عندما نستمر في الكلام عن (الحداثة) منذ ما يزيد على نصف قرن، ونعيد الكلام نفسه، مواصلين السعي نفسه، سنكون إما غافلين عن حركة الزمن وفعل الوقت في حياتنا، أو إننا نكذب بإصرار على أنفسنا والآخرين، متوهمين أن الحداثة، دائماً، هي التي تحدث معنا الآن، وباستمرار، وبالضبط، في اللحظة التي نلفظ مفردة (حداثة) ذاتها. في حين أن ما يحدث في الواقع هو العكس، وغالباً هو النقيض.
2
أظن أنه يتوجب علينا إدراك (نعم، هذه هي الكلمة الصحيحة) كم أصبحنا، أو نصبح يوماً بعد يوم، على درجة فادحة من التخلف. ولابد، لكي نكون صادقين، أن نتعرف إلى حقيقة ما يحدث لنا وحولنا من تحولات تجعل الزمن شاهداً أكثر صرامة علينا من أوهامنا.
ولابد أن نتأكد أيضاً، من أننا لسنا متخلفين فقط، لكننا نتخلف يومياً. وبتسارع غير مسبوق. ذلك أن اليوم واللحظة التي يتغير فيهما العالم ويتقدم، نكون نحن في التخلف، فعندما نصحو كل يوم نكون قد تخلفنا أكثر من اليوم السابق. حتى أنه، لفرط تقهقرنا اليومي، يمكن أن نجد أنفسنا في الغابة والكهف معاً. أكثر مما نحن الآن.
3
فإذن، ليس من الحق والإنصاف الزعم أننا في الحداثة، أو أننا ذاهبون إليها. فمن المزاعم غير المقبولة أيضاً، كلامنا عن الحداثة. تلك الحداثة التي ليس بوسعنا الاستقرار على فهمٍ واضحٍ على التعيين لها. وهي على كل حال ليست واضحة في الغرب نفسه، فهي أيضاً ليست حداثة واحدة منذ منتصف القرن الثامن عشر، منذ بودلير، منذ روسو، منذ نيتشه وهيغل، منذ فوكو ودريدا، منذ بول ريكور.
في أوروبا التي اجتازت ثورات القرن التاسع عشر الثلاث، كاملة، ونحن لم نعرف واحدة منها بعد.
نحتاج الكثير من مراجعة العمل والوقت للتأكد مما نحن فيه، وما نتحدث عنه. فالحداثة، بالمعنى التقني، وعلى أكثر من صعيد، ليست نحن، الحداثة هي فعل حضاري بالدرجة الأولى. الفعل الذي يتكدس المجتمع العربي على رفضه أو مقاومته أو تفاديه.
4
في الفضاء الأدبي،
أدونيس، مثلاً، لم يعد شاعراً حديثاً، إلا بالقدر الذي يجعل الكتابة على طريقة الشاعر سليم بركات أسلوباً يدعو للقلق. أدونيس ذاته الذي يدرك، تائقاً، أنه يصبح، يوماً بعد يوم، كلاسيكياً، قياساً لكتابة الأجيال اللاحقة به، بالمعنى التقني في تجربة الشعر العربي. وليست هذه (الكلاسيكية) مثلبةً، لكنها إشارة نقدية تثلم احتمالات الحداثة المتعثرة في الحياة العربية. حيث يعني ذلك أن الحياة والمجتمع العربيين الراهنين ليسا من الحضارة إلا بالشعار حيناً، وبالنوايا أحياناً، وبالمزاعم قيد الشبهة معظم الأحيان.
كما أن جائزة نوبل في الأدب، التي لم تكن حداثة التعبير من بين شروطها، حين حصل عليها نجيب محفوظ، كان أكثر من جيل من كتاب الرواية الشباب في مصر قد تبلورت تجاربهم، من جهة المعنى الزمني للحداثة.
ومن جهة أخرى، إذا كنا لا نزال نحسب نصوص محمد لطفي اليوسفي وجابر عصفور نقداً حديثاً، فعلينا أن نكترث باعتبارنا كتابة صلاح بوسريف سبراً حيوياً في النقد الأدبي.
ثم ماذا نسمّي نقداً شعرياً عربياً حديثاً لا يستطيع أن يحدثنا عن شعرٍ عربي معاصر، أو يفهمه، من غير الكلام عن أبي نواس أو ابن الرومي وأبي تمام، ولا نحسب هذا استتباعاً، أو استصداراً لمرايا قديمة لرؤى جديدة.؟
وربما نجد أنفسنا أمام ما يربك إدراكاتنا ونحن نلاحظ مفكراً شعرياً مثل محمد بنيس يقضي وقتاً طويلاً لترجمة قصيدة الشاعر الفرنسي ملارميه (رمية نرد) المكتوبة قبل مائة عام، بوصفها نصاً حداثياً، محاولين أن نفهم قدرة تلك القصيدة، على التمثيل الصادق للحداثة، بعد كل متغيرات وتحولات الحداثة الأدبية الأوروبية، خشية أن نأتي للحداثة متأخرين عنها. ونحن نتذكر أن محمد بنيس نفسه هو من كتب مقالته بعنوان: (لمساءلة الحداثة) في أحد أعداد مجلة «الكرمل» منتصف الثمانينيّات من القرن الماضي.
كيف نفهم لازمنية الحداثة في سياقٍ لا يضع موهبة الوقت في برامجه، وليست حساسية الزمن من طبيعته الاجتماعية؟
قضايا عديدة، بالغة التعقيد، تلك التي تعوّق نشوءنا ونمونا الطبيعيين، إن لم نعترف بقصورنا الحضاري إزاء أشياء الحضارة، فيما نتحدث عن الحداثة، ومابعدها.
إن حركة وجودنا وحيويتها تستدعي منا المزيد من التواضع والوعي، لئلا نجد أنفسنا نموذجاً فذاً للادعاء الفجّ.
5
أخشى أننا نتمثّل عصراً برمته، هو الآن في حكم التاريخ، دون أن ننتبه لكوننا نصير، بتسارعٍ واضح، أسلافاً غير صالحين كقدوة لأبنائنا وأحفادنا، بل أننا نكاد نصبح عرضةً للاستبدال بوصفنا تراثاً رثاً لأحفادٍ لا تُحتمل صرامتهم.
6
ثمة ما يمكن وصفه بالفقر الروحي سوف يتفاقم في تكويننا الثقافي، ونحن نتجول هائمين في سديم المجرة عراة من الأدوات النقدية اللازمة للإبحار الكوني بقدر كافٍ من النجاح.
فما زلنا لا نصادف أديباً عربياً يقترح علينا التوقف لملاحظة هذه المفارقات، ومناقشتها بصرامة أخلاقية وبخجل حضاريّ فعال، لتفادي ما نحن مقبلون عليه (لئلا أقول غارقون فيه) من نتائج مخفقة. فباب المسؤولية يتطلب منا هذا، وربما أكثر من هذا أيضاً.
7
الكفّ عن الكلام عن الحداثة بلغة ومنطق ودلالات القرن الماضي.
التوقف عن القفز، مضاهاة للقرود، الى الكلام عن مابعد الحداثة.
نحن الذين لا نزال نتخبط في مستنقعات حداثة ما قبل القرن التاسع عشر، في حيّزٍ بشريٍ يجتمعُ على التقهقر