يعتبر محمد عزيز الحبابي (1923 – 1993) من أوائل المتفلسفين في المغرب بعد ابن رشد وابن خلدون. ولد في مدينة فاس، درس في جامعة القرويين، ثم انتقل الى باريس حيث حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، ليعود الى بلده ويتسلّم أعلى المناصب الأكاديمية والثقافية.
من يقرأ مشروع الحبابي الفلسفي كما فعل يوسف بن عدي في كتابه «محمد عزيز الحبابي وتأسيس الفلسفة الشخصانية الواقعية» (منشورات مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث)، يكتشف كيف أن كتابات هذا المفكر المغربي تعجّ بخصائص التفكير الفلسفي الأصيل كالاختلاف، والتفاعل، والمحاورة، وتنمّ عن فرادة فلسفية تتمثّل في جمعه بين التأثير الديني السلفي المتنوّر، وبين تأثير المفكرين الغربيين أمثال بشلار ومونييه وبرغسون وسارتر.
ويكتشف قارىء مشروع الحبابي أنّ هذا المفكر المغربي يسعى الى رؤية فلسفية مزدوجة. الأولى ترنو الى الحوار مع الفلسفات الإسلامية ومن ثمّ تشييد الشخصانية الإسلامية، والفلسفة الثانية تروم إلى بناء توجّه غدوي (عالم الغد) يراهن فيه الحبابي على فلسفة عربية معاصرة ومبدعة.
ويلاحظ أخيراً قارىء مشروع الحبابي الفكري والإسلامي ثلاث لحظات أساسية: وهي الشخصانية الواقعية التي كانت نتيجة أطروحة الدكتوراه في الفلسفة حصل عليها الحبابي من جامعة السوربون في أوائل الخمسينات، وفيها فسح في المجال لفكرة الشخص والكائن والتشخصن والتعالي والزمان. ثمّ اللحظة الثانية وهي لحظة تأويل الحبابي للتراث الإسلامي قبل – وبعد – نشوء الدعوة المحمدية التي جاءت بتصوّر ديني تنتفي معه القبيلة والعبودية والعشائرية. وكرست بذلك الشخصانية الواقعية التي أراد صاحبها إظهار عدم تناقضها مع الدين الإسلامي. أما اللحظة الثالثة فهي لحظة بناء الغد بكل ما فيه من طموحات وتطلعات، بعيداً من فوارق العرق والجنس والدين والجهة والواقع، وبذلك يوضع الإنسان فوق كل اعتبار. ويتمّ التطلع الى استرداد كرامة الإنسان وحريته.
كانت هواجس الحبابي الفكرية والسياسية في التأليف والتنظير تصدر عن قضايا ومشكلات إنسان العالم الثالث كمشكلة التخلف، والتأخر التاريخي، ومشكلة الارتداد الثقافي، ومشكلة الاستقلال والتحرّر، وهي تتوزّع بين الكتابة الفلسفية والشعرية والأدبية والروائية. هذه الكتابة المتعدّدة الأنواع كانت محلّ نقد عدد من المفكرين العرب.
يعتذر صاحب كتاب «الخطاب العربي المعاصر» محمد الجابري عن عدم قيامه بنقد الحبابي في كتابه نظراً لاستخدامه «الخطاب العربي». يقول الجابري في هذا السياق «لم نتناول محاولات رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي الشخصانية لأنها كتبت أصلاً بلغة أجنبية (الفرنسية)، وبالتالي هي لا تنتمي الى الخطاب العربي المعاصر.
إذا لم يواجه الجابري فلسفة الحبابي مباشرة فإنه واجهه مداورة عندما تحدّث عن علامات اللاعقل السائدة في الفعل العقلي العربي لدى تيارات واتجاهات فلسفية وازنة، كالوجودية والرحمانية والجوانية. أما عبدالله العروي في كتابه «مفهوم الحرية» فلم يتحرّج عن نقد مشروع الحبابي الفلسفي، ولكن بصفة محتشمة ومجملة، حيث يدعو الى استبدال مفهوم الحرية التام المستقر بمفهوم التحرّر الناقص المتطوّر، ويعتبر أن فلسفة الحبابي الغدوية تشغل نفسها بالمستقبل، وتتغافل عن الحاضر والمحيط المجتمعي.
يندفع حسن حنفي في كتابه «التراث والتجديد» الى التمييز في مشروعه بين التجديد من الخارج والتجديد من الداخل، ويتطرّق الى مشروع التيار الشخصاني الذي يقوده الحبابي معتبراً أن مشروع الحبابي هو بمثابة «انتقاء مذهب أوروبي حديث ومعاصر، ثم قياس التراث عليه، ورؤية هذا المذهب المنقول في تراثنا القديم، وقد تحقّق من قبل، ومن ثم نفتخر بأننا وصلنا الى ما وصل اليه الأوروبيون المعاصرون بعشرة قرون أو أكثر من قبل، فهناك أرسطية ليبرالية، ومادية إشتراكية، وديكارتية إصلاحية، وكانطية، ووضعية أصولية». وينجم عن ذلك أن فلسفة الحبابي الشخصانية فلسفة غربية بمصادرها وتكويناتها.
تناول مفكر آخر التيار الشخصاني عند محمد عزيز الحبابي في كتابه «أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث»، فرأى أن الشخصانية الإسلامية عند الحبابي إنما تدلّ على أن الإسلام متطور وفاعل ومسؤول إزاء الذات والآخر بدافع مخافة الله الذي يجعل «وعيه دائم اليقظة، وضميره الأخلاقي ممتلئاً بالحيوية والصفاء، عاكساً الحضور الكلي الإلهي، وهادفاً باستمرار الى التجاوز، وإلى التطلع الدائم نحو نهضة جديدة لا يقف في وجهها حائل، لا كهنوت ولا خطيئة أصلية. وينهي جدعان نقده للحبابي بالإشارة الى الخلط الذي وقع فيه الحبابي، أو الخوف والتوجّس من الوقوع فيه بين التجربة الإيمانية الخالصة وبين قيمة التجربة الإنكارية. بيد أن هذه المخاوف والتوجسات متى اطلعنا على فكرة الحبابي العميقة وهي تحقيق التجربة الفردية في تجربة «النحن»، هذا اللقاء الذي أساسه التواصل والتشارك والاندماج بين الكائنات والأشخاص في مسارات التاريخ، والاجتماع الإنساني.
مشروع الحبابي الفلسفي الذي أطلقه في الخمسينات من القرن العشرين – المعروف بأنه قرن نهوض الأمم والشعوب بحثاً عن كتابة تاريخ تحرّرها وحريتها، قرن استئناف الفعل الفلسفي بعد الانقطاع الطويل عن مسار تاريخ الفلسفة – كان ابن بيئته وابن زمانه لأنه اعتبر أن الإنسان هو الغاية والقيمة، ولأنه وقف في وجه الاضطهاد والتسلط والإمبريالية. وبهذا فإن مشروعه الفلسفي فيه من القدامة كما فيه من الحداثة، وفيه من منابع الغرب الفكرية كما فيه من منابع الشرق، فيه من الشخصانية التي تقرّب الناس بعضها من بعض، وفيه من الإنسانوية التي ترى العالم واحداً موحّداً. يقول الحبابي في هذا المجال: «فلا الخوارزمي قصد بأبحاثه خدمة العالم الإسلامي فحسب، ولا جاليله أوقف نتائج اكتشافاته على المسيحية، ولا باستور قصر اختراعاته على فرنسا بل هدفوا كلهم الى خدمة الإنسانية جمعاء».
_________