ريتسوس.. الشعر عصي على التعريف

القاهرة- ضمن الشعراء الأكثر تأثيراً في الشعرية العربية، يأتي اسم الشاعر اليوناني «يانيس ريتسوس»، الذي ترجمه أكثر من واحد إلى العربية، وعلى رأس هؤلاء الشاعر المصري رفعت سلام، وهو يرصد حكايته مع ريتسوس في مقدمة ترجمة ديوانه «اللذة الأولى»، فحين قارب على الانتهاء من الترجمة كما يقول: «بدا لي أنه قريب إليّ كنفسي، بعيد كصوت شارد هارب، فكيف يمكن توحيد المسافة».
كان ريتسوس قد مات قبل أن يتواصل معه الشاعر المصري، وقد بدأت الحكاية بناء على مشورة من الروائي صنع الله إبراهيم، تدعو «سلام» لمقابلة الملحقة الصحفية اليونانية بالقاهرة، وتحدث معها الشاعر والمترجم عن رغبته في تحقيق أحد اقتراحين: أن يكتب ريتسوس مقدمة للترجمة، أو أن يعد له أسئلة يجيب عنها، وتنشر بديلاً عن المقدمة، ومر عام دون أن تحدث استجابة لأحد الاقتراحين، كانت الملحقة الصحفية غير مستريحة لاختيار ريتسوس، وهذا ما بدا من حوارها الذي كان يشبه استجواباً للشاعر المصري، إذ سألته عن معيار اختيار القصائد، وما إذا كانت سياسية، وأسباب اختيار ريتسوس بالذات، إضافة إلى تلميحات حول موقفه السياسي، والخلاصة كما يقول سلام: «بدأت مراوغة لم أفهم منطقها إلا بعد انتهائها، مراوغة تتراوح بين الاستجواب والتهرب، تحملتها على مضض من أجل الشاعر الكبير، ولكن سدى».

إلى أن عرف «سلام» بزيارة المفكر الراحل أحمد صادق سعد إلى اليونان، للقاء أحد أصدقائه، وهنا طلب سلام منه أن يوصل خطاباً منه إلى ريتسوس، وفي الخطاب قدم سلام نفسه إلى الشاعر الكبير، وأخبره بترجمة مختارات من قصائده، واقترح عليه كتابة مقدمة للترجمة، مع تزويده بما يمكن أن يكون متاحاً من مقالات عن تجربته الشعرية، للاستفادة منها في كتابة مقدمة تحليلية، كانت المحاولة كما يصفها سلام، تبدو «نوعاً من النزق الطفولي الجميل والعبثي بلا نتيجة، لكنها كانت ضرورية ومنطقية في الوقت نفسه».

إلى أن وقعت المفاجأة، إذ وصلت إلى «سلام» رسالة من دار النشر اليونانية التي تملك حقوق نشر أعمال ريتسوس، أشارت الرسالة إلى أن خطاب الشاعر المصري قد وصل إلى الشاعر الكبير، الذي أبدى ترحيبه وسروره وشكره العميق على إنجاز الترجمة، وأنه طلب من دار النشر منحه جميع الحقوق المتعلقة بنشرها بالعربية، كما أنه طلب إمداده بالمتاح من الدراسات حول شعره، وأوضحت رسالة دار النشر أن ريتسوس يبدي أسفه الشديد لعدم استطاعته إنجاز المقدمة المقترحة، حيث إنه يلزم نفسه – فيما يتعلق بالترجمات المختلفة لشعره – بعدم كتابة أية كلمة على سبيل التقديم، ويكتفي بالقصائد ذاتها، وهكذا إلى أن جرت المفاجأة الثانية، حيث مات ريتسوس قبل أن يهديه «سلام» النسخة الأولى من ترجمته العربية.
تتصدر المختارات ما يشبه الترجمة لمسيرة الشاعر الكبير، الذي يمكن وصفه بأنه «طفل بلا طفولة» أو كما يقول هو نفسه: كان «ينزوي مثل مشلول صغير عند سماع الهمسات والصرخات في بيت مجاور، عند سماع الصوت المرعب للأب، ويحتله البكاء لساعات تحت أحد الجدران، ويستغرقه الحلم لساعات أخرى أمام البحر، ويقعي كقطة، وسط ما تبقى من أشياء لم يدركها الخراب، وقد كتب ريتسوس فصلاً كاملاً في روايته «الأرسطو النبيه» يتحدث فيه عن محبته للخيط المرتبط بطفولته البعيدة «هو الذي يقودنا للعمق السري للشعر»، كما أن الأشياء اليومية هي الوسائل الأقرب إلى التجريد، أي أنها تجعل المرئي لا مرئياً.

عندما أنهى ريتسوس الدراسة في المرحلة الإعدادية كان عمره 16 سنة، وكان ذلك في عام 1925 وفي تلك الحقبة الكالحة، انطلق إلى أثينا على غرار كثيرين: خروج مهاجر من الداخل، صبي مثقل بتلال من الصدود والنكران، مرهون بقبول التماس وظيفة في مدينة متخمة بالبشر، تتضور جوعاً إلى حد الشراسة، يعمل في البداية كاتباً على الآلة الكاتبة، ثم ناسخاً لوثائق البنك الوطني، وبعد عدة شهور في شتاء 1926 تدركه الأزمة الأولى للمرض الذي سبق أن اختطف شقيقه وأمه.
يعود ريتسوس إلى قريته ويقيم في فندق مهجور، ويكتب قصائد لن تطبع في ديوان، تحت عنوان «منزلنا القديم» ويدخل المستشفى ليظل به على مدار عام، متأرجحاً بين النقاهة والانتكاس في مصحات الفقراء ويكتب: «أينما أولي وجهي في الضباب لا أرى بداية ولا نهاية»، ويكتب أيضاً: «الكلمات التي كتبها بكثير من الحرارة طوال سنوات/ تتجمد/ يشمها تحت أصابعه/ كشعر جاف وحيادي لحيوان ميت».
كان ريتسوس يقول: «هناك عوامل كثيرة وكثيرة، عوامل غامضة وغير محددة، تؤسس القصيدة، عوامل لا نكاد نحددها أو حتى نلحظها، لذلك فكل تعريف للقصيدة هو خاطئ بالضرورة، لأن العمل الشعري يظل متعالياً عن كل تعريف، من ناحية أخرى لا نستطيع أن نقيّم القصيدة من خلال ما تقوله، ولكن من خلال ما تكونه القصيدة الحقيقية، التي تحرك في القارئ طاقته الذاتية الخلاقة، ولا يعني ذلك أن يغترب في القصيدة أو يقلدها، وهذا نوع من تقييم الشعر باعتبار فعله في القارئ».
كان يرى أن للقصيدة ألف وجه، وثمة في عمقها شيء يستعصي على الفهم، ويمنح النقاد تفاسير متعددة ومختلفة، كل واحد منها ينطبق على وجه من وجوه القصيدة، ولكن كل هذه التفسيرات مجتمعة عاجزة عن استنفاد قصيدة حقيقية، لأنه كما أن الشعر يحتوي على المعلوم، فهو يحتوي على قدر من المجهول أيضا، وليس ثمة وسيلة محددة، ولا لحظة عندي للكتابة، لحظة التيقظ هي لحظة انفتاحي على الشعر – الكلام لريتسوس – وذلك احتمال كل لحظة، لأنه لا توجد برهة خاوية في الحياة، وهنا تنشأ المعضلة، كل لحظة شاسعة، وهي تحتمل في الآن أحلامنا ورغائبنا وذكرياتنا وأفكارنا ومشاعرنا، وحساباتنا اليومية البسيطة، قد تحتمل ظهور أغنية منسية في الداخل، اللحظة كثافة حيوات وأزمنة، والشاعر هو الذي يقول هذه اللحظة التي هي الموازي لكل الحياة.
لأجل هذا – يقول الشاعر الكبير – ليس عندي لحظات شعرية مختارة، أشتغل في كل وقت، في الظهيرة، والليل، وعند الغروب، وفي الصباح، خوفي هو أن تغيب نجمة عن قصيدتي، أن تفلت مني إشارة إنسانية صغيرة، أريد أن أقبض على كل شيء في اللحظة.
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *