في أهمية استعادة فيلسوف قرطبة



القاهرة- منذ أكثر من قرن، وتحديداً في عام 1903 أصدر فرح أنطون كتابه عن ابن رشد، وتساءل في مقدمته: «متى يصل الناس إلى زمن يقرؤون فيه كتابا كهذا الكتاب بضجر وملالة، لأنه بمثابة تاريخ قديم، لم يبق في الأرض احتياج لموضوعه؟» لكن الناس لم يصلوا إلى مرحلة الضجر من كتاب فرح أنطون، فلا تزال طبعاته تتوالى واحدة بعد أخرى، حتى أن أحدث طبعاته صدر العام الماضي 2015، ولا يزال ابن رشد فيلسوفا مثيرا للإعجاب والجدل، ولا تزال الكتب تصدر عنه، وأحدثها كتاب «مقال عن المنهج الفلسفي عن ابن رشد» للدكتورة فاطمة إسماعيل.
هذا يعني أننا في حاجة إلى ابن رشد، فلا تزال المؤتمرات تكرس لتدارس منجزه، ولا يزال فيه ما يغري بأن تختاره إدارة «معرض أبوظبي للكتاب» شخصية المعرض، وهذا ما أكده الراحل د. عاطف العراقي حين قال: «نعم نحن في حياتنا الفكرية التي نحياها في حاجة مستمرة إلى أن نتزود من تلك الدروس العقلية الرائدة التي تركها لنا فيلسوفنا ابن رشد، في أمس الحاجة إلى الاستفادة من تلك الدروس، وما أعظمها، خاصة بعد انتشار الفكر اللاعقلاني الأسطوري في أكثر أنحاء أمتنا العربية، وبحيث نجد للأسف الشديد تراجعا عن العقل، وتضييقا لمساحته، وغيبة عن العقول، وانتشار الخرافات والأساطير».
هكذا بعد مرور أكثر من ثمانية قرون على رحيل ابن رشد (توفي في العاشر من ديسمبر عام 1198 ميلادية) لا يزال هذا الفيلسوف غريبا عنّا، بعد ما بدأت ترجمته إلى اللاتينية في أوروبا منذ أواخر القرن الثاني عشر، واستكملت الترجمة في منتصف القرن الثالث عشر، ليس هذا فحسب، بل أصبحت منذ ذلك الحين عاملا من العوامل الرئيسية الفاعلة في الصراعات وحركة التنوير الأوروبي عامة.
في كتابها «مقال عن المنهج الفلسفي عند ابن رشد» تشير د. فاطمة إسماعيل إلى أن ابن رشد له مؤلفات صريحة تحمل عناوينها مصطلح «مناهج» مثل «الكشف عن مناهج الأدلة» وهذا شيء لم يتوافر للكندي مثلا، فضلا على أن المشكلات الفلسفية التي طرحها ابن رشد كانت جميعها مشكلات معرفية منهجية، جاءت نتيجة اهتمامه الشديد بالمنطق الأرسطي، حين اعتبره ابن رشد علم التفكير الصحيح، غير أن الأمر عنده يتطلب الكشف عن نظريته المنهجية من خلال مذهبه الفلسفي.
تقول د. فاطمة إسماعيل: «خلال تجريد الطريقة المنهجية من مادتها ينبغي أن نتعرف إلى معنى المنهج الفلسفي عند ابن رشد، هل هو العمليات العقلية المنطقية التي دعا الآخرين إلى استخدامها في كتب المنطق، حين قدم المنطق الأرسطي منهجا للبحث في كل فروع العلوم، بدءا من الطبيعيات والرياضيات وما بعد الطبيعة؟ أم أن المنهج عنده هو العمليات العقلية المنطقية، التي استخدمها بالفعل في ممارساته المنهجية؟».
توضح د. إسماعيل أن أرسطو اكتشف المنهج، كما هو مطبق بالفعل في ظل اللغة اليونانية والثقافة والحضارة اليونانيتين، وجاء ابن رشد من بعده ليدعو إلى ضرورة فهم وتعليم هذا المنهج الأرسطي وتطبيقه في بيئة عربية، وفي ظل ثقافة وحضارة إسلامية ،وهو شيء قد سبقه إليه المفكرون والفلاسفة المسلمون منذ بداية نقل التراث الأرسطي إلى المشرق العربي.
يكتسب ابن رشد أهمية لدى مؤلفة هذا الكتاب، كونه من الفلاسفة الذين أسهموا في جعل الفكر الإنساني سلسلة متصلة الحلقات، فكان هو الحلقة التي ربطت الغرب قديمه بحديثه، وكان ممثلا للحوار الفكري بين الحضارات قديمها وحديثها،فقد كان فيلسوف الشرق والغرب على السواء، كما أنه أكد أن الفلسفة حوار مستمر، حيث عبر كتابه «تهافت التهافت» عن أروع حوار فكري على مستوى الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، إن لم يكن العالمي.
يمثل ابن رشد نموذجا للفيلسوف الذي يعيش عصره، بكل ما فيه من مساوئ وإيجابيات، وتناقضات ومفارقات، فهو يمثل نموذجا لما قد تفعله المؤثرات الاجتماعية، بمعناها الواسع، سياسيا وفكريا وعقائديا، حين تفعل فعلها في الفيلسوف، فكشفت نصوص ابن رشد عن معارك الفلسفة مع السلطة الاجتماعية والسياسية والعقائدية، لتؤكد أن من المقدمات السياسية أو الاجتماعية ما قد يؤدي سلبا وإيجابا إلى نتائج فلسفية.
أيضا – وكما توضح المؤلفة – فإن ابن رشد من الفلاسفة الذين كثرت حولهم الأقاويل، وصدرت فيهم الأحكام، بعضها ظالم، وبعضها موضوعي علمي، وبعضها نشأ عن تحيز وتحزب له، إما لصالح الجانب العقلاني، وإما لصالح الهوية الإسلامية الخالصة له، ويتطور الموقف الأول على يد بعض الكتاب المعاصرين في المغرب العربي، الذين يصرون على الهوية المغربية الخالصة لفلسفة ابن رشد، ويطبقون على أعماله منهج القطيعة مع التراث الفكري في المشرق العربي، لأنهم يعتقدون أن مفكري المغرب العربي يمتازون بنمط من التفكير مختلف تماما عن نمط التفكير الذي ساد في المشرق العربي، فالنمط السائد في المغرب العربي- في رأيهم – يجعل من العقل حكما في كل شيء، ويجعل التفكير العقلي أساسا ومنهجا، بعكس العقلية المشرقية التي ورثت تراث ابن سينا، بما ينطوي عليه من عناصر صوفية إشراقية، تبتعد به عن التفكير العقلي.
تتابع د. فاطمة إسماعيل مراحل الوعي الفلسفي عند ابن رشد، وانعكاساتها على نظريته في المنهج، فهي تؤكد أنه لا يمكن الحديث عن منهج البحث الفلسفي عند فيلسوف بمعزل عن مراحل الوعي الفلسفي عند هذا الفيلسوف في نشأته الأولى وفي تطوره واكتماله وظهوره في نسق معرفي متكامل واضح المعالم، وقد تعددت مجالات مؤلفات ابن رشد، لتشمل المنطق والفقه والطب والفلسفة، وتنوعت أشكالها ما بين مختصرات وجوامع وتلخيصات وشروح كبرى ومقالات ومؤلفات موضوعية، وكل شكل من هذه الأشكال كان له هدف معين وغاية محددة، قصدها ابن رشد قصدا، فرضته بالضرورة درجة تطور الوعي الذاتي عنده، كما اقتضته ظروف العصر، في الوقت نفسه.
تشهد هذه المؤلفات المتنوعة على مدى تطور الوعي الفلسفي عند ابن رشد، كما تشهد على تطور فلسفة المنهج عنده، وتواكب كل مرحلة من مراحل تطور الوعي الفلسفي عنده، درجة من درجات إسهامه الفعلي في التنوير العربي، ويمكن تقسيمها- كما تذهب د. فاطمة إسماعيل – إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى مرحلة تأسيس الوعي ونشأته، وتمثلها المختصرات الأولى لبعض كتب السابقين عليه، وذلك في مجالات مختلفة، والمرحلة الثانية هي مرحلة تطور الوعي الفلسفي، ممثلة في إعادة قراءة وشرح التراث الأرسطي، وتنقسم هذه المرحلة إلى الجوامع (الشروح الصغرى) والتلخيصات (الشروح الوسطى).
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة نقد وإعادة قراءة التراث الإسلامي، وتمثله الملفات الأصلية (فصل المقال، مناهج الأدلة، تهافت التهافت) أما المرحلة الرابعة فهي مرحلة اكتمال الوعي الفلسفي، وبلوغه قمة النضج الرشدي في العلم والفلسفة، وهي مرحلة الشروح الكبرى، والمقالات الاستدراكية، التي تحمل تأويلات جديدة لمواقف قديمة، وفي كل مرحلة من المراحل السابقة يصعد الوعي الفلسفي عند ابن رشد درجة أعلى في سلم أشكال الوعي.
وتتداخل هذه المراحل فيما بينها، غير أن الموقف المنهجي هو الحاسم، الذي يشطرها إلى قسمين، وفي كل مرحلة من المراحل السابقة، تظهر مؤلفات تشهد على تطور المرحلة وتميزها موضوعا وغاية ومنهجا، ويعد كتاب «تهافت التهافت» أعظم حوار فكري على مستوى الفلسفة العربية الإسلامية، عبر عصورها القديمة والحديثة، وهي قضية تتعلق بمسألة غاية في الأهمية، هي قضية المنهج، وإن كان الكاتب يقصد الدفاع عن الفلسفة والفلاسفة، في ظل ظروف العداء الصارخ لها من جانب الفقهاء.
لم يكن هدف الغزالي من «تهافت الفلاسفة» هدفا بنائيا إيجابيا يقدم الشكوك، ثم يتبعها بالحلول، إنما كان هدفه نقديا هدميا، على وعد منه بتقديم الرأي البنائي فيما بعد، في كتاب آخر، قصد الغزالي إذن تعجيز الفلاسفة عن دعواهم معرفة حقائق الأمور الإلهية بالبراهين القطعية، وإظهار أن هذه الحقائق لا تنال بنظر العقل عند كثير من الناس.
وجاء ابن رشد ليرد على الغزالي مدافعا عن الفلسفة الحقة، من وجهة نظره، مستخدما في الوقت نفسه النهج الغزالي القائم على الهدم، وليس البناء، وهو يؤكد هدفه منذ بداية كتابه: «الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان».
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *