*الحاج أوحمنة دواق
تتراءى أهمّية حياة الفيلسوف وتتركز جدواها، بالنظر لما لها من دخل في تكوين شخصيته، وبناء جوانب تفكيره، وأسلوب تعاطيه مع مشكلات الحياة المعترضة له، ومدى تجاوبه معها بالعمل على تفهمها وتفكيكها انتهاء بحلّها ورفعها. ويزيد الأمر اتضاحاً إذا أخذنا في الاعتبار أنّ فكر أيّ فيلسوف ليس في أدقّ تقدير إلا ترجمة واعية مقصودة لما اعتراه أمام أنواع مشكلات الواقع، فعمل على التجاوب معها بتأملها وتقليب الفهم فيها، بقصد إيجاد أتمّ الحلول لها كمقام أوّل. وإلا فإنّه يتواصل معها باعتبار الآثار والمخلفات التربوية التي تركزت في لا وعيه العميق، وأضحت مفردات قوية في تشكيل نفسه العميقة، وكيف ينعكس ذلك في نمط تفكيره وصفحة شعوره، وتالياً يبرز الحال في صورة ممارسات وعلاقات تنمّ عن الأحوال المركزة في أعماق الوعي الظاهر من ناحية، وفي ثنايا اللاوعي الغائر من جهة أخرى.
والجدل بين ما يطفو على سطح الوعي وما يقبع في أغواره قائم، ولا تندفع قوة الإبداع عنده ولا الخلق المثمر إلا بتواصل حراك التفاعل بين المستويين، تارة بحضور فهم الحياة واستصحاب جوانبها وعناصرها أشكالاً للتفكير ومسارب توجيه، ومسالك قيادة، وضوابط تسديد وتصويب، وطوراً بحضورها الكامن المؤثر من غير توقف عند التفاصيل والحيثيات. فالفيلسوف أمام الحياة هو وعي أمام وضع، يستوجب أحدهما الآخر ويكمله، فلا نفضي إلى افتراض وضع خالٍ من الوعي، يمكن فلسفته وتحويله إلى رافد ينفع ويثمر، باعتبار نأيه عن ملكات الفهم التي ترفعه من المعطى الخام الخامل الجامد، إلى قوالب حياة فاعلة سيالة ناضجة أو متكاملة، كما لا يمكننا أن نبني وعياً متقداً بعيداً عن الأوضاع بمحفزاتها الكثيرة والمتنوعة، فليس يكفي أن نقول إنّ الفيلسوف تأثر بحياته، بل من اللازم منهجياً إثبات الدعوى وتقريرها، بإحالتها إلى نماذج من التجارب الفلسفية التي تزاوجت فيها التجربة مع الروح المتفاعلة معها والعقل المتعاطي، فهماً لمكوناتها ومبانيها. فالفيلسوف نبتة طبيعية سمقت في تربة حضارية، ترافدت مشكلات عديدة في غرسها وريّها والمحافظة عليها.
وقد لا يميل البعض إلى الاعتراف بأهمية الوصل بين المفكّر وبيئته، زعماً بأنّ الارتباط مستحيل، إذ لو ارتبط العالم والفيلسوف بما يحيطه من ظروف، ينتج طبيعياً متوافقاً مع الشكل العام السائد، غير أنّ تأمُلاً بسيطاً يظهر ميكانيكية هذا الفهم، وتغليبه لهيمنة الظروف على مُكنات العالم وشخصية الفيلسوف، فلو شئنا تدقيقاً لألمحنا إلى الحضور المحفز للأحداث وتسلسلها وتواليها في نفسية المبدعين والمفكرين، باعتبار التجاوب في الاتجاه الرافض لها. ومن هنا تبدأ عملية التأثير، وتتعمق مع مرور الوقت، تساوقاً والتربية المتلقاة، وأساليب التعليم التي تحفز وعيهم، تاركة آثاراً من المستحيل محوها تماماً، وهي الآثار ذاتها التي تستحيل مع الوقت إلى نظم تفكير وتصورات تعقل للعالم ومكوناته.
وتتعمق أهمية الأساليب الواردة على شخصية الفيلسوف وذاته، بإدراك المقولات والمنطوقات الأساسية في وعيه، استقاء من المحيط، و”… يمكننا فهم غالبية المنطوقات الإنسانية ومن ثمّة فهم الواقع المركب رمزياً، والذي يشكّل مجال اهتمام العلوم الإنسانية والاجتماعية، دون أن نفهم في وقت متزامن، ولو كان ضمنياً على الأقل، مزاعم الصلاحية الشاملة، وأن نصدر حكماً قيمياً حول الأسباب التي تؤدي إلى تأييد أو معارضة هذه المنطوقات بهذا المعنى، ترتبط دينامية مسيرة التعلم ارتباطاً مباشراً بالتفاهم التواصلي. عملية مثل هذه، لا بدّ أن تفضي إلى عملية التفاهم الخاص بالعالم المعيش وعقلنة العالم المعيش، على أمل ألّا توضع هذه الموارد ذاتها موضع مراجعة”[1].
فالتعلم وأساليبه والتربية وأسبابها، لها مكانة بارزة في تقوية شخصية الفيلسوف وإبرازها أمام ظروفها، وعياً متمكناً من تعقلها، بالتواصل بينهما، وإدراكاً لها، تعالياً عليها بعدم الخضوع لها، والفرق بين الفيلسوف وغيره يكمن هنا تماماً. إذ لو تواردت الأحداث نفسها إلى إنسان عادي لنمطته وتغلبت عليه، ولوضعت أمام ناظريه كلّ دواعي المنع من الغوص فيها، فلا يدرك منها سوى ما يقف أمام آلة التصوير رصداً. في حين لو مرّ نصفها أمام وعي متقدٍ حاضر شاهد، كما هو حال الفيلسوف لاستنبط منها إمكانات هائلة، ولاستخرج من ثناياها عناصر عديدة غير مسبوقة، إبداعاً للجديد، بتمديد القديم وليس بإلغائه أو رفضه بالضرورة.
إذن فالحضور والتجاوز سمتان غالبتان على الفيلسوف وخطّ عمله وأسلوب فكره، و”الفكر الحي هو الفكر الذي يحيا زمانه، يعيش حاجاته ويحاور مشكلاته، يجيب عن أسئلته، يملأ فراغاته، ويثبت أمام تحدياته ليأخذ بزمامه إلى نافذة غده …، بهذا يكتسب الحياة، وبهذا يتميز على نتاج كثير متراكم”[2] لا يستلبه، بل يمكنه من مادة معرفية تسمح له بتحقيق الانتقالات المتوالية، من مرحلة إلى أخرى، ومن فكرة إلى مثيلتها، وهكذا تتوالد التصورات من بعضها بعضاً، فينضج الوعي ويتكامل في حدود الظروف المتاحة.
وأغلب ما يقصد إليه المفكرون والفلاسفة، أثناء كتابة سيرهم الذاتية، هو النمو الروحي والفكري لشخصياتهم، ثمّ التطور المعرفي الذي يطرأ على رؤاهم إزاء مشكلات الفهم المختلفة، وأيضاً قياساً إلى العوامل المحيطة بهم، وليس من قبيل الشخصانية المتمحورة حول الأنا، ما يدفعهم إلى الكتابة عن أنفسهم. وإمّا هو الربط بين سيرهم ومسيرتهم العلمية والثقافية ما يجنح إلى فعل ذلك. ومثال ما سقناه العمل الذي محضه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur تحت عنوان: بعد طول تأمل، والذي جاء في مدخله قائلاً: “إنّ التركيز سيجري على ما طرأ على عملي الفلسفي من تطور، وإلا أنّه لا مجال للحديث عن حياتي الخاصة إلا عمّا كان موصولاً بفلسفتي وعاملاً على إيضاحها”[3]. أي المحطات التي تختص بالتأثير في فكره والدفع به إلى النضج، أمّا بعض الأحداث الجزئية النائية فقد لا تكون ذات أهمية، وهذا ما دفعنا في تحليل الشخصية التي محضنا لها كتابنا إلى التركيز على المحطات المركزية في تطورها، بعيداً عن بعض الأحداث التي قد لا تكون ذات دلالة ظاهرة.
وهنا يبرز لنا منهجياً الأهمية التي تحويها عملية العرض لحياة فيلسوفنا، من حقبة الوصل بين الأحداث والوقائع والتطورات، ومدى تأثيرها على المنحنى النفسي والفكري، وكيف انعكس ذلك كله على رؤيته الوجودية العامة، وعلى تفاصيلها وتفريعاتها، بلوغاً إلى المقترحات الإجرائية.
وميل التحليل -ممّا تقدّم- التنبيه إلى جدوى التواتر والتتابع في تشكيل عقليات المفكرين وذهنياتهم، إلماحاً إلى أهمية التعاطي مع الواقع، وعدم الذهول عن مكوناته، بما فيه من مشكلات عملية، خلاف ما يشاع عن سكن الفلاسفة الأبراج العاجية البعيدة عن هموم الناس وظروفهم. “وقد تنبه منذ ذلك العهد البعيد إلى أنّ الفكر ليس ترفاً يلهو به صاحبه ليزجي به ساعات الفراغ، وليلهي معه الناس بأن يقدّم لهم وسائل لتربية النفوس عن همومها، بل الفكر السوي القيم السليم هو أداة للعمل…”[4] تسمح للفكر وصاحبه معاً بالانخراط في متتالية الأحداث، مساهمة في حلها ورفعها، بعد تعقلها وإدراكها. ولا يوصل إلى الوضع المشار إليه سوى الترجمة لحياة الفيلسوف.
وغالب الاهتمام ينصب على إبراز المعالم الكبرى المؤثرة في حياة الشخصية التي تعمل عليها السيرة، سوقاً لوقائعها، أو تأليفاً لجوانب حياتها وتطوراتها، وأيضاً لأهمّ الأحداث المنبهات التي عملت على إيقاظها، وتوليد الوعي لديها، وتنمية نوع الرؤية المؤطرة لمشروعها، ولكن كما يقول الفيلسوف عبد الوهاب المسيري ( ت2008م): “… تصبح أحداث حياتي لا أهميته لها في حدّ ذاتها، وإنّما تكمن أهميتها في مدى ما تلقيه من ضوء على تطوري الفكري…”،[5] وأيضاً فيما تشير إليه من محطات كبرى، ومفاصل خطرة أدت إلى التحول بالأحداث من مفصل إلى آخر. وفضل العملية التأريخية للذات المفكرة توظيف أساليبها في تفكيك المشكلات واستصحاب خبرتها السابقة في التصدي لوقائع مماثلة أو مشابهة تحفل بها قطاعات إنسانية كثيرة، ثقافية كانت أو اجتماعية أو سياسية. ولا أدلّ على ما قدّر من لجوء كبار السياسيين والمفكرين والفلاسفة إلى تدوين مذكراتهم، ملمّحين إلى أهميتها بوصفها أرشيفاً ثرياً لتجارب سابقة، يمكن الاستفادة منها في مواجهة أحوال مثيلة. خاصّة إذا وضعنا في الحسبان أنّ كثيراً من حيثيات الأحداث قد تكرّر نفسها، وقد قيل: التاريخ يُعيد نفسه.
[1] كارل، أوتو آبل. التفكير مع هابرماز ضد هابرماز، ت عمر مهيبل، بيروت: الدار العربية للعلوم، ط1، 2005م، ص 34
[2] صائب، عبد الحميد. محمد باقر الصدر، تكامل المشروع الفكري والسياسي، بيروت، دار الهادي، ط01، م2002، ص 29
[3] بول، ريكور. بعد طول تأمل، ت فؤاد مليت، بيروت: الدار العربية للعلوم، ط 01، 2004م، ص 23
[4] زكي، نجيب محمود. حصاد السنين، القاهرة: دار الشروق، ط03، 2005م، ص ص 20-21
[5] عبد الوهاب، المسيري. رحلتي الفكرية، القاهرة: دار الشروق، ط 01، 2005م، ص 06
_________
*مؤمنون بلا حدود
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
في مواجهة الموتباولو كويلونجوت من كل تلك السنوات المجنونة وقررت في نهاية المطاف القيام بما أحتاج إليه…
رهانات الفلسفة*سعيد ناشيدعلى الأرجح لن يكون في وسعي اقتراح فكرة جديدة أو استجلاء معلومة غير معروفة،…