حادثة سعيدة حقا: أيام المطالعة الطفولية

*هيثم الزبيدي

الكتابة عن حادثة أثّرت فيك وأنت طفل ليست بالسهلة. أرى أن الانطباعات التي مر عليها الزمن إنما تكون استعادية أكثر من حقيقة كونها مفصلية ومؤثرة في وقتها. ربما من الأفضل الكلام عن سلسلة حوادث متعاقبة أو متزامنة.

تزامنت «حادثتان» مؤثرتان لا أزال أذكرهما تماما. الأولى إصرار معلمة الروضة على أن تدرسنا كتاب القراءة ونحن لا نزال بعمر خمسة أعوام، وبطريقة مكثفة وسريعة. والثانية حزمة مجلات من القصص المصورة أهداني إياها والدي. خلال أشهر قليلة حلت عقدة القراءة والمطالعة لطفل ما زال لم يبلغ السادسة من العمر.

حجَّة المعلمة كانت أن الكثير من الأطفال يسجلون مبكرا في المدارس الابتدائية كـ”مستمعين” أي دون السن القانونية لعمر الأول الابتدائي، ثم ينطلقون في التعليم أسوة بغيرهم. ما كان ثمة حاجة للانتظار سنة إضافية للوصول إلى الأول الابتدائي لكي نتعلم القراءة. كانت المعلمة ذكية لأنها ركزت على القراءة ولم ترهق أيدينا الصغيرة بتحدي الكتابة. تركت القلم لسنوات قادمة.

القصص المصورة، أو المجلات كما كنّا نسميها اختصارا، كانت حلاً سحرياً لمعضلة التعثر في فهم الكلمات الكثيرة في النص المكتوب من دون صور. «الكوميكس» كما عرفناها لاحقا باسمها العالمي، ترسم القصة أولا ثم تضع فقاعة أو أكثر قرب أفواه الشخصيات لتقدم الحوار. الصور كانت تصف المشهد فكنّا كمن يشاهد فيلما أجنبياً ممتعاً ولا تخرب علينا مشاهدته و”فهمه”، فقط لأننا كنا قد نفوت بعض الجمل المترجمة أسفل الشاشة. فجأة صرنا نقرأ. لا نقرأ فقط «دار داران دوري” من منهج كتاب «القراءة الخلدونية” وهو أول كتاب للمرحلة الابتدائية في العراق، بل نقرأ قصصا كاملة. يا لها من متعة. متعة ترافقني إلى اليوم وأحس بها في كل مرة يقع كتاب «كوميكس» بين يدي.

بدأ الأمر مع شخصيات مغامرة بقوى خارقة: سوبرمان، والوطواط، والرجل المطاط، والبرق. ثم تطور إلى الطرافة مع شخصية لولو وعالم ديزني. في الصف الثالث الابتدائي دخل مكتبتي الخاصة (قاع دولاب الملابس) مجلة تان تان التي ترجمت في مصر إلى جنب مجلة سمير التي كانت مصرية بشكل شبه كامل. كانت تصل إلى العراق على شكل مجلدات. اكتشفنا أيضا معهما تاريخاً من الكوميكس المصري مع مجلة سندباد وإلى جانبها أول محاولات العراقيين دخول عالم الكوميس في مجلة «مجلتي».

لكن النهم للمطالعة ما عادت تكفيه القصص المصورة، وبدأت كتب المغامرات والجريمة والروايات العالمية المبسطة تأخذ حيزاً يوميا: المغامرون الخمسة المصرية، والشياطين 13، وأرسين لوبين، وشكسبير للأطفال. هذه كتب نصية عليك أن ترسم قصصها في مخيلتك، وهو أمر يمكن أن تتقنه جيداً بعد الآلاف المؤلفة من التخطيطات التي اعتدت على مشاهدتها في مجلات الكوميكس.

في الصفين الرابع والخامس الابتدائي صار النص أكثر حضورا من الصورة في الكتب. سلسلة العظماء في العلم والأدب (أعتقد كانت 20 كتابا)، وسلسلة معجزة (بالنسبة إلى طفل) مترجمة عن سلسلة ليدي بيرد البريطانية تحوي كل ما يخطر على بالك عن المعارف. كان التتويج في الجرأة على تمضية العطلة الصيفية بين الصفين الخامس والسادس الابتدائي في مطالعة موسوعة كاملة اسمها الموسوعة الذهبية (مترجمة في مصر أيضا) والبدء بشراء مجلدات موسوعة أخرى (مترجمة في لبنان) من تجميع مجلات بدأت تصل واسمها «المعرفة». أقرب وصف للمتعة في مطالعة هذه الموسوعات هو كأنك قرأت كل ما يأتي لك به محرك غوغل اليوم خلال أشهر الصيف والإجازة.

أجمل ما في هذا العالم السحري من «حوادث» المطالعة هو عالم موازٍ من الصداقات تشكل بسببها. فميزانية الطفل، مهما كانت أسرته متمكنة ماديا، تبقى محدودة. والحل يكمن في سلسلة من الصداقات المباشرة أو غير المباشرة التي أساسها تبادل الكتب والمجلات والمجلدات. هذه كانت أول حلقة «مثقفين» تعرّفت عليها، وأطرف ما فيها أنها خارج التراتبية التقليدية التي تقوم على الأعمار، خصوصا في المدرسة الابتدائية، لتكون بين أعمار مختلفة تتراوح بين 8 سنوات و12 سنة. يمكن أن يكون لديك صديق أكبر منك بسنتين أو ثلاث سنوات، دون إشكال طالما يجمعكما الاهتمام بالكوميكس أو كتب الألغاز. كان هناك لقاء شبه يومي قبل ساعات الحر القائظ لتبادل الكتب والمجلات، ثم قتل ساعات الظهيرة بالمطالعة، للعودة وتبادل الكتب ثانية عصراً استعدادا للفترة المسائية.

تبادل الكتب والمجلات كان، أيضاً، حلا لتعويض النقص المتاح منها في المكتبات بعد قرار رسمي عجيب يمنع استيرادها لأنها تشجع على البطولات الفردية. أغلب ما كنا نشتريه هو مجلات مستعملة تدور بين مكتبات بيع الكتب.

المطالعة، أيضاً، تؤمنك من تشدد الأهل. «إنه يقرأ. أتركوه». لا أحد يعترض على الإكثار من المطالعة مثلما يتم الاعتراض على الإكثار من اللعب أو عند المبالغة في التجول بالدراجة الهوائية.

«حوادث» الطفولة التي شكلت حياتي كانت سعيدة. كنا سعداء حقا.

_________
*العرب / تنشر بالاتفاق مع مجلة الجديد الشهرية اللندنية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *