نحو حركة ثقافية موازية لحركة مقاطعة الكيان الصهيوني

*إبراهيم  نصر الله 

كل من له علاقة بوضع الثقافة العربية في العالم، يدرك أن هذه الثقافة تعاني، خارج حدودها بشكل خاص، من مأزق التحرك في دائرة ضيقة، سواء عبر ترجمات الكتب، أو ما بعد صدورها، كما تعاني الحقول الفنية الأخرى، مع استثناءات قليلة للغاية، قد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
بالطبع لا نتحدث هنا عن أعمال تُكتب وتُنتج بلغات الغرب، فكثير من هذه الإبداعات استطاعت أن تجد لها مكانا فسيحا لدى القراء والمشاهدين: أمين معلوف، أهداف سويف، سوزان أبو الهوى، الطاهر بن جلون، وقبلهم وبعدهم، الكبير إدوارد سعيد، وسواهم.. في وقت ظلت فيه الأعمال التي تُنتج بالعربية محاصرة إلى حد كبير، وهامشية في العالم، إذا ما قورنت بإبداعات كثير من شعوب العالم.
في مناسبتين متتاليتين، واحدة في عمان، وأخرى في الشارقة، تطرق الحديث إلى صورتنا المُبدعة وحضورها في العالم.
كان اللقاء الأول مع مجموعة أساتذة مختصين بالآداب الغربية، الإنكليزية بشكل خاص، وفي الحديث الذي جمعنا، كان هناك توجّه حقيقي لبدء العمل، من أجل الأدب العربي، والأدب الفلسطيني تحديدا، لتقديم هذا الأدب بالصورة التي يستحقها للقراء في العالم، عبر الدراسات، سواء في الصحف أو المجلات أو المؤتمرات؛ فقد لمس هؤلاء الأساتذة مدى فداحة التقصير في ذلك، رغم وجود أعمال إبداعية عربية، حسب رأيهم، توازي أفضل الأعمال المكتوبة في العالم، وتشكل إضافات حقيقية للأدب في كل مكان، في ظل عدم وجود مؤسسات تعمل على ذلك.
خطر في بالي ونحن نتحدث في هذا الأمر، مدى أهمية وجود حركة واسعة لاحتضان الإبداع وقراءته وتدريسه، والكتابة عنه، عالميا، حركة توازي تلك الحركة العظيمة التي تتمثل في المقاطعة العالمية للكيان الصهيوني، نواتها الأفراد، وبدا لي أن حركة المقاطعة ستتقوى وتصبح أكثر قدرة على التأثير، في ظل وجود هذا الجمال الرائع، الذي يقدمه الإبداع الفلسطيني والعربي، فالصورة المستقرة في عقول كثير من الناس حولنا، أننا بشر لم نستطع، بعد، أن نقدم جديدا وإضافة جمالية لروح هذا العالم! ولعل ظهور حركة كهذه، يقودها أساتذة الجامعات المنخرطون في معركة المقاطعة، أو من خارجها، من عرب وأجانب، ستكون في الحقيقة أهم مساهمة يمكن أن تقدم لفلسطين والعالم العربي في هذه المرحلة، ومستقبلا.
قد يبدو الحديث في هذا الأمر مربكا، بل ويحتضن فائضا لا يُحتمل من الأمل! لكن، من المهم أن يكتشف من يقف ضدنا، أو معنا في حركة المقاطعة، أنه لا يتعاطف فقط مع قضية عادلة، من المهم أن يلمس هذه القضية ويعيشها أيضا، ويعيشها من حوله، وأن لا يدافع فقط عن موقف سياسي، بل عن جمال ثقافة، تشكل ضرورة أساسية للقارئ في كل مكان، كما تشكل ثقافات الشعوب ضرورة لنا، ونبعا للجمال لا يتوقف، ننهل منه، ونعيد به صياغة أنفسنا وتكوين صورة عميقة للحياة الإنسانية في البلاد التي أنتجت هذا الإبداع.
نعرف أن هناك كتبا كثيرة أعادت صياغة الزمان والمكان في عقولنا حين قرأناها، وهناك كتب استطاعت أن تكون أفضل سفراء شعوبها للقلب البشري، حيث تمكن مؤلفوها من إعادة تشكيل الصورة القارّة عن تلك البلدان في أذهان الناس البعيدين عنها، فكولومبيا، التي كانت بلد المخدرات والاختطاف والجريمة، والعصابات، أصبحت بلدا آخر حين قرأنا ماركيز ومائة عام من العزلة وسواها، وأصبحت داغستان، تلك الجمهورية الصغيرة، أيام الإتحاد السوفييتي، أكبر وأعمق في نفوسنا من جمهوريات كبرى، حين قرأنا كتاب رسول حمزاتوف الرائع (داغستان بلدي).
لا تبدو معركتنا اليوم مع العدو الصهيوني معركة قصيرة الأمد، في ظل هذا الخراب الذي انتشر في عالمنا العربي، والعالم أيضا، وفي ظل موجة التصهين التي تكتسح النظام الرسمي العربي؛ ومع إدراكنا المؤلم لهكذا واقع، ولمستقبل يحتاج للكثير من الجهد حتى يكون على صورة أحلامنا، تبدو حركة المقاطعة للكيان الصهيوني، بحاجة إلى ما يؤصلها في الوجدان العالمي، عبر حركة أخرى تسير معها جنبا إلى جنب، وهي حركة ثقافية يمكن أن ينخرط فيها بيسر مئات أساتذة الجامعات الفلسطينيين، العرب، والأجانب، والعاملون في كثير من مؤسسات الإعلام والبحث، وكذلك المهاجرون وأبناؤهم، وهي حركة إن تمت، فهي ضرورية ليس فقط في صراعنا مع عدو تتضاعف وحشيته وفاشيته، يوما بعد يوم، بل أيضا ضرورية لكي يحسّ كل من يعيش في الخارج، أمام نفسه، وأمام أبنائه، أن هناك إبداعا يستحق أن يكون جزءا أساسيا من تشكيل الروح، وتعزيز الهوية، وتعزيز خصوصية جماليات الثقافة التي نمتلكها، وقبل هذا وبعده، أن يعرف من يقف مع قضايانا، أنه لا يقف مع قضايا مجردة، يمكن أن تلخصها كلمات قليلة كالعدالة، الحق، مجابة العنصرية والاستعمار، بل ستغدو هذه القضايا أعمق، عبر هذا الإبداع، الذي لا يمكن أن يلعب دوره مقطع، لصالحنا، في نشرة أخبار هنا، أو خبر قصير في صحيفة أو مجلة.
لقد قيل الكثير حول الثقافة باعتبارها حصننا الأخير، لكن هذه المقولة الرائعة، باتت تُمتحن اليوم بمدى الجديّة التي نُضمرها، وذلك بالخروج بهذه الثقافة من الحصن، والذهاب بها بعيدا لتكون حصنا لكل من يقف مع فلسطين وقضايانا، وإلا فإننا سنكون في الحقيقة قد عزلناها، وساهمنا في مواصلة عزل أجمل ما فينا، وهو إبداعنا، كما لو أنه سلعة لا تصلح إلا للاستهلاك المحلي!
لقد تنبه الكيان الصهيوني منذ البداية، فرعى، مع مجموعات ضغطه، وأذرعه المنتشرة في كل أنحاء العالم، ما يكتبه أدباؤه وما يقدمه سينمائيوه وموسيقيوه، كما استطاع أن يستقطب بعض أهم السينمائيين والكتاب في العالم ليكونوا جزءا أساسا من تنظيف يديه الملطختين بدمائنا، وقد سبقنا في ذلك بأشواط كبيرة جدا، ولا شك أن ما يتم احتضانه وترويجه من أعمال كتابية ودرامية وفنية من قبله، ساهمت إلى حد بعيد في مزيد من الحماية له وهو يقتل ويهدم ويقتلع ويستولي ويمارس عنصريته.
هل تأخرنا؟ هذا أمر مؤكد. لكن هل يمكن أن نبدأ، أو أن نطوِّر بعض البذور التي زرعها أفراد هنا، أو هناك، أو بعض المؤسسات، داخل العالم العربي وخارجه؟
إن تبلور حركة ثقافية كهذه، ضرورة مُلحّة لكي نشقَّ مجرى أصيلا نحو الوعي الإنساني والضمير الإنساني، عن بشر جميلين، وقضايا بحاجة لأن تتجسد إبداعا وإنسانية.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *