خاص- ثقافات
*د. سهام جبار
بالرغم من أن كتاب ( ضيفاً على بورخيس ) لألبرتو مانغويل هو ضيف على كتاب (المخلوقات الوهمية) لخورخي بورخيس ومرغريتا غيّريريو بحسب تقديم المترجم بسّام حجار لهذا الكتاب فضلاً عن دار النشر وهي المركز الثقافي العربي، الا أني وجدتُ في كتاب مانغويل ما يمدّ القارئ العربي بصورة واضحة عن بورخيس، هذا الكاتب الذي بدأ تعرّفنا عليه متأخراً كما أحسبُ منذ ثمانينيات القرن الماضي أي مع وفاته عام 1986، قبلها أوبعدها بقليل.
كتاب مانغويل هو رفقة حية على المستويين الشخصي الحضوري والقرائي المدوَّن بوعي من كاتب رافق بورخيس بالقراءة له، ومن ثم، بالمرافقة الشخصية والمتابعة القرائية منذ سنّ السادسة عشرة حتى عمر العشرين أي منذ عام 1964 حتى عام 1968، ولربما تأتي هذه المرافقة مجسِّدة للمعرفة التي خلّفها بورخيس بما يناسب قوله: (كل كاتب يخلف عملين: عمله المكتوب، وصورة ذاته)، هكذا ساهم مانغويل في تأكيد معنى العملين الخاصين ببورخيس.
لكن من المفيد أيضاً أن أتحدث عن دوريْ المعلّم والتلميذ اللذين سمحتْ بهما هذه الرفقة، وكان بورخيس ممتلكاً اتساع المعلّم وقدرته الأبوية على احتواء الآخر وتأسيس صلةٍ له أو معه من دون تسلّط عاجز أو تصنّع عيّي فهو لاعب جوهري في هذا الموضع كما إن مانغويل أثبت أنه من النجابة بمكان في الحفاظ على القيمة الحيوية للاتصال بآخر مبدع من نمط بورخيس، ويتأكّد ذلك بكل ما صدر له لاحقاً.
ومما يجدر الايماءاليه هذا التقليد الشعبي العريق الذي دفع بعمّة هذا الشاب الى حثّه على تدوين يومياته مع بورخيس وإن كان مانغويل ينفي، بسبب من سكرة غرور المراهقة كما يقول، أنه دوّن هذه اليوميات، الأمر الذي أستغربُه بحكم ما يرد من تفصيل أساسي في بعض الأمور والأحداث والعادات التي تجمع الكاتب ببورخيس، فليس معقولاً أن ذلك كله مما تحمله الذاكرة عن بعد من دون رفد من تدوين يوميّ أو مذكرات.
ويجد القارئ بورخيس معلّماً لكن لا على غرار النمط التقليدي للمعلم أو لعمله إذ يرد دائماً ما هو ضد الرؤى المنمّطة والأفكار المتشابهة التي يدفع اليها التدريس ومؤسساته، بل انه يعلّم خرقاً لهذا النمط ونأخذ مثالاً على هذا الخرق ضيق بورخيس بنظريات الأدب وطرائق تقسيمه الى أنواع، بل إنه ضد ما تقوم به الجامعة أيضاً إذ هي لا تدرّس الأدب بقدر ما تدرّس تأريخ الأدب. من هنا أمكن لبورخيس أن يُغيّر مفهوم الأدب ولعل قوله (كل كاتب يبتكر أسلافه المؤثرين في أدبه) يفسّر ما قاله بول فاليري من أن الأدب، كل الأدب، هو ابتكارات روح واحدة هي الروح القدس، ويعطي فاعلية جذرية لموقع القارئ فبورخيس إنما يبتكر أسلافه بقراءته الخاصة لهم، فشكسبير ليس إلا بورخيس القارئ لشكسبير، وها هنا يتجوهر فعل القراءة، ها هنا نفهم كيف يعطي الأولوية بورخيس للقراءة: (يقرأ المرء ما يهوى، لكنه لا يكتب ما يهوى، بل ما تسعفه به الكتابة).. القراءة فعلٌ حرّ وواعٍ ومتمكن أكثر مما تفعله الكتابة، لكن القراءة ليست مجرد اطلاع ومرور عابر أو استظهار، وإنما هي إعطاء حياة ووجود جديد يأخذ معنى الابتكار، ابتكار الكتب الماضية والأدباء الأسلاف.
ما أعجبني في سيرة مانغويل لبورخيس وهو يقول إنها ليست ذكريات، إنها ذكريات لذكريات لذكريات، أنه وأعني مانغويل لم يرضخ لقدسية النموذج بل لم يتعامل بقدسية مع بورخيس وكان متحرّراً من الخضوع لسلطة النموذج فذكر مآخذ هنا وهناك كما يمكن لكل أنموذج إنساني أن يفرزه فيقول مثلاً: ((على الرغم من النزعة الانسانية المتأصلة في شخصيته، كان يشهد في حياته لحظاتٍ تغلب فيها على تفكيره الأحكام المسبقة ما يجعله على قدر مخيف ومذهل من السخف. فقد كان يُبدي، على سبيل المثال، مواقف عنصرية تافهة لا معنى لها في بعض المناسبات، من شأنها أن تحوّل فجأة القارئ الألمعي الشغوف الى أبله يستدلّ على دونية الانسان الأسود بغياب الثقافة الأفريقية على المستوى العالمي))، ولا يفسر ذلك الا بالمزاجية، فهو بالمقابل لا يستميت في النيل من النموذج كما يقدّسه.
((ما يبقى بعد أن يكون الجوهري قد نطق بجوهره..)) يعطي بورخيس لهذا القول المقتبس من بول فيرلين اختصاصاً بالأدب، فالأدب هو ما يبقى عند بورخيس كما يترك كل موت أثراً من حكمة ضئيلة تغيب معه.
إذن يُعرّف بورخيس نفسه بأنه قارئ ويعرّفه كاتب سيرة رفقةٍ معه بأنه قارئ، ولكنه القارئ الذي يمتلك ابتكار قراءته، لذلك هو يحملُ في خضم ذلك حدسَه في التعرّف على الكتاب بغض النظر عن قوانين الفيزياء وإدراكات الحسّ، وهو القارئ الذي تمثلُ مكتبتُه سيرتَه فثمة مصادفة وقوانين فوضى فيما يقرأ تركز معنى أنه قارئ متعيّ لا قارئ بالواجب، كذلك إن الكتب برأيه ترمّمُ الماضي، كما إن كل قصيدةٍ تستحيلُ الى مرثية. لقد رفض بورخيس تسلّم نسخة مرقمة ومطبوعة ضمن علبة منقوشة ومغلفة بالذهب لكتابه وأهداها لساعي البريد الذي حملها اليه قائلاً: (هذا ليس كتابي، إنه علبة شوكولاتة!) هذا الموقف منه يماثل مواقفه إزاء ماريو فارغاس يوسا الذي ساءله: لمَ يعيش في بيئة متواضعة وأثاث بسيط؟ فأجابه بورخيس أننا في بوينس آيرس لا نهوى البذخ..
كان لمانغويل براعة القارئ الناقد الذوّاق للنصوص الى جانب الاهتمام بالصداقات الأدبية التي هي في الحقيقة معانٍ للعمل المشترك الدؤوب مبيّناً أثر صداقة بورخيس وأدولفو بيوي كارساس وسيلفيا أوكامبو، ولربما من المفيد أن ننظر باهتمام الى جديّة الصداقات الأدبية في بلدان أمريكا اللاتينية وغناها من أجل قيم الحياة والانسانية وتعزيزها ودعم التعاون العلمي والأدبي عامةً الأمر الذي قد تفتقر اليه ثقافاتٌ أخرى في بلدان العالم غير المتحضر.
يؤشر مانغويل سمات بورخيس الأساسية ومنها بالتأكيد تجديده اللغة الاسبانية بما نقله من محاسن اللغات الأخرى كالانكليزية والألمانية وتجاربه المغامرة في الترجمة وفي تحقيق أسلوب متقشف ذا بساطة خادعة وتأمله العميق في الصنعة، ولموضوعات استعادها طوال عقود بالتقطير والتأويل وإعادة التأويل. كذلك يؤكد الدور الأساسي لبورخيس: دور القارئ لا الكاتب، حتى أن القراءة لديه تمثّل شكلاً من أشكال الحلول. فالأدب لا يخص كاتباً محدداً بل يمكن أن يخص كاتباً مفترضاً ومتخيّلاً كالذي عدّه بورخيس مؤلفاً لدون كيشوت: بيار مينار.
إن هذا النوع من التأليف طامح الى زعزعة سياقات التأليف المحتومة والنَسَب الأدبي الأصيل وأسانيد الرواية وأدلة دعمها. ولربما هذا جزء مما يشير الى المكتبة اللا متناهية وكتاب الرمل وكل التخيّلات التي تؤسسها المكتبة البورخيسية في القارئ وفي كل امكانات القراءة، التي هي بالمناسبة الشغل الشاغل للمنظرين الأدبيين وللنقاد المحدثين الذين يضيق بهم كلاً بورخيس، كما يعرّفنا بذلك مانغويل.
مرتبط