* ترجمة : إبراهيم وطفي
بعد أن عمل راينر شتاخ Reinar Stach عدة سنوات في كتابة أطروحة دكتوراه عن فرانز كافكا ونشرها عام 1987 في كتاب بعنوان: «أسطورة كافكا الإيروسية (277 صفحة من القطع الكبير)، تفرغ طوال ثمانية عشر عاماً (1996 – 2014) دون انقطاع، ودون أن يشعر بالملل دقيقة واحدة، لكتابة سيرة كافكا. بين عامي 2002 و2014 نشر نتائج عمله المضني في ثلاثة أجزاء بلغ حجمها 2037 صفحة من القطع الكبير. ثمن النسخة الواحدة من الأجزاء الثلاثة مئة يورو.
ظل شتاخ طوال عام كامل يقيم أمسيات أدبية في عشرات المدن الألمانية. دار نشر فيشر، صاحبة حقوق طباعة كتابه، تنظم له شؤون السفر والإقامة وأماكن الأمسيات على نفقتها. وذلك طبقاً للعقد الذي يُبرم في البداية بين الكاتب والناشر. ومكسب الناشر من الأمسيات لا بدّ أنه مكسب كبير، إذ إن ثمن بطاقة الدخول إلى الأمسية يصل غالباً إلى 20 يورو للشخص الواحد. وأحياناً يحضر مئة أو مئات الأشخاص يبتاع معظمهم نسخاً من الكتاب يوقّع عليها الكاتب.
هنا حديث مع واحد من أهمّ كتّاب سيرة كافكا:
س 1: في نوفمبر 1919 استأجر رجل يبلغ من العمر ستة وثلاثين عاماً غرفة في بنسيون يبعد خمسين كيلو متراً عن براغ شمالاً. طوال تسعة أيام كتب رسالة إلى والده البالغ سبعة وستين عاماً، والذي كان ما زال يقيم معه في المسكن نفسه. إنها الرسالة التي نشرت لاحقاً بعنوان «رسالة إلى الوالد»، وهي تصفية حساب لا تعرف الرحمة، لم يكتب ابن ولم يتلق والد مثلها في تاريخ الأدب. وبعد أن أكمل الكاتب كتابتها في براغ بلغت 103 صفحات بخط اليد. وقد انتهت من دون تحية: «فرانز».
شتاخ:كانت قيامة كافكا قد قامت، وكان لديه الحق في ذلك. كانت علاقته المتوترة طوال حياته مع والده باتت لا تطاق، بعد أن كان هذا قد أهانه وحقّره أكثر مما كان قد فعل في أية مرة أخرى. يمكننا أن نفهم أن كافكا أراد أخيراً أن يردّ الضربة.
س 2: كان الدافع المباشر للاختبار من هو الأقوى هو الحدث الفضائحي بسبب خطيبة كافكا يولي فوريتسك، التي كان والده يراها امرأة رخيصة مستهترة.
شتاخ: كان والدا كافكا يكلفان مكتب تحرّي لتقصّي أوضاع أي فتاة يريد كافكا الزواج منها. كان هذا أمراً مألوفاً في ذلك العصر وفي أوساط تلك الطبقة. ولم يكن من شأن والديّ كافكا أن يشعرا بإهانة لو علما أن أهل فتاة ما يتقصون أوضاع ابنهما. واجه هرمان كافكا ابنه بالنتائج التي استلمها من مكتب التحري حول يولي وأهلها. يبدو أن الخطيب قال لوالده: «لا يهمني. أعرف المرأة على نحو أفضل».
س 3: ملف التحري لم يصلنا.
شتاخ: لكن وصلتنا رسالة من كافكا إلى شقيقته أوتلا يذكر فيها «المعلومات المقرفة». كانت يولي مخطوبة سابقاً. ربما كان هذا كل شيء. كان في غاية السهولة أن تنتشر سمعة سيئة عن أي فتاة شوهدت في الشارع خلال نصف عام مع رجلين مختلفين.
س 4: اليوم تُعدّ «رسالة إلى الوالد» نصاً أساسياً للحداثة الأدبية. مع كل رونق للأسلوب الذي كتبت به، فهي ملوثة بالعداوة والكراهية.
شتاخ: كافكا لم يكن يكره والده على نحو كامل، لكن كانت بعض المشاعر قد تراكمت وتخزّنت. كان هرمان كافكا دعيّاً فشّاراً لا يفكر بمفاعيل كلماته. أما بالنسبة لفرانز كافكا مرهف الحساسية فقد كانت عزة النفس أمراً في غاية الأهمية. إذا ضنّ عليه أحدهم بالاحترام، كان في مقدوره أن يردّ بقساوة وبرودة. كان والده قد اجتاز خطاً أحمر لدى موضوع يولي، بأن خبط ابنه على رأسه قائلاً: «على الأرجح ارتدت بلوزة ما منتقاة، كما تعرف فتيات براغ أن يفعلن، وبناء على ذلك قررت طبعاً أن تتزوجها. بل وبأسرع ما يمكن، بعد أسبوع، غداً، اليوم. إنني لا أفهمك، أنت إنسان بالغ، وأنت في المدينة، وضاقت بك السبل حتى تتزوج على الفور أية واحدة. أليس هناك إمكانيات أخرى؟ إذا كنت تخشى ذلك، فإنني سأذهب بنفسي معك إلى هناك». وعندما وقعت هذه الكلمات التي تقطر ازدراء واحتقاراً، كانت والدة كافكا حاضرة. يجب استحضار هذا المشهد عندما يقرأ المرء «رسالة إلى الوالد».
س 5: كان والد كافكا قد نشأ في ظروف فقر مدقعة في قرية صغيرة، غير أنه ارتقى إلى تاجر جملة في براغ يعمل لديه نحو خمسة عشر عاملاً.
شتاخ: هذا بفضل زوجته. لكن الرفاه النسبي كان له ثمن باهظ. فالطفل فرانز كان وحيداً على الدوام لأن الوالدين كانا دائماً في المحل التجاري حتى ساعة متأخرة في المساء. كانت ترعاه خادمات متبدلات دائماً. بات يقرأ ويحلم كثيراً، وكان في مقدوره، مثله مثل كل الأطفال الموهوبين المتوحدين، أن ينشغل بنفسه. بيد أنه لم يتعلم كيف يجد أصدقاء ويبني ثقة. وقد رافقته هذه المشكلة طوال حياته.
س 6: كان فرانز طفلاً نحيلاً واهناً. لاحقاً شهد لوالده بالقوة الجسدية والسخرية من الآخرين وسوء الظن بهم والموهبة في الحديث والثقة بالنفس والنزق والسيادة والطغيان. هل كانت هذه الصفات منبع خوفه الأبدي من والده؟
شتاخ: على الأرجح لم يُضرب الطفل فرانز مرة واحدة. لكن والده كان على الدوام يعمد إلى إظهار تفوقه. «صحيح أنك قلّما ضربتني مرة ضرباً حقيقياً، لكن ما كان أكثر سوءاً بالنسبة لي هو صراخك، واحمرار وجهك، وفك حمالات السروال على عجل ووضعها جاهزة على مسند الكرسي». أمام هذه المشاهد كان الفتى يشعر بخوف لامتناه، بيد أنه لم يتمرد، بل انطوى على نفسه. لاحقاً بات يفكر أحياناً بأن الوالد قد يكون على صواب، فهو يتحمل المسؤولية عن كامل الأسرة، وصلابته كتاجر عادت على ابنه وبناته بفوائد كثيرة مثل التعليم وضرب من الرفاه. وعندما كان كافكا البالغ يقارن هذا مع إخفاقاته كان يشعر بضآلة شأن. كان عليه أن يقول لنفسه:»عندما يشيخ الوالد سيعرف ماذا أنجز، أما أنا؟».
س 7: عن آداب المائدة عند والده كتب كافكا: «إذ كنت في طفولتي ألتقي معك أكثر ما ألتقي على مائدة الطعام، فإن دروسك كانت في معظمها دروساً في آداب المائدة … تقول: العظام لا يجوز لأحد أن يقرقشها. أما أنت فنعم … كان علينا أن نحترس من عدم سقوط بقايا طعام على الأرض، لكن تحتك كانت معظم البقايا. على المائدة لا يجوز الانشغال بغير الطعام، لكن أنت كنت تنظف وتقطع أظافرك، تبري أقلام الرصاص وتنظف أذنيك بنكّاشة الأسنان …» من أين أتت هذه النظرة السادية الثاقبة؟
شتاخ: كافكا حوّل عجز الطفل إلى قوة. من الخوف نشأت قوة ملاحظة في منتهى الدقة. أصبح يجمّع توافه والده الصغيرة لكي يثبت وجوده ويثأر بعض الشيء.
س 8: إلى والد صديقته فيليس باور كتب كافكا: «أعيش في أسرتي غريباً أكثر من غريب. مع والدتي لم أتحدث في السنوات الأخيرة عشرين كلمة وسطياً في اليوم، ومع والدي لم أتبادل قط أكثر من كلمات التحية. مع شقيقاتي المتزوجات لا أتحدث مرة من دون أن أستاء منهن. ينقصني كل حس للمشاركة في الحياة مع الأسرة». لماذا كان كافكا ينطوي على نفسه في البيت؟
شتاخ: كان عاجزاً كلياً عن إجراء مسايرات عابرة. كان الحديث ينقطع عند عدم وجود موضوع حديث مشترك، أو عندما لا يفهمه الآخرون. وهكذا كان الحال غالباً ضمن الأسرة. الأحاديث المألوفة لم تكن تثير اهتمامه. كانت تدور دائماً حول المتجر أو أوضاع الأقارب. كان حريّ بكافكا أن يبدو لنفسه كذاباً لو شارك في تلك الأحاديث بكلمات جوفاء تُنتزع منه انتزاعاً. غير أن عدم الاهتمام هذا كان يثير ثائرة الأب. حتى عندما كان الأمر يدور حول هموم مالية كان فرانز يتمكن من الانسلال إلى غرفته وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ودية.
س 9: هل كان كافكا يتحدث مع والده عن علاقاته بالنساء؟
شتاخ: فقط عندما كان يضطر للحديث، إذ كان يريد أن يوفّر على نفسه سماع الملاحظات الفظة التي كان يتوقعها من والده، ومن والدته أيضاً. إنه لمن المذهل كيف كان هؤلاء الأشخاص يتحادثون دون تفاهم. كان كل منهم يملك تصوراً مغايراً عن «الأسرة». مثال: عندما وقف كافكا إلى جانب شقيقته الصغرى أوتلا في تحقيق رغبتها بأن تقوم بالعمل في الزراعة، وصفه والده، بحضور آخرين، بأنه «وغْد». هكذا حرفياً. وإذ أبدى أحد الأقارب استغرابه من هذه الشتيمة، طرده الوالد من البيت. من المثير أيضاً ملاحظة مدى حزم فرانز في دفاعه عن شقيقته، لقد دافع عنها أكثر مما دافع عن نفسه.
س 10: كيف كانت الأم تتصرف؟
شتاخ: كانت ودودة، غير أنها كانت تحاول التهوين من شأن الأمور أو السكوت عليها. وعندما كان الأمر يهدد بنشوء شجار، كانت تقول على الفور، لا يمكنكم ذلك، فالأب قلبه ضعيف. والأب أيضاً كان يلعب على هذه النغمة. فعندما كانت الحجج تعوزه، كان يطلب في الحال ضمادات باردة. ويتخلى عن دوره بطريركاً شديد البأس. والأم تطلب المراعاة والعطف.
س 11: شقيقا فرانز اللذان ولدا قبله توفيا طفلين صغيرين. ماذا كان يُغضب الوالد في سلوك ابنه الوحيد؟
شتاخ: أنه لم يكن يهتم بشؤون الأسرة ولم يكن يتحمّل مسؤولية. مثلاً في إدارة معمل أسبست كانت الأسرة تملكه. كان الوالد يرى انعدام مسؤولية في قول الابن إن لديه اهتمامات أخرى. كان فرانز حقوقياً يعمل لدى مؤسسة تأمين، غير أنه لم يستخدم معرفته في سبيل الأسرة، الأمر الذي بدا للوالد عملاً يكاد يكون عدائياً. مأخذ آخر هو أن «السيد الابن» لم يكن يخالط الناس الذين كان عليه مخالطتهم ويراعي قواعد السلوك المألوفة، بل كان يختار مخالطة أناس آخرين. فالفتى تجرأ مثلاً على إحضار ممثل مسرحي رثّ الثياب إلى المنزل، أو شوهد برفقة نادلة معروفة وهو يتنزه معها في الشارع.
س 12: لماذا لم تصل «رسالة إلى الوالد» إلى المرسلة إليه؟
شتاخ: من غير الواضح في ما إذا كان كافكا قد غيّر رأيه بنفسه أم إذا كانت الأم قد أقنعته بأن يدع الرسالة في الدرج. على الأرجح لاحظ أثناء الكتابة أن الرسالة تفيد في إيضاح الذات أكثر مما تفيد في شجار مع الوالد.
س 13: عندما كان كافكا يقدم لوالده نسخة من كتاب جديد له، كان يتلقى الجواب: «ضعه على المنضدة الصغيرة في غرفة النوم!».
شتاخ: لا ندري أبداً في ما إذا كان هرمان كافكا قد قرأ يوماً ما أي شيء نشره ابنه. حكاية المنضدة الصغيرة تحولت إلى موضوع تندّر بين كافكا وشقيقته أوتلا. عندما كان كتاب ما لا يعجب أحدهما، يقول للآخر: «ضعه على المنضدة الصغيرة!».
س 14: كتب كافكا كانت صغيرة الحجم، يستطيع الوالد قراءة كل منها خلال ساعات. كم كان تحصيل هذا الرجل الدراسي ضئيلاً؟
شتاخ: فهم إنجازات ابنه الأدبية كان فوق إمكاناته الثقافية. فهو لم يتعلم سوى أربع سنوات في المدرسة الابتدائية.
س 15: ماذا كان الوالد يعرف عن جهود ابنه في الكتابة؟
شتاخ: أقل من قليل. كان دائماً يغط في النوم عندما كان ابنه يمسك القلم. كانت الأسرة تتناول طعام العشاء في الساعة التاسعة مساء، وفي الساعة العاشرة كان كافكا يشرع في الكتابة. وفي الثانية أو الثانية والنصف صباحاً كان يأوي إلى الفراش. وفي السابعة يوقظ، كي يكون في المكتب في الثامنة. هكذا كان الحال أثناء مراحل الإبداع الكثيفة. لكن لم يكن خافياً على الأسرة أن كافكا كان يتوقف مدداً طويلة عن الكتابة، الأمر الذي برهن على صحة رأيها بأن الكتابة هي لدى الابن محض تزجية وقت.
س 16: هل كانت الأم تقرأ كتب ابنها؟
شتاخ: هذا أيضاً لا نعرفه. لكن كان يحدث أن يتلو فرانز على والديه بعض المقاطع من كتاباته. فمثلاً تلى عليهما ذات مرة قصة «الوقاد» بكاملها. بعد ذلك ذكر في يومياته أن الوالد لم يكن يستمع إلا كارهاً. أما عن رد فعل الأم، فإنه لم يذكر شيئاً.
س 17: كذلك قصة «الحكم» قام كافكا بتلاوتها في أمسية عامة، وهي قصة عن نزاع أب – ابن ينتهي نهاية مأساوية.
شتاخ: لو كان هرمان كافكا حضر تلك الأمسية، كان من المثير مراقبته ومعرفة انطباعاته وردود فعله على مجرى القصة ونهايتها: «أيها الوالدان العزيزان، لعمري قد أحببتكما دائماً».
س 18: عندما كتب كافكا «رسالة إلى الوالد» كان يسكن في منزل والديه في غرفة تتوسط غرفة نومهما وغرفة الجلوس. لماذا يظل رجل يحمل لقب دكتوراه ويعمل عملاً يدرّ عليه دخلاً غير قليل ساكناً عند بابا وماما؟
شتاخ: لأنه كان قبل مدة قصيرة ما زال مريضاً مرضاً شديداً. أثناء الحرب العالمية الأولى سكن في عدة غرف مستأجرة، لكنه في أواخر عام 1918 أصيب بالأنفلونزا الاسبانية، وكانت درجة حرارته تبلغ41وأشرف على الموت. في ذلك الوقت كان عدد ضحايا ذلك المرض في براغ نحو مئة شخص كل يوم. وما أنقذ كافكا هو تأمين والديه رعاية كافية له طوال عدة أسابيع. كان طبيب يزوره في البيت كل يوم. ومن السوق السوداء كان والداه يؤمّنان له أفضل تغذية. لا بدّ أن ذلك قد كلّفهما ثروة في أيام الجوع تلك. كانت النتيجة هي تفاقم شعور كافكا بالذنب، الأمر الذي أثار غضبه على والده وعلى نفسه في المقام الأول: مرة أخرى هذا الاضطرار لهذه التبعية البائسة! مع هذا كان كافكا يتأثر بالغ التأثر من رؤيته والده خائفاً عليه.
س 19: في سن الرابعة العشرين بدأ كافكا العمل لدى «مؤسسة التأمين على حوادث العمال». ألم يكن في مقدوره آنذاك أن يسكن في غرفة مستأجرة؟
شتاخ: كان ذلك حرياً أن يمثل إساءة. لم يكن من المألوف في ذلك العصر أن يخرج المرء من عند أهله إلا إذا تزوج أو انتقل من المدينة. هكذا أيضاً فعل أصدقاء كافكا. كان في مقدوره طبعاً أن يقول: «يؤسفني، لكنني في أمسّ الحاجة إلى الهدوء». لكن كان من شأن هذا أن يثير نزاعاً كبيراً، وكافكا لم يكن قوياً بما فيه الكفاية لإشعال مثل هذا النزاع.
س 20: لوكنت هرمان كافكا، ماذا كان من شأنك أن تجيب على «رسالة إلى الوالد»؟
شتاخ: كان في مقدور هرمان كافكا أن يقول: «فرانزي العزيز، عندما بلغتَ سن الرشد كان كل شيء مسموحاً لك، درستَ ما شيءت، سافرتَ حيث تشاء، لذا من غير المقنع أن تدعي أني أقيّد حريتك وقد بلغتَ السادسة والثلاثين. مثل هذا كان من شأن العقل السليم أن يجيب.
س 21: كان كافكا يعجب النساء لدرجة أنه كان عليه أحياناً أن يهرب منهن. دعا نادلة تناديه «فرانزي» بعد أن أمضى معها عدة أيام في الفراش.
شتاخ: أقام علاقات جنسية بوفرة، فقد كانت النساء يجدنه فاتناً جذاباً وخفيف الروح على نحو ذكي وكن يكتشفن موهبته.كان أبعد ما يكون عن أن يكون قعيد حجرته يخاف الأضواء وهارباً من الحياة. كان يسبح ويجدّف ويتعلم ركوب الخيل ويقوم بمشاوير مسافات بعيدة على الأقدام. كان الوحيد في أسرة كافكا الذي كان دائماً أسمر البشرة نتيجة تعرضه للشمس.
س 22: رغم ثلاث خطوبات ظل كافكا عازباً. حول ذلك كتب في «رسالة إلى الوالد»: «لكن كما نحن تظل أبواب الزواج موصدة أمامي لكون الزواج مجالك الخاص بك. وأحياناً أتصور خريطة العالم مفتوحة وأنت ممدد فوقها بالعرض. ومن ثم يبدو لي أنه بالنسبة لحياتي لا يدخل في الحسبان سوى المناطق التي لا تغطيها أو التي لا تقع في نطاقك».
شتاخ: أظن أن كافكا يحاول هنا أن يجد صوراً لعقبات فعلت فعلها في اللاوعي، لكن شعوره الواعي الأساسي كان: أنا لست إنساناً أسروياً، أحب الانفراد بنفسي كل الحب، ولا أستطيع استخدام موهبتي إلا إذا لم أضطر إلى التلاؤم مع أحد أعيش معه. نصوص كثيرة من سيرة كيركيغارد وغريلبرتسر برهنت على صحة قناعته.
س 23: لماذا نرى الجنس عند كافكا مشوباً دائماً بالخوف؟
شتاخ: هذا هراء. من كان لا يمارس الجنس مع زوجته كان يخاف من الحمل ومن الأمراض الجنسية.
س 24: ما هو تفسيرك لتخيلات كافكا الفظيعة لتدمير الذات؟
شتاخ: في نصوصه نعثر على مشاهد سادية ومازوخية وشاذة. كان ذا فروة ناعمة، وكانت التخيلات تتدفق عليه على الدوام من الداخل ومن الخارج، لذا كان مرغماً على تدوين هذه التخيلات حتى يتخلص منها. ومن هنا نشأ الأرق والصداع والحساسية الفائقة ضد الضجة.
س 25: حين توفي كافكا في حزيران 1924 بمرض السل، بعد أن كان قد عاش أربعين عاماً وأحد عشر شهراً، كان مجموع المنشور من إبداعه لا يزيد عن 350 صفحة مطبوعة. ما من كتاب من كتبه كان قد بيع منه سوى بضعة آلاف من النسخ. في موكب جنازته سار أقل من مئة شخص.
شتاخ: هذا صحيح، لكن كافكا لم يكن مجهولاً. كان ذوو الاطلاع على الأدب الحديث في براغ يعلمون أن في مدينتهم ثمة موهبة عالية تنتظر أن تحقق الاختراق. يمكننا أن نتصور أن كافكا أكمل رواية «المحاكمة» وأعدّها للطباعة، وتلى منها في أمسية عامة، لكان كل شيء قد أتى بشكل مغاير. كانت جميع الصحف كتبت عنها بإعجاب وتقدير، وكان ناشره كورت فولف دفع له مبلغاً سلفاً لقاء أعمال تالية، وربما دعاه للتفرغ إلى الكتابة.
س 26: قبل يوم واحد من وفاته كتب كافكا رسالة ودية إلى والديه يتذكر فيها أنه كان يتناول البيرة مع والده في مطعم المسبح. هل أراد أن يعقد سلاماً مع خصمه؟
شتاخ: شعوره الأخير إزاء والده كان شعوراً بحزن هادئ، لأن كل شيء في علاقتهما أخفق. أراد أن يقول: هكذا كما كنتَ وهكذا كما كنتُ لم يستطع أحدنا أن يفهم الآخر. كما أن هذه الرسالة الأخيرة تبيّن أن كافكا أراد أن يُبعد والده عن فراش المرض الذي يرقد فيه، إذ لم يعد يحتمل قرارات والده، أراد أخيراً أن يمسك الخيوط بيده بالاشتراك مع حبيبته الحنونة دورا ديامَنت. لم يعد يجد سلاماً إلا إذا تركه والداه بسلام.
س 27: أمضيتَ أكثر من عشرين عاماً من عمرك مع كافكا في رأسك. ما هي نتائج ذلك؟
شتاخ: طبعاً تتحرك عمليات تماهٍ. لا يستطيع المرء الحيلولة دون ذلك. أتصور أن هذا ما يحدث لكتّاب الروايات أيضاً. مثلاً عندما كنت أكتب فصل الوفاة، لم أكن أستطيع الخروج من البيت طوال أيام. لم يكن من الوارد أن أخرج لتناول طعام الغداء مع أحد ما وأتحدث معه عن شؤون الحياة اليومية. كنت أحاول أن أضع نفسي مكان إنسان يرقد في مصحة ويكافح في سبيل حياته تحت آلام جهنمية. وفعلاً أصبحت أشعر أنني فقدت إنساناً قريباً مني.
س 28: توفي كافكا بمرض سل الحنجرة.
شتاخ: قبل وفاته بنحو أربعة أسابيع نصحه الأطباء بأن لا يتكلم، وذلك رفقاً بحنجرته. لم يعد في مقدوره أن يرشف أقل جرعة من الماء إلا بعد أن يُعطى إبرة مخدرة.إلى جانب الأطباء كان اثنان يرعيانه في المصحة (بالقرب من فيينا) بكل اهتمام وتضحية ليلا نهاراً بين 19 أبريل و 3 يونيو 1924، هما صديقته دورا وصديق له شاب يدعى روبرت كلوبشتوك وهو طبيب مساعد. وقد اضطر كافكا إلى التفاهم مع راعييه ومع العاملين في المصحة عن طريق الكتابة على قصاصات. على إحداها كتب: «بعض الماء. هذه القطرات تدخل إلى الحلق مثل شظايا زجاج». وعلى أخرى كتب، لعدم قدرته على التحمل، متوجهاً إلى صديقه: «اقتلني، وإلا فأنت مجرم». كان يعلم أن دورا ستعيش بعده، تسافر إلى براغ وتخبر عن وفاته. كان ذلك طبعاً تخيلات تثير الرعب في نفسه.
س 29: ماذا كنت تحب أن تسأل كافكا؟
شتاخ: لا ريب أنه أمر ظريف مواجهة كافكا بنحو عشرين ألف كتاب كتبت عنه. وكنت أحب أن أعرف كيف كان يفكر فعلاً بصديقه ماكس برود. إن الفروق الفكرية واللغوية بين الاثنين واضحة وكبيرة. برود يكتب مثلما يكتب مراهق، لكن كافكا كان يحتاج له، وقد أحبه رغم الفروق الشاسعة بينهما. ثمة ظن أن كافكا لم يكتب في يومياته رأيه الحقيقي بصديقه. إذاً: «دكتور كافكا، كيف كان الحال حقاً في هذا الموضوع؟»
س 30: هل يرد كافكا في أحلامك؟
شتاخ: ما زال هذا ينقصني! الأمور التي تشغل المرء نهاراً لا تحتاج إلى معالجة في الليل. في الليل تعالج الأمور التي كبتها المرء في النهار.
س 31: هل تحتفل بعيد ميلاد كافكا؟
شتاخ: عندما أكون وحدي في ذلك اليوم أتجاوزه غالباً. عندما لا أكون وحدي أشرب نخب كافكا. أنا بطبيعتي بعيد عن الطقوس.
س 32: هل تملك أية قطعة تذكارية من كافكا؟
شتاخ: في حوزتي مغلف رسالة فارغ كتب عليه بخط يده الجميل للغاية اسمه وعنوانه واسم وعنوان خطيبته فيليس باور في برلين. على كل حال، إنه مخطوط.
س 33: من أين لك هذا المغلف؟
شتاخ: حصلت عليه هدية من ابن فيليس باور في نيويورك.
س 34: بكم تقدّر قيمته؟
شتاخ: بنحو عشرة آلاف يورو. رسالة كاملة يبلغ ثمنها بين مئة ألف ومئة وخمسين ألف يورو. أثمان مخطوطات كافكا تزداد باستمرار. إنه لجنون! «أرشيف الأدب الألماني» دفع في عام 1988 مبلغ 1,1 مليون جنية استرليني ثمن مخطوطة رواية «المحاكمة». اليوم يمكن بيعها بالمزاد العلني بعشرة أضعاف هذا المبلغ.
أو رسائل كافكا إلى فيليس باور. نحو خمسمائة رسالة. هذه الرسائل تغفو في خزينة ما يملكها شخص ما. ثمنها لن يقلّ كثيراً عن مئة مليون يورو.
س 35: البقعة البيضاء الأخيرة في الأبحاث عن كافكا هي التركة الأدبية لماكس برود، هذه التركة التي يجري التقاضي حولها حالياً أمام المحاكم في إسرائيل.
شتاخ: أخشى أن يصل الموضوع إلى المحكمة العليا ويستمر سنوات طويلة. تحتوي التركة الضخمة على نحو عشرين ألف رسالة. قسم منها يغفو في خزائن بنوك، وقسم آخر تحرسه في منزلها امرأة بلغت الثمانين. إنها إيفا هوفّه ابنه وريثة ماكس برود إستر هوفّه. منذ عقود لم تسمح هاتان الإمرأتان لأحد بالدخول إلى منزلهما، وطبعاً لم تسمحا لي أنا أيضاً. ويُخشى أن الأوراق ليست بخير حال. بعد أن نشرت الصحافة الإسرائيلية نبأ كاذباً بأن مخطوطات لكافكا موجودة في هذا المنزل، قام مجهولون بمحاولتين فاشلتين للسطو على المنزل. كل هذا أمر محزن.
س 36: ما هي الأمور في الحياة اليومية التي تذكّرك بكافكا؟
شتاخ: عندما أكون مثلاً جالساً في طائرة على أهب الاقلاع، غالباً ما أفكر في كيف كان من شأنه أن يعيش مثل هذه الحالة، هو الذي نظر آنذاك وهو في غاية الاندهاش إلى تلك الصناديق التي طارت على ارتفاع عشرين متراً عن الأرض، وأعجب بها كل الإعجاب. أو أتأمل في ما إذا كان حريّ به أن يحتمل الإنترنت. وطبعاً لا يمكن تجنّب النظر إلى علاقته بوالده بناء على تجاربي مع والدي. ثمة توازيات في مكان ما. وهذا هو ولا ريب الشرط اللازم للتفاعل مع موضوع ما. من دون تعاطف لا يتمكن أي شخص من كتابة سيرة شخص آخر.
س 37: كيف تخلصت من والدك؟
شتاخ: انفصلت عن أسرتي وأنا في سن السابعة عشرة. كان هذا الانفصال ضرورياً لي، إذ إن النزاعات ضايقتني لدرجة أنني لم أعد قادراً على التركيز على المدرسة. كان لا بدّ لي من أن أتحول إلى ماهية اجتماعية مستقلة، وفقط بعد ذلك كان يمكن لي أن أبدأ من جديد، لكن بندّيّة. كان على كافكا أيضاً أن يقوم بمثل هذه البداية الجديدة.
س 38: في سن السابعة عشرة كنت ما زلت تذهب إلى المدرسة. من أين كنت تعيش؟
شتاخ: من أية أعمال جانبية، لاسيما إعطاء دروس خصوصية. بركبتين مرتخيتين قلت لمدير المدرسة: «يؤسفني. إذا كان عليّ أن أحصل على الشهادة الثانوية، وهذا ما أريده بالضرورة، فأرجو أن تسمح لي بأن أغيب عن بعض الدروس، إذ يجب عليّ أن أكسب رزقي بنفسي. أولاً ثارت ثائرة المدير، إذ لم أكن قد بلغت سن الرشد، لكنه قبل الأمر بعد ذلك. وكان مطلبه الأهم هو عدم إشاعة الموضوع. وهكذا حصلت على الشهادة الثانوية بعلامات أفضل من علامات السنوات السابقة. الحرية أثارت طموحي بشكل هائل. يكون المرء متوتراً ويريد أن يُثبت شيئاً ما لنفسه وللآخرين.
س 39: كيف وقعت على كافكا؟
شتاخ: قرأته عندما كنت تلميذاً في الثانوية، قرأته خارج الدروس المدرسية. غير أن الضربة الحاسمة لم تأت إلا بعد أن بلغت السابعة والعشرين. في إحدى المسابقات كسبت جائزة قيمتها المادية مجموع مؤلفات كافكا. وكانت اليوميات بينها طبعاً. وكنت لا أعرفها حتى ذلك الحين. وجاءت قراءتها في وضع أزمة مضاعف. كنت قد انفصلت عن صديقة لي، وكان عليّ أن أقرر في ما إذا كنت أرغب في كتابة أطروحة الماجستير في فرع الرياضيات أم في فرع الأدب. هنا كنت في حال من عدم الاستقرار وعدم الأمان. كانت قراءة يوميات كافكا وأنا في هذا الوضع تجربة مذهلة. فقدت كل مسافة وصرت من عشاق كافكا المتحمسين. ما من أحد يستطيع أن يكرس نصف حياته لمثل هذا الشخص إذا لم يكن عاشقاً له.
س 40: في عام 1985 حصلت على شهادة الدكتوراه في أطروحة عن «أسطورة كافكا الإيروسية»، بعد ذلك عملت مراجعاً علمياً في دار نشر فيشر.
شتاخ: لمهنة المراجع يجب على المرء أن يكون مولوداً. لكنني لاحظت بالتدريج أنني طورت طموحاً للكتابة بنفسي. في عام 1995 قدمت مشروعي عن كافكا إلى الدار. تلوت فصلين للتجربة. الزملاء ذهلوا. الناشرة قالت: «تابع العمل هكذا!».
س 41: هل حدست الناشرة أن مشروعك لن يكتمل إلا بعد ثمانية عشر عاماً وسيتألف من ثلاثة أجزاء يبلغ مجموع صفحاتها 2037 صفحة؟
شتاخ: لا، طبعاً. أنا نفسي لم يكن لديّ فكرة عن الجهود المطلوبة ومدتها ونتيجتها. في الحقيقة لم أكن أعرف معرفة كافية كم كانت حياة كافكا معقدة، وكم سيكون عليّ أن أجمع من معلومات.
س 42: من دون استغلال الكتّاب لا يمكن لدار نشر أن تبقى على قيد الحياة. ألم تكن المبالغ التي كانت دار النشر تدفعها لك سلفاً زهيدة؟
شتاخ: كلا. دار النشر قدمت لي عرضاً كريماً. لكنني ألغيت كامل ارتباطاتي المهنية لصالح هذا المشروع. وهكذا لم يكن الوضع المالي هو المشكلة في البداية، بل الخوف من الفشل والخوف من المستقبل بعد الانتهاء من المشروع.
س 43: مم كنت تعيش بعد استنفاد المبالغ المدفوعة سلفاً؟
شتاخ: لدى الجزءين الأولين ساعدتني مؤسسة فيشر، ولدى الجزء الثالث ظهرت صعوبات، فكتبت رسالة مطولة إلى جان فيليب ريمتسما …
س 44: … وارث ثروة ضخمة وداعم ثقافي في غاية الأهمية.
شتاخ: كان الأمر خرافياً. جوابه الإيجابي أتى بعد بضعة أيام. عادة يستغرق الأمر نحو نصف عام حتى تتخذ المؤسسات قراراً. لولا معونته كان عليّ أن آخذ قرضاً شخصياً.
س 45: ألم يكن لديك مدخول جانبي؟
شتاخ: عندما يكون كافكا مادة الفحص في امتحانات الشهادة الثانوية في مقاطعة من المقاطعات كنت ألقي محاضرات عنه في مدارس ثانوية. الخوف من كافكا كبير حتى لدى المدرسين، لدرجة أنني كنت أستطيع أن أكسب بعض المال وأساعد بعض الناس.
س 46: هل ما زال يمكن حجزك؟
شتاخ: نعم. المقاطعة التالية هي نورد راين- فستفالن.
س 47: سيرة كافكا التي كتبتها تُعدّ نقطة انعطاف تُنشد لها الأناشيد. هل ستصبح الآن ثرياً؟
شتاخ: يا ريت! في هذا الربيع (2015) ستحصل دار النشر من مبيعات الكتاب على مجموع المبالغ التي دفعتها لي سلفاً. فقط بعد ذلك سيمكنني أن أكسب بعض المال من هذه الملحمة. وطبعاً دار النشر أيضاً. كتّاب وناشرون يروون أن هناك ما يزيد عن ثلاثين ألف قارئ في اللغة الألمانية على استعداد لابتياع وقراءة روايات ودراسات ذات مطالب عالية. إذاً لقد وصلنا إلى ثلثي هذا الاحتياطي الثقافي.
س 48: يقال إنه على المرء أن يتنحى في ذروة نجاحه. هذا يعني أنه لا يجوز لك بعد الآن أن تنشر سطراً واحداً. لكن المشكلة هي أنك في سن الثالثة والستين.
شتاخ: وأي كاتب تخلى عن الكتابة في ذروة نجاحه؟ لكن لن يوجد عندي مشروع جديد يحتاج إلى عشرين عاماً من العمل. من شأن هذا أن يكون انعدام مسؤولية.
س 49: هل هناك شخصية تثير اهتمامك؟
شتاخ: هل يجب أن يكون شخصية؟ يمكن أن يكون عصراً. طبيعة عصر كافكا مثلاً تثير اهتمامي أكثر كلما عرفت عنها أكثر. هنا بدأت ما نسميه الحداثة. بين عامي 1890 و1910 هجمت تقنيات جديدة على البشر في غزارة مذهلة: السيارة، السينما، أشعة رونتغن، الغراموفون … كل هذا هو في غاية الإثارة.
س 50: مرة أخرى عمل طوال عشرين عاماً؟
شتاخ: لا أخطط لكتابة مرجع ضخم. لكن كيف فرضت هذه التحديثات نفسها، وما هي المخاوف وردود الفعل التي أثارتها، وكيف استوعبها الناس بالتدريج وأدخلوها إلى حياتهم اليومية، وبأي ثمن؟
_______________________________