الرواية على طريقة إيتالو كالفينو

*سارة عابدين

“تبدأ القصة في محطّة سكة حديد، قاطرة تنفث بخاراً من محركها لتغطي فاتحة الفصل، وسحابة دخان تحجب جزءاً من الفقرة الأولى. في رائحة المحطّة نفحات عابرة من عبق مقهاها. شخص ما ينظر عبر الزجاج المغبش، يفتح الباب الزجاجي للحانة، كل شيء مضبّب في الداخل أيضاً، كما لو كان يرى بأعين قصيرة النظر، أو بعيون مهتاجة بغبار الفحم”.

المقطع من رواية إيتالو كالفينو (1923- 1985) المتفرّدة في بنيتها وسردها “لو أن مسافراً في ليلة شتاء”؛ نصوص مفتوحة على تأويلات متعددة، بلا حبكة أو بداية تبدو معها الرواية فناً بصرياً، الصفحات فيها ليست نوافذ موصدة، بل إن الرواية تعدُّ نمطاً تجريبياً ما بعد حداثي، ليس فقط عند صدورها لأول مرة عام 1979 ولكن حتى وقتنا الحالي.

ولد صاحب “مدن لا مرئية“، في 15 تشرين أول/ أكتوبر 1923 في سانتياغو لاس فيجاس إحدى ضواحي هافانا في كوبا، لأب يعمل مهندسا زراعياً وأم عالمة نباتات، وبعد وقت قصير من ولادته عاد الوالدان إلى إيطاليا، واستقرّت العائلة في مدينة ليغوريا.

لم يستكمل كالفينو دراسة الهندسة الزراعية، في “جامعة تورينو”، كما كان مقرّراً، فبعد الاحتلال الألماني لمدينته في شمال إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية ترك الجامعة وبدأ الشاب أولى تجاربه في الكتابة، حيث نشر أول أعماله القصصية التي كان محورها الحرب، ثم عاد لاحقاً ليلتحق بالجامعة لدراسة الأدب، وفي العام 1940، انضم صاحب “الفيسكونت المشطور” إلى الحزب الشيوعي في بلاده.

يمكن القول إن الحياة الأدبية لكالفينو بدأت بعد الحرب، عندما انتقل إلى مدينة سان ريمو، مدينة المثقفين المناهضة للفاشية. بين 1940 و1950، ظلّ يكتب أعمالاً أدبية واقعية؛ حيث نشر ثلاثية “أسلافنا”، التي يقول صاحبها ألاّ رابط يجمعها، غير أن كلّ رواية منها، تدور في تاريخ وحقبة مختلفة، لتعرّفنا على الجوانب الخفية في حياة الإنسان الأوروبي.

بعد انتقال الكاتب إلى باريس في الستينيات، تغيّر أدبه، لا سيما وقد جمعته صداقة مع رولان بارت، وكلود ليفي ستراوس، فبدأ في التحوّل إلى التجريب، والبُعد عن الهياكل التقليدية في السرد، وفي الأعمال التي كتبها بعد هذا التاريخ، تظهر، تجريبية كالفينو وتكسيره لأنماط السرد المتعارف عليها، كما تظهر سخريته من الأوساط الأكاديمية، مثلما في بعض أجزاء من روايته “لو أن مسافراً في ليلة شتاء”.

يُعرّف كالفينو نفسه كروائي يكتب النثر بطريقة الشعر، يعمل على بناء نص كبير، من تداخل مجموعة من النصوص القصيرة، حتى تصبح سلسلة، يبدو هذا بوضوح في كتابه “مدن لا مرئية”، الذي يراه كالفينو مجموعة مترابطة من قصائد النثر، بالرغم من تصنيفها كرواية.

بنى كالفينو “مدن لا مرئية” التي نشرت عام 1972، من سلسلة حوارات متخيّلة، بين الرحالة ماركو بولو وإمبراطور التتار قوبلان خان، وفيها يصف ماركو بولو بعض المدن، وبالرغم من استخدامه للشخصيات التاريخية، وتنقله بين مدن متعدّدة، إلا أن الرواية يصعب تصنيفها كأدب تاريخي، وتظلّ خارج التصنيفات المألوفة.

في مقدّمته لترجمة رواية “لو أن مسافراً في ليلة شتاء”، يعرض لنا المترجم حسام إبراهيم، رؤية كالفينو للإنسان المعاصر “ممزق ومنقسم وغير مكتمل”.. فإذا كان الكمال يخفي_ في ثناياه_ فشل أي شكل كامل أو تام، في عالم ناقص، فإن الشكل لا بدّ أن يكون ناقصاً، مشطوراً، مبتوراً، منقسماً، ومتشظياً أحياناً. فهل نقول إنه الشكل المناسب للتعبير عن واقع إنساني مستلب، فربما يسعى كالفينو، عبر إدراكه لهذا النقص الجوهري، في الوصول إلى صيغة جديدة للكمال.

_______
*العربي الجديد

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *