ساعات القراءة

*أمير تاج السر

في إعلان ترويجي لكتاب صدر حديثا، كتب الموزع بجانب مواصفات الكتاب من حجمه، وعدد صفحاته، وفكرته الرئيسة، وسيرة مختصرة لكاتبه، أن قراءته تستغرق سبع ساعات، ما يوحي بأن هناك من قرأه بالفعل، وقرر أنه يقرأ في ذلك العدد من الساعات.

في الحقيقة أعجبني ذلك التقليد واعتبرته مبتكرا، وقد لا يكون كذلك، لكني أشاهده للمرة الأولى، وسواء أن هناك من قرأ الكتاب بالفعل ووضع متوسط ساعات القراءة تلك، أو أن الأمر تم اعتماده بناء على عدد الصفحات، واحتمال أن تكون الساعات السبع كافية للقراءة، إلا أن مجرد وضع القارئ في خيار كهذا وانتظار أن يرتب وقته بناء عليه، يعتبر أمرا إيجابيا، ولطالما كان القراء يخافون من إضاعة الوقت في كتب معينة، قد تعجبهم عناوينها، ولا يعرفون متى ينتهي وقت قراءتها، في زمن كثرت فيه الأعباء، وقد يضطر بعضهم لترك كتاب ما، لأنه لم ينته في الفترة التي ظن أنه سينتهي فيها، ويذهب لكتاب آخر، من ضمن خطة قراءته، وحين نقول له إن رواية «ثلج» لأورهان باموق مثلا، متوسط ساعات قراءتها مئة ساعة، سيفكر كثيرا في عدد الساعات تلك وقد يقرر أن يقرأ «ثلج» أورهان أو لا يقرأها، وحين نقول له إن «حجر الصبر»، تلك الرواية الصغيرة الجميلة للأفغاني عتيق رحيمي، التي تحدث فيها عن امرأة ترعى زوجها الجهادي الراقد في غيبوبة، تستغرق قراءتها في الغالب ثلاث أو أربع ساعات، لكان محفزا كبيرا كي يشرع في القراءة فورا، وأيضا لو مدحنا كتابا بجانب تحديد ساعات قراءته المتوقعة، لكان الترويج أفضل، ولو لم نمدح الكتاب وكان عدد ساعاته طويلا، لتركه القراء، بلا شك.. هكذا.
مسألة تحديد ساعات القراءة، تلك التي ذكرتها، غالبا تتبع القراءة الفردية، أي حين يكون القارئ متفرغا تماما لكتاب ما، لا يشاركه في التفرغ له شيء آخر من مشاغل الحياة، كالعمل الوظيفي، ومتطلبات الأسرة التي يعيش معها، أي أن هناك جدول قراءة منتظم، يشمل عددا من الساعات، هي للقراءة فقط، وأعرف أشخاصا يلتزمون بمثل هذه الجداول التي يضعونها، يحددون ساعات معينة في اليوم، لا يلهيهم فيها شيء، ويضعون أسماء كتب بعينها، ووقتا تقريبيا لإنهائها، وقد كنت في الماضي مثل هؤلاء، أضع جدولي وأحدد ما سأقرأه، لكن تشعب المشاغل، وازديادها لم يترك فرصة لجدول كي يتكون، ولساعات كي تحدد نفسها ساعات قراءة فقط، حتى ساعات الكتابة، التي أعتبرها غير قابلة للمساس بها، تأتي أيام ولا أستطيع أن أفيها حقها. لكن رغم ذلك لا بد من أوقات للقراءة حتى لو كانت قليلة.
كذلك يمكن حساب ساعات القراءة المجزأة، أي أن تكون ساعة أو ساعتين في اليوم أو حتى نصف ساعة، ويكون المجموع الكلي سبع أو عشر ساعات، جاءت في أيام عديدة، وأعتقد أن هذه الطريقة هي السائدة اليوم.
القراءة مثل الكتابة بكل تأكيد، ولكل منها طقوسها وأمزجتها، وطموحاتها أيضا، وكما يستعد الكاتب جيدا، ليجلس ويعمل، وينتج كتابا، يوجد في الجانب الآخر، قارئ متميز، يستعد هو الآخر لإنجاز دوره في العمل الإبداعي، وهي القراءة إن جاز التعبير، وكما يستخدم الكتاب قهوتهم، وسجائرهم ربما يستخدم القارئ قهوته وسجائره أيضا، وأشياء أخرى قد لا تخطر للكاتب نفسه.
القراءة الجماعية، ضرب جيد من ضروب المعرفة، أي أن يتجمع عدد من القراء المهتمين وينشئون ناديا أو مجموعة قراءة، لها قوانين تحدد عضويتها، ونشاطاتها الثرية، ومن يتابع لها أنشطة الكتابة والإصدارات الجديدة هنا وهناك، وشاهدت مظلات لتلك الجمعيات أو لنقل أركانا مميزة، في معارض الكتب المختلفة، حيث تستضيف الكتاب وتناقشهم هناك وتتيح لهم وقتا ودعما معنويا ليوقعوا على أعمالهم، وإن لم يكونوا متوفرين حيث تمارس الجمعية نشاطها، هناك الاتصالات التليفونية، والحوار عبر التقنيات الحديثة مثل «الإسكايب» و«الواتساب»، ولطالما كان الكاتب يحس بالغبطة وهو يستضاف عبر تلك التقنيات، كأنه كان هناك وسط ذلك الحشد المبدع من القراء.
مثل تلك القراءة الجماعية، غالبا لا تتبني وقتا معينا، تحسب به ساعات القراءة، هي تطرح كتابا وكاتبا لأعضائها وتمهلهم أوقاتهم ليكملوا، ثم يأتي النقاش في وجود الكاتب أو عدم وجوده، وأحيانا يفاجأ أحد الكتاب حين يعلم أن مجموعة بعيدة جدا عن مكانه ولغته التي يكتب بها، قد ناقشت له عملا وأرسلت له تقريرا عما دار في جلسة النقاش تلك، وحدث أن نوقش لي عمل في غاليسيا بإسبانيا ولم أكن أتوقع شيئا كهذا أبدا.
أنا أثق في مجموعات القراءة جدا، أثق أنها تنتقي أعمالها بارتياح، من نشاط تقصيها في معارض الكتب، وما تقرأه عن كتب معينة، ناقشت مواضيع مهمة للقارئ من حيث أنها مواضيع معرفة، أو مواضيع ساخنة، وتتناولها المناقشات دائما، وأثق أن الكتاب المحظوظ هو الذي تستلمه مجموعات القراءة، وتعمل عليه، وحتى لو كانت ثمة آراء سلبية لبعض أعضاء المجموعة، أعتبر ذلك أفضل ترويج للكتب
أخيرا، ينبغي لمن يريد أن يصبح قارئا مثاليا، أو قارئا معجونا بالمعرفة، وربما المتعة التي تمنحها القراءة، أن يصبر على الكتب جيدا، يصبر على صفحات قد تكون مملة، حين يورد الكاتب تفاصيل يراها ضرورية لعمله، ويراها القارئ مضيعة للوقت، يصبر على بعض الصياغات اللغوية غير المألوفة، والمصائر الصادمة لشخصيات رواية ما، مثلا، ولا يترك رواية «ثلج» لأورهان باموق لأن صفحاتها لا تنتهي بسرعة، فهي رواية حقيقية وطموحة، وفيها معان عظيمة، أيضا رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، فهي في رأيي طويلة، بطول نشيد من المتعة، وشيطنات الطفلة الخبيثة ليوسا، على سبيل المثال، كثيفة كغابة مليئة بالأساطير.

___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *