خاص- ثقافات
*سناء عبد العزيز
ظلال داكنة تدب فيها الحياة!
صدر حديثًا ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة العامة للكتاب، رواية “جزيرة صغيرة” لأندريا ليفي، الكاتبة البريطانية التي لم تبدأ الكتابة بشكل منتظم إلا وهي على مشارف الأربعين، مما يفتح بابًا من الأمل لكثير من الكتاب الذين لم يحالفهم الحظ لعمر متأخر، قامت بترجمة الرواية إلى العربية المترجمة فاطمة أسامة، كما حصلت تلك الرواية الحافلة بالأحداث والشخوص، على العديد من الجوائز؛ منها جائزة الأورانج 2004 ، تلك الجائزة الوحيدة في العالم المخصصة لكتابات المرأة كنوعٍ من الانصاف، وجائزة كوستا 2004 ، جائزة الكومنولث 2005 .
قبل رواية “جزيرة صغيرة” كتبت ليفي ثلاث روايات وهي : مجلس النواب ( 1994 ) ، أبداً وبعيداً عن أي مكان ( 1996 ) ، ثمرة الليمون ( 1999) ، وآخر رواياتها ( الأغنية الطويلة ) 2010.
تبدأ الرواية بافتتاحية تحت عنوان “كويني” تشي قبل الايغال في القراءة بالحنين إلى افريقيا، القارة السوداء المنبوذة، حيث تعتقد كويني بوكستون أنها ذهبت إلى افريقيا، وتخبر كل فصلها بذلك، وتعلنه على الملأ بكل جرأة وهي واقفة أمام العلم بصوتٍ عال كآلة نفخ نحاسية: “أنا ذهبت إلى إفريقيا عندما جاءت إلى ويمبلي.” ولكنها لم تذهب إلى إفريقيا لقد زارت معرض الإمبراطورية البريطانية لا غير مثل آلاف آخرين كما أخبرتها زميلة لها في الفصل.
ولذلك نجد كويني فيما بعد، بعد أن كبرت وأصبحت امرأة، هي الانجليزية الوحيدة التي تقبل بتسكين الملونين في منزلها وسط استهجان الجيران، بعد أن ذهب زوجها إلى الحرب ولم يعد، ويكرر عليها جارها وزوجته كلما تحدثا معها نفس السؤال: كيف يمكنك تقبل كونك امرأة وحيدة بمنزل واحد مع الملونين؟
ولما لا يجدا وسيلة تجبرها على طرد الملونين من بيتها، يقرر هو وزوجته بلانشي الرحيل عن المنطقة بأكملها، خاصة عندما يرفع جلبرت جارها الملون قبعته لتحية السيدة بلانشي فتهرول مذعورة إلى داخل منزلها كما لو كان قد قام بعمل فاضح!
تعد العنصرية هي المحور الأساسي القابع خلف الأحداث، كل الأحداث، العنصرية بكل صورها وكافة أشكالها؛ عنصرية النوع ذكر\أنثى، عنصرية الدين مسيحي/ يهودي، عنصرية الهوية انجليزي / غير انجليزي وأخيرا عنصرية اللون أسود / أبيض.
فالسيد فيليب روبرتس وزوجته، التي هي أطول منه ببوصتين:
انحنت بنية جسمها، على مر السنين، تفضلا منها فأصبحت أقصر قامة منه لكي توفر لزوجها تلك الكرامة.
أما هورتنس التي ذهبت للعيش عند أولاد أعمام أبيها لتحسين نشأتها فتقول:
كبرت وأنا أشبه والدي. فلون بشرتي فاتح مثل أبي، لون العسل الدافئ. وليس كالشيكولاتة المرة كلون آلبيرتا وأمها.
وما عسى آلبيرتا بعد هذا أن تقدم؟ قدمان حافيتان تحجلان فوق الصخور” ولا تذكر كونها أمها سوى مرة واحدة وهي تقدم نفسها؛ ولدتُ من أم اسمها آلبيرتا.
فيما تقول عن أبيها؛ وعندما تكون طفلا لشخص مثله، فهناك بعض الأمور متوقعة منك وليست بالضرورة متوقعة ممن هم دون ذلك، وكان هذا هو الحال معي.
الرحيل من جامايكا الى انجلترا الحلم
تظل انجلترا هي الحلم الذي يلاحق كل الشخصيات، لم تكن هورتنس تعتقد انه سيتحقق لها هي على وجه الخصوص، حيث نتفاجأ بها واقفة أمام باب منزل في لندن تدق الجرس، وقتها يتراءى لها كما يتراءى لنا نحن القراء مدى خيبة الحلم.
الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لابد أنها الحرب هي من بدل الحلم الى كابوس مزعج، ولكنها طبيعة الأمور فمن قلب جسامة الكارثة يتحقق التغيير الذي لم يكن ثمة سبيل من الوصول اليه الا بوقوعها فوق رؤوس البشر وبكل ضراوة؛ وإلا ما السبيل للقضاء على العنصرية وتغيير المجتمع ؟
تتفاجأ هورتنس بعد أن تصل إلى بلد الحلم الذي ضحت لأجله بالكثير وبعد أن يقودها جلبرت زوجها عبر سلالم كثيرة تقطع الأنفاس، بمجرد حجرة صغيرة قذرة تفتقر حتى لأبسط مقومات الحياة الانسانية، “
كل الذي رأيته كان عبارة عن حوائط بنية مظلمة وهناك كرسي مكسور أسندت رجله المكسورة على الكتاب المقدس ونافذة وستارة ممزقة”
وتظل تردد كلما اصطدمت بواقعها المفزع تردد على زوجها نفس السؤال “أهكذا يعيش الانجليز”
ثم يقفز السرد قفزة واسعة وتحكي هورستن حياتها منذ البداية ونشأتها عند أولاد عم أبيها، وتطرح عبر ذلك الحكي كل أشكال العنصرية التي تعج بها تلك الجزيرة الصغيرة.
تقع الرواية الطويلة في حوالي 700 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من تسعة وخمسين فصلا بالاضافة إلى الافتتاحية، يحمل كل فصل اسم راويه؛ هورتنس، جلبرت، كويني، برنارد، فليس ثمة راوي عليم يسرد لنا الأحداث، بل تتولى كل شخصية سرد تفاصيلها في شكل من أشكال التداعي الحر الحميم ودون تسلسل زمني منطقي؛ حسبما تتساقط الأحداث على الذاكرة. وكأن كل شخصية تعاني على حدة دون أن يكون هناك آخر تشاركه معاناتها رغم وجودهم أحيانا تحت سقفٍ واحد!
الحرب العالمية الثانية
لعل ما تطرحه الرواية من ويلات الحرب وتأثيرها على شخوصها جميعا حيث لم ينجُ أحد ، وتصبح كل المصائر مجهولة، مايكل ابن عم هورتنس يضيع في الحرب، قد يكون مات قد يكون حيًا، ثمة تحقيقات في هذا الشأن، زوج كويني يؤكدون لها أنه عاد ولكنه لم يعد وكأنه آثر الهروب منها، البعض يؤكد أنه رآه في مناطق مختلفة حيث يصبح من المستحيل العثور عليه، هورتنس تتزوج من جلبرت الذي تلاحقه في الزحام ظنا منها أنه مايكل وعندما يقترب تسفه تفكيرها كيف ظنت أن هذا السخيف مايكل وعلى الرغم من ذلك تتزوجه رغبة منها في الرحيل إلى انجلترا الحلم، كل المصائر المجهولة تلاحق الشخصيات عبر السرد كما اللعنة ولا يمكنهم الفكاك منها، إلا أنها تسفر في النهاية عن تغيير كبير في المجتمع الانجليزي الذي يذوب فيه هؤلاء المهاجرون الذين لم يتم قبولهم إلا على مضض، والذي خاضوا مع الرجل الأبيض حربًا ضروسا لا ناقة لهم فيها ولا جمل:
قد يكون ابن عمي إلوود على حق. “يا رجل، هذه حرب الرجل الأبيض. لم تريد خسارة حياتك من أجل الرجل الأبيض؟ إن كان ذلك من أجل جامايكا، فنعم، من أجل تحرر بلادك، نعم، هذا ما يستحق القتال من أجله.
لقد كان جل أمنيات الشخصيات الاعتراف بهم وسط هذا المجتمع ولو دفعوا حياتهم ثمنا لذلك، وهذا ما كان بالفعل.
يبقى أن أندريا ليفي في روايتها “جزيرة صغيرة” برهنت على غزارة لافتة للنظر في الحكي، وقدرة رائعة على تضفيير الأحداث رغم تعمدها تشظية الزمن على طول السرد، كما أنها تتمتع بشاعرية واضحة وناعمة تظهر في ثنايا الحكايات خاصة حينما تصف المرأة السوداء التي تغزل على النول في معرض الإمبراطورية البريطانية ” وكأنها الظل دبت فيه الحياة”.