حادثة زليخة وبنية التفكير الجمعي المتوتّر


*مروان الحسيني


أقف دوماً إلى جانب الكلمة الحرة العقلانية. تلك الكلمة الجريئة المنفتحة على التفكير النقدي الواضح والأدلة العلمية الراسخة. وهو في رأيي تفكير ما يزال غير فاعل كثيراً في سياقاتنا العربية، وإن كان كثيرون يرفعون لواءاته.
أقرأ مقالات لعديد من الكتّاب والمفكّرين العرب والأردنيين الذين يضعون أنفسهم في بلّورة التفكير النقدي، أو يقاربونها، وأجد في مقالاتهم ما يجدر الانتباه إليه وتطويره إذا ما شاء أحد أن يؤسس لحالة نقدية تفاعلية مثمرة بعيدة عن الأضداد ولغة الـ”نحن” والـ”هم”، وبعيداً كذلك عن ثقافة الهجوم والهجوم المضاد، وأساليب الاستفزاز الشعوري المتنوعة.
أتابع مقالات ومقولات لكثيرين في الأردن، وخصوصاً تلك التي تتعلق بنقد الخطابات الدينية والعقليات الدينية وخطابات الإسلام السياسي والخطابات الأيديولوجية المختلفة والعلاقة الملتبسة بين ما هو ديني وما هو غير ديني (حسب التعريفات المختلفة). وأجد في مجمل هذه المقالات مفاتيح مهمة تنبّه إلى الكثير من مواطن الخلل الفكري والثقافي والاجتماعي والديني التي تنتشر في مجتمعاتنا ولدى أفرادنا، والتي تحتاج إلى فحص وتدقيق وتأنٍ في وضع المعالجات المناسبة لها.
ومن هؤلاء الذين أقرأ لهم: معاذ بني عامر، ومحمد أبو رمان، وزليخة أبو ريشة، وباسل رفايعة، ونارت قاخون، وباسم الطويسي، وإبراهيم غرايبة، ويوسف ربابعة، وسائد كراجة، وذوقان عبيدات، وحسني عايش، ووليد حسني، وموسى برهومة، ومحمود منير، وحسين الرواشدة، وغيرهم.
وإذا كانت قد أثيرت ضجة تصاعد بعض دخانها عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، وبالأخص على “تويتر”، حول مقال وضعته زليخة أبو ريشة بعنوان “غسيل الأدمغة”، ونبّهت فيه إلى “آليات غسيل الأدمغة التي تعشّش اليوم في مدارسنا”، فإنني أرى أن المعارك الفكرية لا تُخاض عبر “فيسبوك” و”تويتر”، وإنما تكون في العقول وعبرها.
أتفق مع الكاتبة في مقالها حول غسيل الأدمغة وآليات الكراهية، من حيث أن خطاب الكراهية تفشى “في التنشئة الأسرية، أو في المدرسة، أو في الإعلام، أو في منابر المجتمع الأهلي والمعابد، أو فيها جميعها أو بعضها”. لكنني أرى ضرورة النظر في السياقات الأوسع والجذور الأعمق لآليات هذا الخطاب، دينياً وسياسياً واجتماعياً وفكرياً، وشعوريا وهذا الأهم.
فإذا كنا نرى مشكلة في مدارسنا و”في المراكز الثقافية الدينية المنغلقة”، فإن معالجتها لا تبدأ بعبارات عامة ملتبسة، بل تحتاج إلى عملية طويلة لا تبدأ فقط بالدراسة العلمية لمظاهر هذه المشكلة، ولا تنتهي فقط بتوصيف علاجاتها.
ما رأيته خلال الأيام الماضية على “تويتر” و”فيسبوك” والمواقع الإلكترونية من هجوم شرس مشحون، هو أن زليخة أبو ريشة نفسها أصبحت أداةً من أدوات شحن الكراهية وبثّها. وهذا أمر وقع في فخاخه من هم ضدّها ومن هم معها. إذ لا أحد يناقشها في أفكارها؛ الحُجة مقابل الحُجة. ولا أحد يضيف إليها أو يؤشر إلى مدى قوتها في مواضع ومدى ضعفها في مواضع، عدا استثناءات بسيطة. والهجوم الذي رأيته يتفاعل بشدّة هو على شخصها، ومن خلال الإلقاء بعبارات وردود أفعال كليشيهية جاهزة، ومنها الشتائم واستحضار الصور النمطية المبرمجة جمعياً، وهي التي تتوارثها العقليات الاجتماعية السائدة وتستخدمها عند الحاجة إليها باختلاف الأسباب.
كما أن معظم ما تعرضت إليه أبو ريشة من هجوم استند إلى تعليق لها على مقالها وهي تقدمه للقراء على صفحتها “الفيسبوكية”، وتضمن التعليق سوء فهم لم يميزه كثيرون. إذ إنها هاجمت الخطاب الأيديولوجي الذي رأت أن مراكز تحفيظ القرآن تقوم من خلاله بغسل أدمغة الأطفال.
والحقيقة أن تعليقها صدمني للوهلة الأولى. فهي تقول (في تعليقها وليس في المقال ذاته): “إن مراكز تحفيظ القرآن جميعها تقوم بغسيل الأدمغة وتقدم الخطاب الأيدولوجيّ، والكثير من الخطاب الشوفيني وخطاب الكراهية، وجميع مرتاديها من أطفال هذا الوطن خلايا نائمة”. وهذا تعميم لا داعي له، لكنني قبلته من ناحية أنني فسّرته بأنها تريد إحداث انتباهة، ودق ناقوس الخطر لدى القارئ، حتى يقرأ مقالها بتركيز أكبر على أفكارها وعلى ما تحذّر منه من “آليات غسيل الأدمغة التي تعشّش اليوم في مدارسنا ابتداءً من دور الحضانة ومروراً برياض الأطفال وانتهاءً بالثانوية العامة التي تقوم التنشئة فيها بلا استثناء يُذكَر، على التخويف من عذاب الله، لا التنعم برحمته، وعلى ذهنية التكفير والفرقة الناجية والتفوق العقائدي”.
غير أن ما حدث في اعتقادي، أو منبع سوء الفهم الذي وقعت فيه “العقلية الجمعية الإلكترونية” التي هاجمت أبو ريشة، ليس التعميم بحد ذاته (وإن كانت الكاتبة تراجعت عن التعميم بعد ذلك)، بقدر ما هو أنها مسّت بالنقد مقدّساً اجتماعياً شعبياً (حيث إن مراكز تحفيظ القرآن هي بُنى اجتماعية ذات صبغة دينية وليست بُنى دينية مقدّسة). وهذا المسّ وحده كان كفيلاً بتحريك الكثير من عبارات الكراهية والتنميط الجاهز والشتائم تجاهها.
وإذا ما أردت الدخول أعمق في التحليل، أقول إن كثيرين ظنوا أنها تهاجم القرآن نفسه، بسبب من سوء الفهم الذي تستدعيه عباراتها في تعليقها، وسوء الفهم الذي تستدعيه عناوين الأخبار التي هاجمتها. فبمجرد قراءة عناوين مثل “أبو ريشة تهاجم مراكز تحفيظ القرآن” أو “زليخة أبو ريشة تسيء للإسلام”، فإن الظن يتحول إلى يقين شعوري، خصوصاً وأن مفردة “الهجوم” قد ارتبطت بمفردتي “القرآن” و”الإسلام”. وهذا الظن وحده كان أيضاً كفيلاً بصدمة نفسية شعورية أدت بالكثير من المعلّقين على “تويتر” و”فيسبوك” إلى التعبير عن ردود فعل مباشرة من دون تمحيص الأفكار أو التفكّر فيها، بل انطلاقاً مما اعتادوا عليه من هجمات سريعة مبرمجة في دواخلهم.
أريد في هذه المناسبة أن أؤشر بشكل بسيط إلى مسألة أراها مهمة تحتاج إلى تناول هادئ ومختلف، وربما حواراً من أنواع الحوارات المتواصلة. هذه المسألة تتعلق ببنية التفكير الجمعي لدى كثير منّا عندما يتعلق الأمر بمناقشة المواضيع الدينية أو الدفاع عنها. إذ كثيراً ما أتأمل في بنية هذا التفكير لدى الشريحة الاجتماعية الأوسع التي أتعامل معها، فأرى أن هذه البنية هي في جانبها العقلي تراثية -في أغلبها- مزروعة في تربة دينية تاريخية، وفي جانبها الشعوري عاطفية حنينية متوترة -في أغلبها أيضاً. وهذا التفكير على هذه الصورة لا يترك مساحة كبيرة للتفكير العلمي النقدي المتأمل، أو الموقف الشعوري المتزن، مما يجعل أي “حادثة نقدية” مثل مقال “غسيل الأدمغة”، تبدو وكأنها تهجّم مباشر على ما يعتبره الكثيرون مقدّساً، وهو ليس كذلك، وإن كان تقدّس وراثياً واجتماعياً وشعورياً وليس عقلياً.
ليس المجال هنا توصيف الأزمات التي نعيشها في سياقاتنا العربية: اجتماعياً وتعليمياً وثقافياً وفكرياً، ولكنها فرصة للتأشير إلى ضرورة التوافق على عمل جمعي من شأنه التنبيه إلى منابع الخطابات التي تعيق تطور مجتمعاتنا عقلياً وشعورياً، ومعالجة هذه المنابع بأقل الأضرار وبعيداً عن موجات شحن الكراهية والبغضاء.
أتمنى ألا تجرّنا عقلياتنا المبرمجة إلى مستنقع الكراهية الذي يسحب إليه الجميع من دون تفريق. وأعود للقول إن المعارك الفكرية لا تُخاض عبر “فيسبوك” و”تويتر”، وإنما تكون في العقول وعبرها، بأسلوب علمي عقلاني هادئ يأخذ في الحسبان الحساسيات المختلفة ليضعها تحت مجهر التشريح من دون أن يجاملها أو يهاجمها لمجرد الهجوم، بل يسعى إلى معالجتها علاجاً مناسباً.
________
*الغد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *