أواصل في هذا القسم – وأقسام أخرى ستأتي تباعاً – نشر أجزاء من الفصول الأولية للسيرة الذاتية الموجزة التي كتبها الفيزيائي النظري وعالم الكونيات الأشهر ( ستيفن هوكنغ ) ونشرتها دار نشر بانتام Bantam عام 2013 بعنوان ( موجز تأريخ حياتي My Brief History) .
المترجمة
سانت ألبانز – تتمّة
عدنا إلى منزلنا في سانت ألبانز مع بداية مهرجان بريطانيا الذي كان من بنات أفكار الحكومة العمالية الحاكمة آنذاك في محاولة منها لإعادة خلق النجاح الباهر الذي أحرزه المعرض الشامل الذي أقيم عام 1851 بجهود تنظيمية رائعة بذلها الأمير ألبرت ، ويعدّ المعرض العالمي الأول بالمعنى الحديث لفكرة المعارض العالمية . أريد لمهرجان بريطانيا أن يوفّر للبريطانيين بلسم راحة من التقشف والتقتير اللذين سادا في بريطانيا أيام الحرب وامتدّا لبضع سنوات بعد الحرب كذلك . فتح المعرض – الذي أقيم على الضفة الجنوبية لنهر التيمس – عينيّ على أشكال جديدة من العمارة وعلى أنماط جديدة في العلم والتقنية ، ولكن للأسف لم يطُل عمر المعرض كثيراً بعد أن فاز المحافظون بانتخابات الخريف في العام نفسه ولم يتأخروا كثيراً في إلغاء ذلك المعرض .
عندما بلغت العاشرة صار لزاماً عليّ خوض تجربتي الأولى مع امتحان السنة الحادية عشرة ومابعدها eleven-plus exam الذي قُصِد منه أن يكون اختبار ذكاء دالّاً على نوعية الطلبة المؤهلين لإتمام دراستهم الاكاديمية وفرزهم عن الجموع الكثيرة من الطلبة الذين سيرسلون لإتمام دراستهم في مدارس ثانوية غير أكاديمية ( أي مدارس تختص بالتعليم اليدوي والتقني ، المترجمة ) ، وقد سمح امتحان السنة الحادية عشرة لبعض أبناء الطبقة العاملة والطبقة الدنيا – المتوسطة كذلك من بلوغ الجامعات الراقية وشغل بعض المناصب العليا المميزة ، ولكن مع هذا كانت ثمة صرخات احتجاجية معترضة على هذا الإمتحان الحاسم الذي يحدّد مستقبل الطالب مرة واحدة وإلى الأبد وهو لما يزل بعمر الحادية عشرة بعد ، وتفاقمت هذه الصرخات بخاصة بعد أن وجد بعض الآباء المنتمين إلى الطبقة الوسطى أبناءهم يدرسون جنباً إلى جنب مع طلبة من عوائل تنتمي للطبقة العاملة ، وقد ألغي العمل بهذا النظام واستُبعد كلياً في السبعينات ( عام 1976 على وجه التحديد ، المترجمة ) وحلّ محله نظام التعليم الشامل .
كان نظام التعليم الإنكليزي في خمسينات القرن ( العشرين ) مصمماً على أساس تراتبية هرمية شديدة الصرامة ؛ إذ لم يكتفِ هذا النظام بتمييز المدارس الثانوية إلى مدارس أكاديمية وغير اكاديمية بل مضى ابعد من هذا بتقسيم المدارس الثانوية الاكاديمية ذاتها إلى أصناف ثلاثة : A , B , C ، وكان من الطبيعي أن يعمل النظام بطريقة ممتازة مع هؤلاء المقبولين في الدراسة من الصنف A ، وبطريقة فيها شيء من المقبولية من طرف المقبولين بالدراسة من الصنف B ، ولكن النظام كان سيئاً للغاية مع الطلبة المقبولين في الصنف C والذين غالباً ماكانوا يصبحون مخذولين ومُحبطين . بالنسبة لي فقد وُضِعتُ في الصنف A من مدرسة سانت ألبانز الثانوية على ضوء النتائج التي أحرزتها في امتحان السنة الحادية عشرة ومابعدها ، ولكن مع نهاية السنة الأولى من الدراسة فإن كل طالب جاء ترتيبه بعد المرتبة العشرين توجّب ان ينتقل إلى الدراسة من الصنف B ، وقد مثّل هذا الأمر صدمة قوية لهؤلاء الطلبة ولثقتهم بأنفسهم ولم يتعافَ قسم منهم من آثار تلك الصدمة أبداً ، وقد حصلت من جانبي في الفصلين الدراسيين الأوّلين من سنتي الأولى في سانت ألبانز على المرتبتين الرابعة والعشرين والثالثة والعشرين على الترتيب ، ولكن لحسن الحظ جاء ترتيبي بالمرتبة الثامنة عشرة في الفصل الدراسي الثالث من السنة ذاتها وهكذا أفلتُّ من الانتقال إلى الصنف الدراسي B في نهاية تلك السنة .
عندما بلغت الثالثة عشرة أرادني أبي ان أدرس في مدرسة وستمنستر – إحدى المدارس العامة الرئيسية في بريطانيا ( التي تدعى نظائرها في الولايات المتحدة بالمدارس الخاصة ) ، وكما أشرت سابقاً فقد كان ثمة آنذاك فصل حاد بين أنواع التعليم المتاحة في النظام البريطاني ، وظنّ أبي ان الامتيازات الاجتماعية التي ستتيحها لي الدراسة في مدرسة مثل وستمنستر ستكون بمثابة نعمة تباركني في حياتي المقبلة ، وأرى من جانبي أن أبي كان محقاً في ظنه ذاك ؛ إذ لطالما تملكته قناعة راسخة بأن افتقاده لميزة الوجاهة وعلو شأن أصوله التعليمية فضلاً عن العلاقات الاجتماعية المؤثرة قد ساهمت كلها في جعل من هو أقل كفاءة وقدرة منه في ميدانه المهني يتخطاه إلى مراتب أبعد شأناً منه بكثير وهو ماجعله ينوء بأثقال حمولة مؤذية على كتفيه أرهقته كثيراً وجعلته متحسساً ومتنبهاً في الوقت ذاته إلى إمكانية أن يتفوق عليك شخص ما أقلّ في قدراته منك متى ماكانت له خلفية اجتماعية وعلاقات واسعة مؤثرة ، وقد اعتاد دوماً على تحذيري من خطورة أشخاص من هذا النوع .
لما كانت الأحوال المادية لعائلتي غير ميسرة آنذاك فقد توجّب عليّ أن أفوز بمنحة دراسية من أجل الدراسة في مدرسة وستمنستر ، ولكن حصل أن مرضت مرضاً شديداً أيام الامتحان الخاص بالمنحة الدراسية ولم أحضره ، وهكذا بقيت في مدرسة سانت ألبانز الثانوية وحصلت على تعليم يوازي في جودته التعليم الذي كان مقدراً لي أن أحصل عليه في مدرسة وستمنستر ( بل قد يفوقه ربما ) ، ولم أجد أبداً أن الافتقاد إلى البركات والمزايا الاجتماعية السائدة يمكن أن يشكّل عائقاً أو مثلبة لي ، وكذلك وجدت ان الفيزياء تختلف بصورة جوهرية وأساسية للغاية عن الطب : في الفيزياء لايهمّ أبداً في أي المدارس تلقّيتَ تعليمك أو من هم أقاربك ، بل أن مايهمّ في المقام الأول هو ماتفعله .
لم أكن آنذاك أحوز سوى على مرتبة متوسطة في صفي الدراسي ( الحقّ أنه كان صفاً من ألمع الطلاب ) . كانت واجباتي المدرسية غير مرتّبة على الدوام ، أما خطي اليدوي فكان مبعث يأس شامل لدى أساتذتي ، ولكن رفقائي في الصف أطلقوا عليّ لقب ( آينشتاين ) وأفترض أنهم رأوا فيّ علامات على شيء ما بطريقة أفضل ممّا رآها الآخرون ( ومنهم أساتذتي ) ، ولكن أذكر أيضاً – وبعدما بلغت الثانية عشرة – أن صديقاً لي عقد رهاناً مع صديق آخر بأنني لن أكون شيئاً ذا بال على الإطلاق وبأنه سيقدّم إليه حقيبة كبيرة من الحلويات فيما لو تمكنت من كسر قناعته تلك ، ولست أدري اليوم هل تمّ الإيفاء بذلك الرهان وبأية طريقة !!
كان لديّ آنذاك ستة أو سبعة من الأصدقاء الخُلّص المقربين لي والذين مازلت أديم علاقات التواصل معهم حتى اليوم ، وقد اعتدنا على خوض غمار مناقشات وسجالات طويلة بشأن كل الأمور تقريباً : من النماذج المسيرة بواسطة الموجات الراديوية وحتى الدين ، ومن الباراسايكولوجي وحتى الفيزياء ، وكان أحد الموضوعات التي أفردنا لها نقاشاً طويلاً هو أصل الكون وهل هو في حاجة إلى إله يخلقه ويجعله يمضي في مساره ؟
كان أبي منشغلاً أغلب الوقت في إجراء بحوثه بشأن الطب الأمراض الاستوائية ، واعتاد ان يصطحبني معه إلى مختبر أبحاثه في مِل هِل ، وقد راقت لي هذه الصحبة كثيراً بعد ان أتاحت لي الفرصة للنظر عبر المناظير المكبرة ( المايكروسكوبات ) . اعتاد أبي أيضاً على اصطحابي إلى بيت الحشرات حيث احتفظ فيه بالبعوض الحامل للأمراض الاستوائية ، وكم أرعبتني هذه التجربة وبخاصة بعد أن عاينتُ دوماً بضع حشرات بعوض تطير من غير عوائق في المكان !! . كان أبي رجلاً نزيهاً في عمله ومكرّساً لجهوده الكاملة في بحوثه الطبية .
تملّكتني منذ صغري رغبة لاتُقاوم في معرفة كيفية عمل الأشياء ، وقد اعتدت على تفكيك هذه الأشياء لمعرفة كيفية عملها ولكني كنت على الدوام غير كفءٍ في إعادة تجميع أجزاء تلك الأشياء وإعادتها إلى سابق عهدها : لم تكن قدراتي العملية لترقى أبداً إلى مستوى تنقيباتي النظرية ، وقد شجّع أبي ولعي في العلم وأعلى من شأنه كثيراً بل أنه غالباً ماكان يقودني في إتمام واجباتي الرياضياتية إلى ان بلغت مرحلة باتت معها دروس الرياضيات أبعد من معرفته . إذا ماوضعنا في الحسبان خلفيتي المعرفية هذه إلى جانب مهنة أبي فسيمون من الطبيعي للغاية الافتراض بأنني عزمت على المضي في طريق البحث العلمي .
عندما بلغت السنتين الأخيرتين من دراستي الثانوية عزمتُ على التخصص في الرياضيات والفيزياء . كان ثمة مدرّس ملهم للرياضيات في المدرسة هو الأستاذ تاهتا ،وفي الوقت ذاته فقد شيدت المدرسة للتو غرفة جديدة للرياضيات ، ولكن أبي وقف بشدة ضد الفكرة بسبب اعتقاده الراسخ أن خريجي الرياضيات لاتُتاح لهم وظائف مناسبة سوى في حقل التعليم ، وكم أحبّ أبي أن يراني أختار سلك الطب في دراستي غير أنني لم أظهِر أية رغبة جدية في دراسة البيولوجيا ( علم الأحياء ) الذي حسبته دوماً وصفياً للغاية ولاينطوي على أهمية أساسية بما يكفي !! كما أن سمعة البيولوجيا في المدرسة كانت اقل من سواها ؛ فقد اعتاد الطلاب الأكثر ألمعية على دراسة الفيزياء والرياضيات فيما كان الطلاب الأقل مستوى منهم يختارون البيولوجيا في دراستهم .
علم أبي أنني لن أدرس البيولوجيا تحت أي ظرف من الظروف ؛ لذا وافق على دراستي للكيمياء وقليل من الرياضيات لأنه شعر أن هذه التوليفة الدراسية ستجعل خياراتي العلمية المستقبلية مفتوحة على كل الاحتمالات . أنا اليوم أستاذ في الرياضيات ، ولكني لم أتلقّ أي تعليم رسمي في الرياضيات بأكثر من المستوى الذي تلقيته في مدرسة سانت ألبانز عندما غادرتُها وأنا في السابعة عشرة ، وكان عليّ أن ألتقط بنفسي ما أراه مهماً في الرياضيات وأنا ماضٍ في مسيرتي العلمية ، كما توجّب عليّ لاحقاً الإشراف على طلبة الدراسات الأولية في كامبردج ؛ لذا كنت أحضّر دوماً مادتي الأسبوعية التي ينبغي عليّ مناقشتها معهم ؛ الأمر الذي يعني أنني كنت أتقدم عليهم بفارق أسبوع من التحضير ولاشيء أكثر من هذا !!! . أما بشأن الفيزياء فقد كانت على الدوام الدرس الباعث على الملل والضجر أكثر من سواها لأنها كانت واضحة للغاية وبسيطة للغاية أيضاً ، أما الكيمياء فكانت أكثر إمتاعاً لأن ثمة الكثير ممّا لايمكن توقع حدوثه قد يحدث فعلاً مثل الانفجارات ، ولكن الفيزياء والفلك هما وحدهما القادران على توفير الأمل بإمكانية الإجابة على التساؤل : من أين أتينا ؟ ولِم نحن هنا ؟ أردت دوماً سبر أغوار الكون وتخومه العميقة ، وقد أكون احرزتُ بعض النجاح في مسعاي ولكن لايزال ثمة الكثير ممّا أتوق لمعرفته.
_________
*المدى
مرتبط