تصورات في ‘الحياة السائلة’ للبولندي زيجمونت باومان

*هيثم حسين

يصف البولندي زيجمونت باومان كتابه “الحياة السائلة” بأنه مجموعة من التأملات في الجوانب المتعددة للحياة السائلة، تلك الحياة التي يحياها المرء في مجتمع حديث سائل. يذكر أنّ هذه التأملات لا تدّعي الكمال، ويأمل أن يكون كل جانب يتناوله بالتحليل نافذة على الوضع الإنساني الذي نحياه في الوقت الراهن، ونافذة على التهديدات والإمكانات التي ينطوي عليها هذا الوضع فيما يتعلق بآفاق أنسنة العالم البشري وجعله أكثر رحابة وقبولاً للإنسانية.

يعرف زيجمونت الحياة السائلة بأنها سلسلة من البدايات الجديدة، ويجد أن النهايات المؤلمة التي لولاها لكانت البدايات الجديدة خارج طوق الفكر هي عادة أصعب لحظات الحياة والسائلة وأكثرها وجعاً. ويلفت إلى أن تعلم أسبقية التخلص من الأشياء على تملكها صار أحد فنون الحياة الحديثة السائلة وإحدى المهارات اللازمة لممارستها.

يجزم باومان أن الحياة السائلة حياة استهلاكية، وأنها تجعل من العالم بكل أحيائه وجماداته موضوعات للاستهلاك، تفقد نفعها عند استخدامها، وتفقد معه سحرها وجاذبيتها وإغواءها وإغراءها، وتشكل معايير تقييم أحياء هذا العالم وجماداته وفق نموذج موضوعات الاستهلاك. وهذه الموضوعات لها عمر افتراضي نفعي قصير، وإذا انتهى فلا يصلح استهلاكها.

CYyRtQMWcAA0tK1

سيولة المجتمع

يقسم زيجمونت كتابه (الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة حجاج أبو جبر 2016) إلى سبعة فصول هي: الفرد تحت الحصار، من الشهداء إلى الأبطال ومن الأبطال إلى المشاهير، الثقافة خارج السيطرة والإدارة، البحث عن مأوى لى في صندوق باندورا أو الخوف والأمن والمدينة، المستهلكون في مجتمع حديث سائل، تعلم السير على الرمال المتحركة، التفكير في أزمنة مظلمة، بالإضافة إلى مقدمة يتحدث فيها عن العيش في عالم حديث سائل.

ينوه زيجمونت في مقدمته إلى أن ثمة صلة وطيدة بين “الحياة السائلة” و”الحداثة السائلة”، ويعتقد أنّ “الحياة السائلة” عادة في مجتمع حديث سائل، وهو مجتمع تتغيّر فيه الظروف التي يعيشها أعضاؤه بسرعة لا تسمح باستقرار الأفعال في عادات وأعمال منتظمة. ويجد أنه هكذا تتغذّى سيولة الحياة على سيولة المجتمع، وتستمد طاقتها وحيويتها منها، والعكس صحيح.

ويجد كذلك أن الحياة السائلة تماماً مثل المجتمع الحديث السائل، لا يمكن أن تحتفظ بشكلها ولا تظلّ على حالها وقتاً طويلاً. ويعتقد أن الحياة السائلة هي حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم، وأشدّ هاجس يساوره في تلك الحياة هو الخوف من أن تأخذه على حين غرّة، ومن الفشل في اللحاق بالمستجدّات المتسارعة ومن التخلف عن ركب السائرين، ومن إغفال تواريخ نهاية الصلاحية، ومن الاحتفاظ بأغراض مهجورة، ومن فقدان اللحظة التي تدعو إلى تحول في اتجاه السير قبل عبور نقطة اللاعودة.

يتوقف عند مصطلحات تجتاح الحياة المعاصرة، منها تعليقه على أن “التدمير الخلاق” موضة الحياة السائلة، ويستدرك أن ما يغفله المصطلح ويسكت عنه هو أن التدمير يستهدف حيوات أخرى، بمن في ذلك البشر الذين يحيون هذه الحياة. وينوّه إلى أن الحياة في المجتمع الحديث السائل هي نسخة مخيفة من لعبة الكراسي الموسيقية التي تحوّلت إلى واقع حقيقي. وأن الرهان الحقيقي في هذا السباق يكمن في النجاة المؤقتة من الاستبعاد والإدراج في صفوف الهالكين. ويكمن كذلك في اجتناب الإلقاء في سلة المهملات. ويجد أنه ما دامت المنافسة تتحوّل إلى منافسة عالمية فإن الجري لا بد من أن يكون حول مضمار عالمي.

في فصل “الفرد تحت الحصار” يتناول باومان فكرة الهوية الهجينة، وتحرك الفرد ضمن دائرة تبدو خارج الحدود ظاهرياً، في حين أنها تكون محاصرة بحدود لا مرئية، ويعتقد أن الثقافة الهجينة صورة مجازية تضفي رونقاً أيديولوجياً على التحرّر المتحقق أو المزعوم من المحلية. ويجد أن الثقافة الهجينة تستثنى من سيادة الوحدات السياسية القطرية، تماماً مثل الشبكات المتجاوزة للأقطار التي تسكنها النخبة العولمية. ومن ثم فهي تجد هويتها في التحرر من الهويات المسندة الجامدة وفي الحصول على رخصة بعدم الاعتداد بالسمات والعلامات والتصنيفات كافة التي تحدّد وتحد من حركات غيرهم واختيارهم من يتقيدون بالمكان.

يعتقد كذلك أن الهوية تنجرف مع تيار الأحداث واحداً تلو الآخر، من دون وعي بمآلاته ولا مقاصده، إنها تنساق وراء الرغبة في اجتناب التاريخ الماضي لا رسم خريطة المستقبل، ولذا فهي تظل حبيسة حاضرها إلى الأبد بعد تحريرها من دلالاتها الدائمة بوصفها أساس المستقبل.

علامات تجارية

يتطرق إلى أهمية الحرية والأمن لأبناء المجتمع الحديث، ويعالج فكرة التغير المتسارع في الأفكار والتصورات، من ذلك تأكيده على أن أهل العالم الحديث السائل لا يحتاجون إلى تهيئة إضافية حتى يستغرقوا في استكشاف مراكز التسوق، لعلهم يجدون بطاقات هوية جاهزة وصديقة للمستهلك ومقروءة للجميع. يقول إن هؤلاء المستهلكين يتجولون في الممرات المتعرجة داخل مراكز التسوق، يراودهم الأمل بأن يعثروا على علامة هوية أو علامة تجارية من شأنها أن تحدّث ذواتهم وفق أحدث الصيحات، كما يستحوذ عليهم توجس مخيف من إغفال اللحظة التي تتحول فيها علامة تجارية يتفاخرون بها إلى علامة يخجلون منها.

في حديثه عن الأبطال والمشاهير يعتقد باومان أن تسويغ فقدان الحياة يتطلب من غرض الموت أن يقدم للبطل قيمة تفوق في عظمتها كل ملذات الحياة في الأرض. وتلك القيمة لا بد من أن تتجاوز الحياة الفردية للبطل، فهي بلا شك حياة قصيرة تنتهي لا محالة لحظة الموت، ولا بد لموت البطل من أن يسهم في بقاء تلك القيمة.

ويلفت إلى أن معنى الشهادة لا يتوقف على ما يحدث في العالم فيما بعد، أما معنى البطولة فيتوقف عليه. ويجد أن التضحية بحياة المرء من دون أثر ملموس، ومن ثم إهدار فرصة استثمار الموت، ليست فعلاً من أفعال البطولة، بل دليل على الحماقة أو سوء التـقدير، ودلـيل على الإهـمال البالغ للواجب.

يعتبر صاحب “الحب السائل” أن المجتمع الاستهلاكي يحط من قدر المثل التي تحتفي بالكلية والمدى البعيد، وتحلّ محلها قيم الإشباع الفوري والسعادة الفردية، يشير كذلك إلى أنه لا مكان للأبطال والشهداء في المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل في الجزء الثريّ من الكرة الأرضية، ويجد أن ذلك المجتمع يحقر القيمتين اللتين استدعتا وجود الشهداء والأبطال ويدينهما ويحاربهما. يذكر أنه يحارب بداية ضد التضحية بالملذات الحاضرة في سبيل الغايات البعيدة، ومن ثم فهو يحارب فكرة القبول بالمعاناة المستمرة في سبيل نيل الخلاص في الحياة الأخروية، أو كما في النموذج العلماني إرجاء الإشباع الآن في سبيل مكاسب أعظم في المستقبل.

يرى باومان أنه بات يفهم التقدم نحو الحضارة لا باعتباره إنجازاً واحداً مقطوعاً، بل بوصفه صراعاً يومياً متواصلاً، صراعاً لا يحقق انتصاراً نهائياً كاملاً، ولا يرجى أن يصل إلى خطّ النهاية، بل يدفعه على الدوام الأمل في الانتصار. ويجد أن النزعة الاستهلاكية تعني اقتصاديات الخداع والإسراف والنفايات، وهذه الاقتصاديات لا تشير إلى خلل ولا إلى تعطيل، بل إنها ضمان السلامة والنظام الوحيد الذي يكفل البقاء لمجتمع المستهلكين. ويجد أن تراكم الآمال المحطمة توازيه جبال متصاعدة من عروض استهلاكية مهملة ارتبطت بتوقع، أو وعد، بإشباع رغبات المستهلكين.

يلفت إلى أن الجهل السياسي يولّد نفسه بنفسه من دون تدخل أو قوة خارجية. والقيد الذي يجدل من الجهل واللافعل مفيد متى أريد إسكات صوت الحرية أو غلّ يديها. ويشدد على الحاجة إلى تعليم مدى الحياة حتى يمنحنا حق الاختيار، لكننا نحتاج إليه أكثر لإنقاذ أحوالنا التي تجعل الاختيار متاحاً وممكناً لنا.

________

*العرب

 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *