إسماعيل كاداريه في حوار مترجم: كل كتاب لي خنجر في جنب الطغيان (1)


*حوار: شوشا جوبي / ترجمة: أحمد شافعي


في سنة 1970، عصفت رواية لكاتب ألباني مجهول بباريس الأدبية. تحكي «جنرال الجيش الميت» قصة جنرال إيطالي يرجع إلى ألبانيا بعد الحرب العالمية الثانية ليعثر على جثث جنوده الإيطاليين الذين قتلوا هناك بهدف إعادتها لتدفن في إيطاليا. استُقبلت الرواية استقبال الروائع ودُعي مؤلفها إلى فرنسا فقابله مثقفوها بالترحاب بوصفه صوتا أصيلا قويا من وراء الستار الحديدي. ترجمت جنرال الجيش الميت إلى أكثر من عشر لغات واستلهم منها فيلمان: أحدهما يحمل عنوان الرواية نفسه ولعب دور البطولة فيه ميشيل بيكولي (Michel Piccoli)، والآخر فيلم «الحياة ولا شيء آخر» (La Vie et rien d’autre) المدهش لـ برنار تافارنييه (Bernard Tavernier).
ومنذ ذلك الحين ترجمت إلى الفرنسية والإنجليزية ولغات أخرى روايات كثيرة له ومجاميع عديدة من شعره ومقالاته. ويعد من كتاب العالم الأساسيين، ورشح مرات عديدة لجائزة نوبل في الأدب. ويقوم حاليا ناشروه الفرنسيون بطباعة أعماله الكاملة في ستة مجلدات بالفرنسية والألبانية الأصلية. ولقد ظهرت بالفعل المجلدات الثلاثة الأولى.
ولد إسماعيل كاداريه ونشأ في بلدة جينوكاستر (Gjinokastër) في ألبانيا. درس الأدب في جامعة تيرانا (Tiranë) وقضى ثلاث سنين في دراسات عليا في معهد جوركي بموسكو. كانت «جنرال الجيش الميت» روايته الأولى وصدرت لدى عودته إلى ألبانيا سنة 1962، حينما كان في السادسة والعشرين.
قورن كاداريه بكافكا وأوروِل، ولكن صوته صوت أصيل، إنساني عام، ومتجذر بعمق في تراب بلده في الآن نفسه. لقد عاشت ألبانيا لما يربو على أربعين عاما تحت دكتاتورية «أنور خوجة» (Enver Hoxha) الشيوعية، الذي دامت نسخته المقيتة من الستالينية أكثر مما دامت في أي بلد آخر من دول شرق أوربا. كتب كاداريه في العديد من الأنواع الأدبية واستعمل العديد من الأدوات الكتابية، فكتب الأليجوريا، والملهاة، والأعمال التاريخية، والأسطورية، هربا من رقابة خوجة القاسية وانتقامه الدموي من المعارضة مهما يكن الشكل الذي تتخذه. وتمثل أعماله تأريخا لتلك العقود الرهيبة برغم أن قصصه غالبا ما تجري في الماضي السحيق وفي بلاد غير بلده. وتجري أحداث اثنتين من رواياته هما «قصر الأحلام» و«الهرم» في الإمبراطورية العثمانية ومصر القديمة على الترتيب، في حين تشير «الشتاء العظيم» و«الحفل الموسيقي» بوضوح إلى انفصال ألبانيا عن روسيا في ظل خروشوف وعن الصين بعد وفاة ماو.
ترك إسماعيل كاداريه ألبانيا سنة 1990 واستقر في باريس. وفي عام 1996، انتخب عضوا مساعدا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم السياسية والأخلاقية ليحل محل الفيلسوف البريطاني نمساوي المولد كارل بوبر (Karl Popper) إثر وفاته في ذلك العام.
يعيش برفقة زوجته وابنته في الحي اللاتيني، في شقة رحبة منيرة تطل على حدائق لوكسمبورج، وهو كثير السفر إلى ألبانيا. وقد أجرينا هذا الحوار في بيته في فبراير وأكتوبر من عام 1997، مع اتصالات هاتفية في ما بين الشهرين.

معروف عن كاداريه أنه لا يحتمل الحمقى عن طيب خاطر، ولكنني وجدته رقيقا، مجاملا، وأميَل إلى الصبر مع شخص لا يعرف بلده وأدبها اللذين يكن لهما محبة كبيرة ويعنى بهما عناية واضحة. كاداريه يتكلم الفرنسية بطلاقة، بلكنة واضحة، وبصوت محسوب إلى حد كبير.

***
•أنت أول كاتب ألباني معاصر يحقق شهرة عالمية. وألبانيا بالنسبة لأغلب الناس بلد صغيرة سكانها ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، تقع على حافة أوربا. ومن هنا، فإن أول أسئلتي لك هو عن اللغة الألبانية، ماذا تكون؟
يعيش نصف سكان ألبانيا في يوغسلافيا المجاورة، في منطقة كوسوفو. وإجمالا، يتكلم الألبانية في العالم عشرة ملايين نسمة، وهي إحدى اللغات الأساسية في أوربا. ولا أقول هذا بوازع من العزة الوطنية، فهذه حقيقة. من وجهة النظر اللغوية، هناك ست عائلات أساسية أو سبع من اللغات في أوربا: اللاتينية، والجرمانية، والسلافية، والبلطيقية (التي يتكلمها أهل لاتفيا وإستونيا) وثلاث لغات أخرى بلا عائلات هي اليونانية والأرمينية والألبانية. ومن هنا فإن للغة الألبانية اعتبارا يفوق ما للبلد الصغيرة التي تتكلمها، وذلك بما أنها تحتل موضعا مهما في خريطة أوربا اللغوية. أما الهنجارية والفنلندية فليستا لغات هندوأوروبية.
والألبانية مهمة كذلك لكونها اللغة الوحيدة المنحدرة من لغة الإليريون Ilyrians العتيقة. لقد كانت في جنوب أوربا في العصور العتيقة ثلاث مناطق: هي اليونان، وروما وإلريون Ilyria. والألبانية هي اللغة الوحيدة المتبقية من لغات الإليريون. ولذلك كانت أكثر اللغات اجتذابا لفقهاء اللغة العظماء في الماضي، فكان أول من قدّم دراسة جادة للألبانية هو الفيلسوف الألماني جوتفريد ليبنتز (Gottfried Leibnitz) سنة 1965.

• وهي التي حاكاها فولتير في «كنديد» (Candide) في قول د. بانجلوس (Dr. Pangloss) «إن كل شيء يسير إلى الأفضل في أفضل العوالم الممكنة».
بالضبط. برغم أن ألبانيا لم تكن موجودة في ذلك الوقت ككيان منفصل، بل كانت جزءا من الامبراطورية العثمانية شأن بقية البلقان كله، بما فيه اليونان. ولكن هذا العبقري الألماني رأى اللغة مثيرة للاهتمام. ومن بعده، قدَّم باحثون ألمان آخرون دراسات مطولة للغة الألبانية، ومنهم فرانتز بوب (Franz Bopp) على سبيل المثال الذي قدم كتابا شديد التفصيل.

• ماذا عن الأدب الألباني؟ ما أصوله؟ وهل هناك دانتي ألباني، أو شكسبير، أو جوته؟
ـ أصوله في جوهرها شفاهية. أول كتاب أدبي بالألبانية صدر في القرن السادس عشر، وكان ترجمة للإنجيل. كانت البلد كاثوليكية في ذلك الوقت. وبعد ذلك جاء الكتَّاب. أبو الأدب الألباني المؤسس هو كاتب القرن التاسع عشر نعيم فراشري (Naim Frasheri). وبدون أن تكون وراءه عظمة دانتي أو شكسبير، يعد مع ذلك المؤسس، والرمز. كتب قصائد ملحمية طويلة، وشعرا غنائيا أيضا، ليوقظ الوعي الوطني لدى ألبانيا. وبعده جاء جييرجي فيشتا (Gjergj Fishta). ويمكننا القول إن هذين هما عملاقا الأدب الألباني، هما الاثنان اللذان يدرسهما التلاميذ في المدارس. وبعدهما جاء كتَّاب وشعراء آخرون أنتجوا أعمالا قد تفوق في جودتها أعمال الاثنين، لكنهما يبقيان في نفس مكانيهما من ذاكرة الأمة.

•استولى الأتراك على القسطنطينية سنة 1454، ثم على بقية البلقان واليونان. ما الأثر الذي تركته التركية على الألبانية؟
لا أثر يذكر. اللهم إلا على مستوى المعجم الإداري أو المطبخي، كلمات مثل كباب (kebab) وكافيه (café) [مقهى]، وبازار (bazaar). ولكنها لم تترك أثرا على بنية اللغة لسبب بسيط هو أن اللغتين آلتان مختلفتان تمام الاختلاف، فليس بوسع أحد أن يستعمل قطعة غيار من أيهما في الأخرى. اللغة التركية لم تكن معروفة في أي مكان خارج تركيا. والتركية الحديثة أسَّسها الكتّاب الأتراك في القرنين التاسع عشر والعشرين، أما التركية الإدارية الجافة فلم تكن لغة حية ومن هنا لم تكن لتترك أثرا على أي من اللغات الأخرى في الإمبراطورية العثمانية. وقد التقيت بكتاب أتراك فقالوا لي إن لديهم مشكلات مع لغتهم.

• من ناحية أخرى، دخل إلى التركية قدر كبير من المفردات الأجنبية ـ من الفارسية والعربية والفرنسية وغيرها. وفي ما قبل العصر الحديث، كان الكتّاب الأتراك يكتبون بالفارسية، أو بالعربية إن كانت للموضوع الذي يكتبون فيه علاقة بالدين.
ـ الألبانية، بالنسبة لي ككاتب، وسيلة تعبير استثنائية، فهي ثرية، طيعة، قادرة على التكيف. وفيها ـ كما قلت في أحدث رواياتي روح (Spiritus) ـ أنماط لا وجود لها في غير اليونانية الكلاسيكية، وذلك ما يجعل المرء في تماسٍّ مع الذهنية العتيقة. ففي الألبانية على سبيل المثال أفعال تحمل في وقت واحد معنيين، خيِّر وشرِّير، تماما كما في اليونانية القديمة، وهذا ما ييسِّر ترجمة التراجيديات اليونانية، وكذلك شكسبير، وهو أقرب الكتَّاب الأوربيين إلى كتَّاب التراجيديات اليونانيين. حينما يقول نيتشه إن التراجيديا اليونانية انتحرت في شبابها لأنها لم تعش غير مائة عام، فإنه يصيب الحقيقة. ولكنها وفقا للرؤية العالمية دامت وصولا إلى شكسبير ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. في المقابل، أعتقد أن مرحلة الشعر المحلمي انتهت. أما الرواية فلا تزال حديثة العهد للغاية. لم تكد تبدأ.

• ومع ذلك ثمة من يستشرفون موت الرواية منذ خمسين عاما!
هناك دائما من يلغون في أي شيء. لكن من وجهة نظر كونية، لو أنه مقدور للرواية أن تحلَّ محلَّ نوعين أدبيين مهمين هما الشعر الملحمي الذي اختفى والتراجيديا التي لا تزال مستمرة، فالرواية لم تكد تبدأ ولا تزال أمامها حياة تمتد لألفي عام.
• يبدو لي في مجمل أعمالك أنك تحاول دمج التراجيديا اليونانية في الرواية الحديثة.
بالضبط. أحاول أن أقوم بنوع من التركيب بين التراجيديا الجليلة والجروتسكية التي تتمثَّل في «دون كيخوتة» فلا يعلو عليها مثال آخر، إذ هي إحدى أعظم أعمال الأدب العالمي.

• انقسمت الرواية إلى أنواع كثيرة …
على الإطلاق. بالنسبة لي هذه الانقسامات النوعية لا وجود لها. قوانين الإبداع الأدبي فريدة، فهي لا تتغير، وتبقى نفسها لكل شخص في كل مكان. أقصد أن بوسعك أن تحكي قصة تغطي ثلاث ساعات من الحياة الإنسانية أو ثلاثمائة سنة، فتنتهي في الحالين إلى الشيء نفسه. وكل كاتب يبدع شيئا أصيلا بطريقة طبيعية، يبدع في الوقت نفسه وبصورة غريزية التكنيك الملائم له. ومن هنا فكل القوالب والأنواع طبيعية.
شوف، أعتقد أن تاريخ الأدب لم يشهد سوى تغير حاسم واحد: الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة. لوقت طويل ظل الأدب منطوقا، ثم بغتة، مع البابليين والإغريق، جاءت الكتابة. وغيَّر ذلك كل شيء، لأن الشاعر قبل ذلك حينما كان ينشد قصيدته أو يغنيها وله أن يغير فيها مع كل أداء لها حسبما يعنّ له، كان حرا. وفي الوقت نفسه كان عابرا سريع الزوال، إذ كانت قصيدته تتغير مع الانتقال الشفاهي من جيل إلى التالي. ثم لا يكاد النص يكتب حتى يثبت. ويظفر الكاتب بشيء حينما تتم قراءته، لكنه يخسر شيئا أيضا: يخسر الحرية. هذا هو التغير العظيم الذي حدث في تاريخ الأدب.أما التطورات البسيطة من قبيل التقسيم إلى فصول وفقرات، وظهور علامات الترقيم، فتافهة نسبيا، هي محض تفاصيل.
يقولون مثلا إن الأدب المعاصر شديد الدينامية لتأثره بالسينما والتلفزيون، وسرعة الاتصال. لكن العكس هو الصحيح! فلو قارنت نصوص اليونان القديمة بأدب اليوم، للاحظت أن الكلاسيكيات كانت تعمل في نطاق أكبر كثيرا، وترسم على قماشة أوسع كثيرا، ولها بُعدٌ لانهائي أعظم، من الإله إلى الفاني، ومن الفاني إلى الإله، في أقل وقت ممكن! سرعة الحدث، والرؤية الكونية في صفحة ونصف الصفحة من الكتاب الثاني في الإلياذة شيئان يستحيل أن نصادف مثليهما عند كاتب حديث. القصة بسيطة: يفعل أجاممنون فعلا يغضب زيوس فيقرر أن ينزل عليه عقابه. يستدعي رسولا ويأمره أن ينزل إلى الأرض، ويعثر على جنرال يوناني يدعى أجاممنون، ويضع في رأسه حلما زائفا. ويصل الرسول إلى طروادة، ويجد أجاممنون نائما، فيصب في رأسه حلما زائفا مثلما يصب السائل، ثم يقفل راجعا إلى زيوس. وفي الصباح يستدعي أجاممنون ضباطه وينبئهم بأنه رأى حلما جميلا وأن عليهم أن يهاجموا الطرواديين. ويلقى هزيمة ساحقة. كل ذلك في صفحة ونصف لصفحة! ينتقل خلالها القارئ من عقل زيوس إلى عقل أجاممنون، من السماء إلى الأرض. فأي كاتب اليوم قادر على ابتكار مثل ذلك؟ الصواريخ البالستية نفسها أبطأ من هذا.
ومع ذلك، شهدنا أحداثا أدبية كالحداثة، جويس وكافكا …
كافكا كان كلاسيكيا للغاية، وكذلك كان جويس. وعندما أصبح جويس حداثيا بحق في «صحوة فينيجان» (Finnegans Wake)، فشل. أغرق كثيرا ولم يحب أحد الكتاب. حتى نابوكوف، وهو من كبار المعجبين بجويس، قال إنه كتاب تافه. هناك اختراعات وابتكارات غير مقبولة، لأن هناك شريانا لا حصانة لمن يريد قطعه، تماما كما لا يمكن اقتطاع جوانب معينة من الطبيعة البشرية. رجل يقابل امرأة ويقعان في الحب. في هذا الحب تكمن الاحتمالات والتنويعات جميعها، ولكن أحدا لا يمكن أن يتخيل هذه المرأة في جسم كائن آخر. لو أن هناك هذا الفصل التام عن الواقع، فهي النهاية .. يدخل المرء عالم العلامات.

• هل تعني أن هناك استمرارية معينة في الإبداع البشري؟
بالضبط. نحن بشكل ما واقعون في شرك ماضي الإنسانية، لسنا بحاجة إلى نعرف على سبيل المثال سيكولوجيا التماسيح أو الزرافات. قد يكون الماضي عبئا، ولكن لا حيلة لنا في ذلك. أما كل هذا الضجيج المثار حول الابتكارات، والأنواع الأدبية الجديدة، فمضجر. هناك الأدب الحقيقي، وهناك ما عداه.

• تكلمت أيضا عن «الإبداع السلبي»، ما الذي تعنيه بهذا؟

الإبداع السلبي للكاتب هو ذلك ما لا يكتبه. والكاتب يحتاج إلى موهبة عظيمة ليعرف ما الذي لا ينبغي أن يكتبه، وفي وعي الكاتب من الأعمال غير المكتوبة أكثر كثيرا مما فيه من الأعمال المكتوبة. الكاتب يختار. وهذا الاختيار مهم. في المقابل، على المرء أن يحرِّر نفسه من هذه الجثث، ويدفنها، لأنها تمنعه من كتابة ما ينبغي أن يكتبه، تماما كما ينبغي تنظيف الأرض الخربة قبل تهيئة الموقع للبناء.

• يذكرني هذا بـ سيريل كونولي (Cyril Connolly) الذي قال إن «الكتب التي لم أكتبها أفضل كثيرا من الكتب التي أنتجها أصدقائي». ولكن دعنا نتكلم عن بداياتك. عن طفولتك أولا: كنت صغيرا جدا حينما اندلعت الحرب التي تغيَّر بعدها كل شيء في ألبانيا.
طفولتي كانت ثرية، إذ شهدت أحداثا كثيرة. بدأت الحرب وأنا في الخامسة. وكنت أعيش في جينوكاستر، وهي بلدة شديدة الجمال، عبرتها الجيوش الأجنبية فكان عبورها منظرا مستمرا: الإيطاليون واليونان … وتعرضت البلدة لقصف الألمان والإنجليز، وتبادلتها الأيدي. كان ذلك مثيرا للغاية بالنسبة لطفل. لقد كنا نعيش في بيت كبير فيه غرف كثيرة خاوية كنا نلعب فيها، ذلك جزء مهم من طفولتي. كانت عائلتي من جهة أبي عائلة متواضعة، أبي نفسه كان محضرا قضائيا، الرجل الذي يقوم بتوصيل رسائل المحكمة، أما عائلتي من جهة أمي فكانت ثرية بعض الشيء. والمفارقة أن عائلة أمي هي التي كانت شيوعية، بينما كانت عائلة أبي محافظة متزمتة. حياتنا في البيت كانت بسيطة، ولكني كنت أصبح عندما أزور بيت جدي لأمي طفلا من عائلة ثرية. كان أبي ضد النظام الشيوعي، وأمي وأسرتها كانوا مع النظام. كانا لا يتشاجران بسبب ذلك، بل يغيظ أحدهما الآخر بالسخرية والتهكم. وفي المدرسة كنت لا أنتمي إلى أبناء الفقراء المناصرين للشيوعية، أو أبناء الأسر الثرية الفزعة من النظام. ولكنني كنت أعرف كلا الجانبين. وجعلني ذلك مستقلا، متحررا من عقد الطفولة.

• انتقلت بعد الانتهاء من المدرسة إلى العاصمة تيرانا، ودرست الأدب في الجامعة. ثم ذهبت إلى معهد جوركي في موسكو. كان ذلك في عهد خروشوف، الذي شهد شيئا من التحرر، أو ذوبان الجليد بعد التجمد الستاليني الطويل. كيف رأيت المشهد الأدبي في موسكو؟
بعثت إلى معهد جوركي لأصبج كاتبا رسميا من كتَّاب النظام، كان خط إنتاج لتصنيع الكتاب الأجراء الدوجمائيين من مدرسة الواقعية الاشتراكية. كانوا ينفقون ـ في واقع الأمر ـ ثلاث سنين لقتل أي إبداع لديك وأي أصالة. ومن حسن الحظ أنني كنت محصنا بالفعل بما سبق أن قرأت. ففي سن الحادية عشرة كنت قد قرأت ماكبث، فصعقتني صعق البرق، والكلاسيكيات الإغريقية، وبعد ذلك لم يكن ليقوى شيء مهما يكن على روحي. ما كان يحدث في إلسينور (Elsinor) أو بسبب متاريس طروادة كان يبدو لي أكثر واقعية من أي تفاهة ضئيلة في روايات الواقعية الاشتراكية.
كنت في المعهد موضع تقزز من الملقنين، فكانت في ذلك نجاتي. ظللت أقول لنفسي إنني لا يمكن بأي حال أن أفعل ما يعلمونني إياه، بل عكسه على وجه الدقة. كان كتّابهم الرسميين جميعا عبيد الحزب، اللهم إلا استثناءات معدودة مثل قنسطنطين بوستوفسكي (Konstantin Paustovsky) وتشوكوفسكي (Chukovsky) وييفتوشنكو (Yevtushenko).
خلال إقامتي في المعهد كتبت رواية بعنوان «بلدة بلا دعاية». ولما رجعت إلى ألبانيا كنت متخوفا من عرضها على أحد. نشرت مجتزأ منها في مجلة بعنوان «يوم في المقهى» فمنعتْ على الفور. لم يعد ثمة من مجال لنشر الكتاب. فرئيس منظمة الشباب الشيوعي الذي أوصى بنشره اتهم لاحقا باللبرالية وحكم عليه بالسجن لخمس عشرة سنة. من حسن الحظ أن هذا المجتزأ موجود، وإلا ما كان ليصدق أحد اليوم أنني كتبت الرواية. كانت قصة نصابين أدبيين يريدان تزوير نص ليثبتا إمكانية تكييفه مع الماركسية، فيكون في ذلك دعم لهما في مسيرتيهما المهنيتين. لمست الرواية المشكلة الجذرية في قلب الثقافة الاشتراكية: التزوير. سوف تصدر هذه الرواية في المجلد السادس من أعمالي الكاملة الذي يعده الناشرون الفرنسيون. ولن تتغير كلمة فيها.

•ولكنك في مراهقتك كنت منجذبا إلى الشيوعية، أليس كذلك؟

كان فيها جانبها المثالي، كنت ترى أن جوانب معينة في الشيوعية قد تكون جيدة من حيث النظرية، ولكنك كنت تراها رهيبة عند التطبيق. ثم سرعان ما أدركت أن الصرح كله قمعي كارثي.
(يتبع)
نشر الحوار في باريس رفيو، عدد 147، صيف 1998، وهو رقم 153 في سلسلة حوارات «فن القص».
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

الكتابة الابداعية كما أراها: 23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف

الكتابة الابداعية كما أراها:  23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف*  يحيى القيسي   بدأتُ الكتابة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *