بافلوفية الإعلام والإعلان

*خيري منصور

قد لا يكون من يستخدمون المنهج البافلوفي في الإعلام والإعلان معا على دراية بصاحب هذا المنهج، وهو عالم النفس الروسي الذي أجرى تجارب في التعلم، منها ما سماه التعلم الشرطي، وهو اقتران رنين الجرس بلعاب الكلب، لأن الرنين في تلك التجربة كان يرتبط شرطيا بالطعام.
والقاسم المشترك بين هذه التجربة وما يمارس في الإعلام والإعلان يتجاوز إسالة اللعاب إلى ما هو أبعد، بحيث يتواصل سيلان اللعاب لكن بلا طعام.
وبعد رصد أكثر من ثلاثين إعلانا عبر مختلف الفضائيات والإذاعات ويافطات الشوارع، وجدت أن الإعلان لم يعد حكرا على المواد الغذائية، بل على سلع مختلفة تشمل السيارة وزجاجة العطر والملابس والكتب، وإن كان الاقتران في هذه الإعلانات يستبدل رنين الجرس بوعود لإشباع غرائز ومكبوتات نفسية واجتماعية وجنسية، ومثال ذلك أن الحصول على السلعة المعلن عنها يحقق لمن يحصل عليها الوسامة إذا كان يفتقدها، والعافية إذا كان مريضا، والنجاح والجاذبية إذا كان يعاني من الفشل والإحباط.
ولكي تؤدي هذه المهمة البافلوفية أهدافها تمددت نحو الثقافة، فأعادت إنتاج أغنيات وأناشيد وطنية وأفلام سينمائية شهيرة، بحيث تصبح في خدمتها بعد تجريفها من مضمونها وتجريدها من رمزيتها. وللمثال فقط اكتفي ببضع مشاهد إعلانية، الأول يسخر من جمهورية أفلاطون لأنها تخلو من مكيفات الهواء، والثاني يسخر من أحد اجزاء ثلاثية نجيب محفوظ ليقدم السيد أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة بصورة تنزعهما من الرواية، ويتحولان إلى نموذج من زبائن السلع الاستهلاكية، ويتكرر ذلك في تهشيم رواية ثروت أباظة «شيء من الخوف» ليصبح عتريس بطل الرواية ناطقا باسم سلعة غذائية.
وإذا كان كل حرف أو فاصلة من القصائد والروايات والأبحاث العربية يخضع لرقابة جدانوفية وغوبلزية معا فإن الإعلانات تتناسل كالأميبا بلا رقيب، وقد لا يسلم من بافلوفيتها شيء من تراثنا وثقافتنا ورموزنا، لهذا سخر أحد الظرفاء من وعود الإعلانات حين توقع مشاهدة إعلانات عن نوع من الصابون يغسل الذنوب. وأحيانا تحقق بعض الإعلانات تعايشا لا يمكن تخيله بين الأضداد، كما يحدث في إعلانات التبغ، فهي تعد من يدخنه بسعادة لا حدود لها، لكنها تحذره في الوقت نفسه من تصلب الشرايين والسّرطان، فأيهما تصدّق؟
إن فلسفة حذف الحدود بين الأضداد والنقائض حين تنتشر تؤدي إلى ما يمكن تسميته التعويم، وهو في الثقافة ومنظومة القيم أشد خطورة من تعويم العملات والتضخم الذي ينتج عنه أشد فتكا من التضخم بالمعنى الاقتصادي.
أما بافلوفية الإعلام، وإلى حدّ ما الثقافة/ فقد نشأت في نظم توتالية أو ما تسمى شمولية، بدءا من قصائد المديح التي تدبج للديكتاتور، بحيث يرتبط التصفيق باسمه حين يرد في أي موقع من القصيدة، وأدت هذه البافلوفية إلى إحلال اسم الزعيم مكان الذروة الدرامية، ولدينا في أرشيفنا العربي مئات بل آلاف المشاهد لمن يريد أن يفتح هذا الملف. كذلك تسللت البافلوفية إلى أفلام عربية تستخدم المشاهد المثيرة بمعزل عن سياقها الدرامي، بحيث تبدو الحكاية مجرد ملء فراغات أو ثرثرة لا معنى لها، لأن تقديم تلك المشاهد وحدها بمعزل عن الحكاية يحولها إلى أفلام بورنو.
وتتجلى بافلوفية الإعلام أيضا في صفات ونعوت تطلق على الزعيم، بحيث يؤدي تكرارها إلى استجابات ميكانيكية، وهنا أتذكر تجربة طريفة ورائدة للكاتب منير العكش في دراسة نشرها قبل عدة عقود عن الاستجابات النفسية والعضوية لنماذج من الشعر العربي الحديث، وحين يتمدد نفوذ البافلوفية وتتكرر تفرز ما يسمى في علم النفس المتواليات النفسية الرتيبة، بحيث تقتصر دلالات بعض المفردات والمشاهد على استجابات بيولوجية خالصة. ولعل هذا ما يفسر سرعة انتشار بعض الكتب الأكثر مبيعا التي يعزف مؤلفوها على أوتار الغرائز ويقرعون الأجراس لإسالة لعاب قرّائهم المكبوتين لكن دون تقديم أي إشباع.
وإذا كان كلب مسكين هو ضحية بافلوف في تجاربه حول التعلم الشرطي، فإن الانسان هو الآن ضحية الرأسمالية في ذروة توحشها، وفي مجتمعات ما يسميه هربرت ماركيوز الإنسان ذو البعد الواحد، وهو البعد الاستهلاكي الذي يحول الإنسان إلى إسفنجة. وفي عالمنا العربي يندر أن نجد دراسات تُعنى برصد مثل هذه الظواهر، وإن كانت محاولات جلال أمين جديرة بالتوقف في هذا السياق، خصوصا في مقالاته عن السوبر ماركت، حيث يتأقلم الزبون مع الكاميرات التي تراقبه باعتباره سارقا محتملا، أو من خلال العربات الكبيرة التي تضطر من يجرها إلى مراكمة سلع لا يحتاجها خجلا من الآخرين.
وبالتدريج زحف الإعلان البافلوفي على كل البرامج الفضائية حتى الحواري منها وعلى الإذاعات وبعض الصحف وأصبح مصطلح فاصل ونعود هو المساحة الأهم من الفيلم أو البرنامج، وكأنهما مجرد استكمال نصاب أو حيلة لتبرير مساحة الإعلان . وهناك بُعد مسكوت عنه في بافلوفية الإعلان، هو عدم خضوعه لأي رأي طبي، فهناك إعلانات تعد مريض السرطان بالشفاء لمجرد أن يدلك جسده أحد فقهاء الخرافة، وبعد عدة عقود من صدور رواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي الذي أصيب فيها الناس بالعمى لأنهم سكبوا زيت قنديل مقدس في عيونهم. نجد إعلانات عن وصفات ومواعظ تصيب من يصدقها بالصمم والعمى والشلل والموت.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *