أواصل في هذا القسم – وأقسام أخرى ستأتي تباعاً – نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
المترجمة
_____
كامبردج – تتمّة
لمّا كنت غير عالمٍ بما سيحصل لي و بسرعة تفاقم سوء مرضي فقد أتاح لي هذا الأمر شيئاً من الاسترخاء المحبّب ، حتى أن الأطباء أنفسهم أخبروني بأن لاضير عليّ من العودة إلى كامبردج ومواصلة بحوثي في ميدان الكوسمولوجيا والنسبية العامة ، غير أنني لم أكن أحرز الكثير من التقدم في عملي لافتقاري إلى الخلفية الرياضياتية المناسبة . وممّا فاقم الأمر وأبعدني عن التركيز المناسب في العمل هو إدراكي بأنّ العمر لن يطول بي حتى أحصل على شهادة الدكتوراه كنت حينها أشعر أنني شخصية مأساوية بقدرٍ ما .
اعتدتُ آنذاك على الاستماع مطوّلاً لفاغنر ، ولكن التقارير الصحفية التي ادّعت أنني كنت أفرط في الشراب ماهي إلا من قبيل المبالغات الصحفية المعهودة : تنشر صحيفةٌ ما خبراً عن إدماني الشراب ، ثم سرعان ماتنشر صحيفة أخرى ذلك الخبر بعد أن أثبت أنه قصة خبرية تنفع لعمل الصحافة ، ثم يشيع ذلك الخبر في كل الصحف بنهاية الأمر ويستحيل حقيقة لاجدال فيها لأن الناس تميل لاعتبار الأخبار المتواترة في أغلب الصحف حقائق لايطالها الشك بالضرورة .
كانت أحلامي في ذلك الوقت مشوشة بعض الشيء : قبل تشخيص حالتي كنت ضجِراً من الحياة وبَرِماً بها ولم أكن أرى ثمة مايستوجب عناء الكدّ والتعب فيها ، ولكن بعد وقت قصير من مغادرتي المستشفى حلمت بأنني شخص ينتظر تنفيذ حكم الإعدام فيه !! وفجأة أدركتُ أن هناك الكثير ممّا يمكن لي إنجازه لو تمّ تأجيل تنفيذ الإعدام فيّ ، كما حلمت لأكثر من مرة بأنني سأقدِمُ على التضحية بنفسي من أجل إنقاذ آخرين ، ولكن في كل الأحوال علمت أنني لو قُدّر لي الموت في نهاية الأمر فلأمت ولكن بعد أن أنجز امراً محموداً وطيب الأثر .
لكنني لم أمت ، بل في حقيقة الأمر – ولعجبي – وجدتُني أستمتع بالحياة ومباهجها على الرغم من أن غمامة الموت كانت تظلّل مستقبلي . إن الأمر الذي صنع كل هذه المفارقة المدهشة هو اتخاذي لفتاة تدعى ( جين وايلد ) خطيبة لي ، وكنت قد التقيتها في ذات الوقت الذي تمّ فيه تشخيص حالتي بأنها ALS ( التصلّب الجانبي الضموري* Amyotrophic Lateral Sclerosis ، المترجمة ) وهو الأمر الذي منحني شيئاً أعيش لأجله في الحياة .
لو كنا أنا وخطيبتي نروم الزواج إذن لتوجب عليّ إيجاد عمل لي ، وحتى يمكنني إيجاد عمل توجّب عليّ الحصول على شهادة الدكتوراه ، وهنا بات لزاماً عليّ البدء بالعمل للمرة الأولى في حياتي ، وقد وجدت العمل مبهجاً وهو ما أثار الدهشة فيّ مع أن من غير المناسب وصفه بالعمل ( يشير الكاتب إلى عمله على إنجاز شهادة الدكتوراه والفرق بينه وبين الأعمال الأخرى ، المترجمة ) ، ويحضرني في هذا المقام قول ذكره أحدهم مرة يفيد بأن العلماء والعاهرات هم وحدهم من يحصلون على أجور نظير أعمال يحبون أداءها بكل شغف ومتعة . ولكي أقيم أودي بنفسي خلال عملي على الدكتوراه فقد سجّلت على زمالة بحثية لدى كلية غونفيل وكايوس وهي إحدى كليات جامعة كامبردج ، وجعلت إعاقتي المتفاقمة أمر كتابة أو طباعة طلب التقديم على الزمالة البحثية مسألة متعذرة عليّ ؛ لذا أملت في أن تمدّ لي جين يد المساعدة وتطبع لي الطلب ، غير أن جين زارتني في كامبردج وهي مكسورة الذراع مما اضطرها لعمل ضمادة جبسية لها ، وهنا ينبغي عليّ الاعتراف بأنني أبديت نحوها تعاطفاً أقل مما كان ينبغي ربما لأن ذراعها اليسرى هي التي كُسِرت !! لذا كان بمستطاعها كتابة الطلب لي باستخدام يدها اليمنى بالصيغة التي أمليتها عليها ، ثم وجدت من يتكفل بأمر طباعة الطلب لي على الآلة الطابعة .
توجّب عليّ في طلب التقديم ذكر اسمين لشخصين اكاديميين معروفين في ميدانهما وممّن يمكنهما الإشارة إلى عملي السابق وإضفاء التقييم المناسب له مرفقاً مع التوصيات الملائمة ، واقترح الأستاذ المشرف عليّ أن يكون هيرمان بوندي واحداً من هذين الشخصين . كان هيرمان بوندي حينذاك أستاذاً للرياضيات في كلية الملك – لندن كما كان خبيراً بنظرية النسبية العامة ، وكنت التقيته بضع مرات كما أنه قدّم ورقة بحثية لي لغرض النشر في محاضر الجمعية الملكية ، كما أذكر أنني سألته مرة عقب انتهائه من إحدى محاضراته في كامبردج إن كان بوسعه كتابة توصية طيبة بشأني ، فما كان منه إلا أن يرمقني بنظرة غامضة وأجابني بأنه سيفعل ، ولكن من الواضح أنه نسي أمري تماماً ؛ إذ عندما كتبت له كليتي بشأن مايراه من توصية مناسبة لي أجاب بأنه لم يسمع باسمي من قبل!! . في أيامنا هذه يسجل الكثير من المرشحين لزمالات بحثية ، وهم بالتأكيد أكثر بكثير عما كانت عليه أعدادنا من قبل ، ولو حصل أن أجاب أحد المحكّمين المقصودين بإبداء التوصية بأنه لايعرف شيئاً عن المتقدم للزمالة لانتهت اللعبة ودفنت حظوظ المرشح للزمالة في مهدها ، ولكن أوقاتنا كانت أهدأ وأكثر كياسة من الأوقات الحاضرة ؛ إذ أعلمتني كليتي بالرد الخجول الذي أجاب به بوندي وهو مادفع أستاذي المشرف لتجشّم عناء الذهاب لمقابلة بوندي في مكتبه بقصد إنعاش ذاكرته وجعله يتذكر ( ستيفن هوكنغ ) ، والحق أن بوندي كتب توصية بشأني ضمّنها الكثير من الميزات التي حسبتها أكثر من ميزاتي التي أستحقها ، وهكذا حصلتُ على الزمالة البحثية وأصبحت زميلاً في كلية كايوس بجامعة كامبردج منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.
عنت الزمالة البحثية – من بين ماعنته – أن صار بمقدورنا أنا وجين إتمام زواجنا وهو ماحصل بالفعل في تموز عام 1965 ، وقضينا شهر العسل في منطقة سفّولك Suffolk وهو أقصى ماسمحت به إمكانياتي المالية آنذاك ، ثم التحقت أنا وزوجتي بعد شهر العسل بمدرسة صيفية مكرسة للنسبية العامة في جامعة كورنيل الأمريكية ، وهو مابدا لي خطأ فاحشاً ؛ إذ أضطررنا للمكوث في المبنى المخصص لإقامة الطلبة الأزواج مع أطفالهم الذين ملأوا المكان بصرخاتهم وضجيجهم ما أنعكس سلباً على زواجنا المبكر أنا وجين ، وباستثناء هذه المثلبة فقد كانت المدرسة الصيفية ذات فائدة عظمى لي بعد أن أتاحت لي الالتقاء بالكثير من الشخصيات القائدة والمؤثرة في حقل دراسات النسبية العامة .
عندما تزوّجنا كانت جين لاتزال طالبة دراسات أولية بكلية ويستفيلد في لندن ؛ لذا كان عليها الذهاب يومياً من كامبردج إلى لندن طيلة أيام الأسبوع لغرض إتمام دراستها . أوهن المرض عضلاتي كثيراً وتسبّب في ضمورها المتزايد ؛ الأمر الذي ترتّب عليه أنني صرت أجد صعوبة متزايدة في المشي والحركة ، وعندما طلبت من أمين صندوق الجامعة توفير سكن مناسب لي في مجمعات السكن المركزي بحيث يمكنني الاعتماد أكثر على نفسي أجابني بأن السياسة المعتمدة في الجامعة توجب أن لاشأن لها بتوفير سكن لطلبة الزمالات البحثية ، وهنا لم نجد أنا وجين بُدّاً من وضع اسمينا على قائمة طلب استئجار واحدة من الشقق التي كانت لاتزال بطور التشييد في منطقة الأسواق القريبة من الجامعة – ذلك المكان الذي رأيناه مناسباً لسكننا ( بعد سنوات لاحقة اكتشفت أن تلك الشقق مملوكة للكلية التي كنت أواصل منحتي البحثية فيها ، غير أن المسؤولين تعمّدوا عدم إخباري بشأن هذه الحقيقة !! ) . عندما عدنا أنا وجين من أمريكا إلى كامبردج عقب ختام المدرسة الصيفية وجدنا أن الشقق لم تكن جاهزة للسكن بعدُ .
عرض علينا مسؤول المالية في الكلية – فيما رآه منحة عظيمة لاتعوّض – غرفة في نُزُلٍ معدّ لسكن الطلاب الخريجين الذين يواصلون دراساتهم العليا ، وقال لنا وهو يمنحنا عرضه العظيم : ” نحن في العادة نفرض رسوماً بمقدار اثني عشر شلناً وستة بنسات للشخص الواحد في مقابل كل ليلة مبيت في الغرفة ، وبما أن اثنين سيتشاطران الغرفة ذاتها فسيكون من الطبيعي فرض خمسة وعشرين شلناً كأجرة للمبيت في الغرفة !! ” . لم نستمر في إقامتنا بتلك الغرفة لأكثر من ثلاث ليالٍ ؛ إذ وجدنا بيتاً صغيراً للإيجار على مبعدة مئة ياردة عن قسمي في الجامعة ، وكان المنزل في الأصل عائداً لكلية أخرى وقد منحته لأحد زملائها الذي انتقل حديثاً للسكن في منزل يقع في الضواحي ممّا أتاح له تأجير ذلك المنزل من الباطن لنا خلال الشهور الثلاثة التي سيمضيها في منزل الضواحي . عثرنا خلال تلك الشهور الثلاثة على منزل فارغ في الشارع ذاته الذي استأجرنا فيه منزلنا الأول ، وقد حصل أن جاراً لنا – بعد ان علم بحكايتنا – استدعى مالكة المنزل الفارغ وأخبرها بكل شجاعة أن من العار بقاء منزلها فارغاً في وقت يبحث فيه شباب صغار عن سكن مناسب لهم ؛ فما كان من المالكة إلا أن تؤجر منزلها لنا . بعد ان أقمنا بضع سنوات في ذلك المنزل أردنا شراءه وإنجاز بعض الترميمات فيه ؛ لذا طلبت قرضاً من كليتي في مقابل وضع المنزل كرهن عقاري ، ولكن بعد أن أجرت الكلية مسوحاتها ودراستها للامر أخبرتني أن المنزل يعدّ مخاطرة غير مقبولة بخصوص منح قرض عقاري ، ولكن في نهاية الأمر تمكّنت من الحصول على قرض الرهن العقاري من جهة أخرى غير كليتي وتكفّل والديّ بامر منحي المال اللازم لتجديد المنزل وإجراء الترميمات المناسبة له .
كان الوضع السائد في كلية كايوس – حيث كنت أعمل على زمالتي البحثية – يذكّر بشيء ممّا كتب عنه سي. بي. سنو C. P. Snow في رواياته : كان ثمة تقسيم قبيح في المنح الدراسية منذ ماسمّي في حينه ثورة الفلاحين الأجراء** Peasants” Revolt حيث تجمّع عدد من الزملاء المستجدين وصوّتوا على استبعاد الزملاء القدامى من الزمالة وإخراجهم خارج مكاتب الإدارة ، وانتهى الأمر بوجود فريقين : الفريق الأول الذي يضمّ العميد والأمين المالي ، والفريق الثاني الأكثر تقدمية الذي كان ينادي بضرورة توفير موارد مالية أكثر من الميزانية الكبيرة للجامعة بغرض صرفها على الأمور الأكاديمية .
وُلِد طفلنا الأول روبرت بعد سنتين من زواجي أنا وجين ، وعقب ولادته بفترة قصيرة للغاية اصطحبناه معنا عندما سافرنا لحضور اجتماع علمي في سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية ، وقد أثبت فعلنا هذا أنه كان خطأ جسيماً ؛ إذ ماكان باستطاعتي العناية بأمر الطفل بعد تناقص قدراتي الجسدية وتعاظم وهني الذي بات يمثل إعاقة واضحة ، وهنا لم تجد جين مفراً من أن تتحمل كامل عبء العناية بالطفل لوحدها ممّا جعلها متعبة ومرهقة على نحو مستمر ، وتفاقم تعبها نتيجة السفرات العديدة التي تنقلنا خلالها بين عدة مدن أمريكية بعد ختام اجتماع سياتل . من الطريف أن أشير في هذا الموضع أن روبرت يعيش اليوم في مدينة سياتل برفقة زوجته كاترينا وأولاده جورج و روز .
مولودنا الثاني كانت طفلة أسميناها لوسي ، وُلِدت بعد نحو ثلاث سنوات من ولادة روبرت في مبنى قديم كان في الأصل إصلاحية للأحداث ثم حُوّر ليكون مستشفى ولادة ، وتوجّب علينا خلال فترة الحمل بالطفلة أن ننتقل للعيش في كوخ من القش يملكه بعض أصدقائنا ويقع على أطراف لندن وذلك بغية إنجاز أعمال توسعة منزلنا ، وعدنا إلى المنزل قبل بضعة أيام حسب من ولادة لوسي.
هوامش المترجمة
* التصلّب الجانبي الضموري : ضمور تدريجي في الخلايا العصبية الحركية من الجهاز العصبي المركزي يؤدي إلى وهن العضلات والشلل في نهاية المطاف .
** ثورة الفلاحين : انتفاضة حصلت عام 1381 بين طبقات الفلاحين والحرفيين في إنكلترا ، سار المتمردون فيها نحو لندن واحتلوها ونفذوا إعدامات بحق الوزراء من غير ذوي الحظوة الشعبية فيها . انتهى التمرّد بعد وفاة زعيمه وات تايلر وبعد ان اقتنع المتمردون بالتفرق بناء على نصيحة الملك ريتشارد الثاني .
____
*المدى
مرتبط