الثعابين، يعض كل واحد منها ذنب التالي بحيث تشكل في مجموعها حلقة، وعندما أستيقظ شعر بأنه اكتشف اخيرا البنية الكيماوية “الحلقية” التي كان يبحث عنها طويلا! ويفسر ذلك على ان العقل الذاتي يكون بصورة أفضل عند حافةالنوم لأنه يكون متحررا من طغيان العقل الموضوعي، كذلك توصل العالم الفيزيائي “دوبروي” لنظرية “التيرموديناميك الخطي للجسيمات” او يسمى “الميكانيك التموجي” عن طريق الحلم، وأصر في معظم كتاباته على أن للاحساس والحدسدورا هاما في الاكتشاف والإنتاج المعرفي.

إن استحواذ الشطر الأيسر من الدماغ على وجودنا العقلاني يجعلنا محصورين في عالم مادي بحت، وعندما نسترخي يبدأ الجزء الأيمن بالنشاط وتختفي عاداتنا بالتسارع اليومي الروتيني، ويحل شعور أكمل بالطواف “اللازماني”! وقد ثبت تجريبيا أنه حينما يكون الناس في حالة انتعاش فإنهم  يستطيعون التأثير على سقوط “زهر النرد”، وقد كان العالم “هلموت شميت” هو أول عالم يعرض حقيقة قدرات “الحاسة الإدراكية الفائقة” والتأثير الروحي،  كما أكد ما سبق وأن استنتجه عالم النفس “يونغ” عن وجود قوى خلاقة كامنة في العقل البشري مرتبطة بشكل ما ضمن نشاطات ذاكرة الجنس البشري الجماعية. يقول “كولن ولسن” بكتابه “ما بعد الحياة”(1989): إن استحواذ الشطر الأيسر على الحاضر وعلى الوجود يجغلنا محصورين في عالم من الأشياء المباشرة والتافهة كما لو أننا محاطون بحائط رقيق من الزجاج العازل للصوت، وبينما نسترخي في داخل الشطر الأيمن من المخ، تتزحزح الحوائط الزجاجية بصمت ونجد أنفسنا ونجد انفسنا فجأة على اتصال بالعالم الحقيقي، وتختفي عادة التسارع اليومي، وتتوقف الساعة عن الدق المستمر، ويحل محلها شعور “بالطواف اللازماني”!

في تشرين الأول لعام 1987 صمم العالم النفسي “راسيل تارغ” (من المختبر القومي للإدراك الغير حسي في كاليفورنيا) تجربة رائدة غرضها جمع المعلومات عن الرؤية البعيدة ومعرفة الأشياء بالإدراك الخارج عن الحس: ومن بين ال500 شخص الذين استجابوا للدعوة لامتحان طاقاتهم النفسية، أحست امراة أن الهدف المقصود هو جسم “معدني”، وتوالت صور أخرى في ذهنها…الهدف ساطع،  يحدث ضجيجا موسيقيا، ثم كتبت أنه “بوق فرنسي” وكانت مصيبة تماما، وفي هذا الصدد أورد “كولن ولسن” النص التالي بنفس كتابه: “…ثم لعل أكثر العوامل أهمية في البحوث الإنسانية هو الاعتراف بأننا نمتلك كل انواع القوى التي لا ندركها بوعينا العادي، بدءا من التخاطر والتسلط الروحي وانتهاء بالظهور النوراني والمعرفة المسبقة بالمستقبل…”!

لقد استند العرب للعقل منذ قديم الزمان، واعتمدوا على “ومضات البصائر”، فقد أوجز ابن المقفع في كتاب “الإمتاع والموانسة” لأبي حيان التوحيدي، فقال واصفا العرب “أهل بلد قفر ووحشة من الانس، احتاج كل واحد منهم في وحدته الى فكره ونظره وعقله”. وتكمن مشكلة البشر عموما في أنهم “ذاتيون للغاية”، وهم بحاجة ماسة لتحقيق ما يسمى “الوعي الموضوعي” الذي يمكنهم من النظر بحيادية ورصانة تجاه الأشياء، فعلى سبيل المثال سأل مشاهد سبعيني مثقف مخرجة الفيلم الوثائقي التسجيلي حول مدينة عكا الفلسطينية “ولكنك لم تصوري منزلنا …ولا المساجد والكنائس القديمة”، وعلق استاذ سينما اردني على فيلم “فيم فيندرز” العالمي المدهش “أجنحة الرغبة” بأنه سبق وسكن لمدة 15 عاما في موقع برليني ظهر بالفيلم الشهير، متجاهلا الكثير من اللقطات التعبيرية الشاعرية الساحرة في الشريط!

يحذر “جورج طرابيشي” في مقال نشر بالعام 1994 قائلا: “من أن عذابات هائلة تنتظر شعوب هذه الامة اذا لم تحرك ساكنا…”، كما يصف أدونيس العودة للماضي بمقال آخر نشر في نفس العام “…كأن أصحابها يريدون الخروج من الحاضر ومن المستقبل”!

يقول ديكنز “إذا لم تحب حياتك فيمكنك أن تغيرها”، كما وضح ديكارت دور العقل المحوري بمقولته الشهيرة “أنا افكر اذن أنا موجود”، هكذا فتعرفنا على كيفية عمل دماغنا البشري يضعنا على الطريق الصحيح للاستخدام الأمثل للعقل، ويطرد من عقولنا مخزون قرون طارئة من الظلماتوالجهل ويقودنا للتعود على الأساليب الكفؤة لاستغلال طاقات المنطقوالحدسالتي نتمتع بها ولا نحسن استخدامها…انها السلاح الأكثر فتكا الذي يجب ان نستهل به “الألفية الثالثة”، متخلينعن تخلفنا الفكري “السائد” وأساطيرنا وغيبياتنا الظلامية، كذلك عنتقاعسنا وكسلنا العقلي المزمن، وكذلك اتكالنا على انجازات غيرنا من الشعوب “النشطة الذكية الطموحة”. انعصرنا الحالي هوعصرالتكتلات والتجمعات الاقتصادية والصناعية والأجدى ان نبادر ونباشر في صنع ما ادعوه “دماغ عربي مشترك” تنحصر وظيفته الرئيسية بالتحكم الخلاق بكافة انشطتنا “العلمية والثقافية والاقتصادية”.

شاهد أيضاً

كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأدب

كيف تعلمت الحواسيب الكتابة: تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره في الأدب مولود بن زادي في كتابه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *