نانسي كريكوريان: رحلة أرمنية.. رحلة صعبة


*إليز أغازريان



علاقة المرأة بالذاكرة، ومواجهتها للقوى العسكرية وتفاصيل الحياة اليومية البسيطة، هي من بين الجوانب التي تتناولها الكاتبة الأرمنية الأميركية، نانسي كريكوريان، في رواياتها وكتاباتها. لا تحصر نفسها في تلك الزاوية، بل تخرج من قوالب الكتابة المستريحة، إلى ميدان الفعل في إطار الحركة النسوية المعارضة في الولايات المتحدة، ومناصرة القضايا الإنسانية والبيئية، والتضامن مع الشعبين الفلسطيني والكردي. عن الذكريات الأولى، تروي كريكوريان، في حديثها مع “العربي الجديد”، أنها نشأت في وترتاون ماساتشوسيتس في بوسطن؛ حيث تركّزت جالية أرمنية كبيرة نسبياً هناك، مكوّنة من مهاجرين وعمّال ولاجئين من الدولة العثمانية سابقاً. مثل عدة أشخاص من الجيل الثالث بعد المأساة الأرمنية، كان حضور جدّتها (الناجية من المذبحة في بدايات القرن العشرين) حلقة وصل مع تاريخ غامض في مكان آخر. الصراع بين جدّتها الأرمنية المتدينة، ووالدتها الكندية-الفرنسية، ساهم في بلورة نظرة كريكوريان الجدلية إلى العلاقات وشؤون الهوية، الظاهرة في بعض أعمالها. على غرار عدة مراهقات أرمنيات، راودها في مرحلة ما شعورٌ بالضغط الاجتماعي من الجالية إلى حد ما، ولكن مع انتقالها إلى الدراسة في جامعة كولومبيا في نيويورك في ما بعد، وتطوُّر وعيها السياسي، ووفاة جدتها، أخذت تداعب بعض ذكريات الماضي، وتتطوّر هويّتها الأرمنية، التي أصبحت، بالنسبة إليها، نوعاً من النضال الثوري من أجل المساواة والكرامة الإنسانية. بدأت بعد ذلك بالتنقيب في تجارب الناجين الأرمن، وعلاقتهم بالمكان. نلمس هذا الحس في قصيدة نثرية عام 2015 بعنوان “إليك يا برج حمود”.
في روايتها “زابيل” (1997)، المستوحاة من تاريخ جدّتها، تروي كريكوريان حكاية امرأة أرمنية نجت من الإبادة، وانتقلت من عالم الدولة العثمانية إلى الولايات المتحدة. تقول، في حديثها، إن جدتها كانت تتذكّر بعض التفاصيل الصغيرة، مثل كيف كان والدها يحملها في أيام الثلج، وبائع الفول السوداني. لعل الغربة (والعنف والمرض) هي أكبر اختبار لقوة المرأة. يسافرن أحياناً إلى لحظات من الماضي كاستراحة مؤقتة بين جبهات القتال. الحضور النفسي في عالمين أو أكثر يستنزفهن أحياناً، أو يولّد اغتراباً ما، خصوصاً مع تقدّم أبنائهنّ في السن. في المقابل، تحاول بعض النساء طيّ صفحات المكان السابق وعدم التفكير فيه، خصوصاً إذا كان الوطن، الذي عرفنه يوماً، قد تغيّرت ملامحه أو تعذّرت العودة إليه. تظهر ثيمة الإبادة أيضاً عند كاتبات أرمنيات أخريات تناولن موضوع المأساة الأرمنية، مثل رواية “فيضان الفرات” (1994)، للكاتبة كارول أدغاريان، التي تتناول حكاية أرمنيات أميركيات عبر ثلاثة أجيال، وميشلين أهارونيان في روايتها “ثلاث تفاحات من السماء” (2001). تُحدّثنا كريكوريان أن جدّتها كانت تتفادى الحديث عن المأساة مع أنها عاشت تفاصيلها، وعبرت صحراء دير الزور سيراً على الأقدام في أثناء ترحيل الأرمن. تقول: “شاع ذلك عند عدة ناجين من الإبادة. أجل، جدتي أيضاً كانت تبكي أحياناً لوحدها في غرفتها. أتساءل: هل كانوا يحاولون حماية الجيل الجديد من الذكريات المريعة ولا يرغبون في زرع بذور الحقد؟ تبادر إلى ذهني يوماً ما أنه ربما من يحيا في قلب التروما (الصدمة)، يركّز على الخطوة التالية، وينشغل بمواصلة الدرب، وتحسين ظروف الاندماج في المكان الجديد”. وتضيف “بعض الناجين حاصرهم غضب ما، واستمر خوف بعضهم من الأتراك أو غضبهم عليهم، فضلاً عن توتر ما بعد الصدمة وغيرها من الردود النفسية – الاجتماعية للفقدان. في موازاة ذلك، من يعاني من واقع الفقدان والتهجير، يصبح أكثر وعياً بالتعقيدات والمساحات الرمادية، والعجز عن التعبير. ربما يتذكّرون أيضاً، بنوع من النوستالجيا، اللحظات الإيجابية مع الجاني قبل المذابح. الأجيال اللاحقة أسهل عليها نوعاً ما الوقوف على أطلال الماضي بعد سنوات، وعيش الصدمة الجماعية المكبوتة، وما طمره الأجداد في سريرة أنفسهم. وبعيداً أو قريباً عن هذه الحكاية: هل سألتم الجدران عن نحيب آلاف النساء حول العالم؟ كيف يفلت الجاني بعد أن يلوم الضحية؟”.
الحركات الثورية الأرمنية كانت موضوعاً لرواية كريكوريان التالية “أحلام الخبز والنار” (2003)، التي تتناول حكاية امرأة تتعرّف على “حركة أصالة” (الجيش السري الأرمني لتحرير أرمينيا)، الأمر الذي عرّض نانسي إلى النقد وخلق جدلاً في الأوساط الأميركية حول موضوع الكفاح المسلّح.
في الواقع، لا تحصر كريكوريان نفسها في مجال الحديث كضحية فقط، أو الكليشيهات العامة، وإنما تنظر إلى الأبعاد المتنوعة لمشاعر المرأة الأرمنية في علاقتها بالسياسة، والحراك، والفعل الثوري.
“هذا العالم مكوّن من الظلام والنور يا ابنتي، في فترات الظلام عليكِ أن تؤمني أن الشمس ستشرق من جديد، حتى لو لم يتسنّ لكِ رؤيتها”، هذا ما يرِدُ في روايتها الثالثة (2013) المستلهمة من سيرة الشاعر والمناضل الشيوعي – الأرمني ميساك مانوشيان، الذي انتقل من دار أيتام في لبنان إلى فرنسا، وأصبح عضواً ناشطاً في صفوف الحركة الشيوعية الفرنسية المناوئة للنازية، وتروي حكاية امرأة أرمنية تتحدّى النازية في تلك الفترة، وذلك بعد فترة من البحث والتنقيب حول تاريخ تلك الفترة.
عن تجربتها مع الكتابة، تروي نانسي كريكوريان أنها تميل إلى كتابة قصيدة النثر ذات الطابع السردي، ثم انتقلت إلى كتابة الرواية. تخصّصت في الآداب والفنون في جامعة كولومبيا، وعملت أستاذة في جامعات أميركية. يشاركها هذه الاهتمامات زوجها، كاتب السيناريو جيمس شاموس، الذي أنتج أفلاماً حازت جوائز عالمية، مثل جائزة “كان” لفيلم “العاصفة الثلجية”، وجائزة “غولدن غلوب” لفيلم “جبل بروكباك”.
تتذكّر كريكوريان أن من اللحظات المؤثرة في حياتها زيارتها لفلسطين في إطار مشاركتها في فعاليات احتفالية فلسطين للأدب، وإعطائها مساقاً قصيراً في جامعة بيرزيت الفلسطينية. في معرض حديثها عن حراكها المدني، تصف نشاطها في حركة Code Pink “نساء من أجل السلام” اليسارية المعارضة للتسلح والغزو الأميركي في أفغانستان والعراق، والناشطة من أجل رفع الحصار عن غزة. كذلك تولّت نانسي تنسيق حملة مقاطعة شركة “أهافا” الإسرائيلية لمستحضرات التجميل في الولايات المتحدة.
عشية مئوية المأساة الأرمنية العام الماضي، كانت نانسي في قلب الحدث الفعلي في تركيا، في موعد مع القرى الأرمنية المدمّرة، حيث شاركت في الفعاليات الرمزية، التي تم تنظيمها من قبل بعض الفئات اليسارية هناك، وشعرت بتقارب وجداني مع المطالب العادلة للأكراد وحراكهم.
في الختام، أضافت نانسي جملة معبّرة من تولستوي: “في كل التاريخ لا توجد حرب لم تجيّرها الحكومات. الحكومات وحدها تعلن شرارة الحرب، بمعزل عن مصالح الشعب الذي تكون الحرب بالنسبة له معاناة في كل الأحوال، حتى لو كانت حرباً مكللة بالنجاح”.
_______
ضوء من فلسطين
لدى سؤالها إن كانت تواجه ضغطاً في الولايات المتحدة نتيجة لنشاطها من أجل فلسطين ومقاطعة إسرائيل ومنتجات مستوطناتها، أكدت كريكوريان أن الحراك يتسع ويصبح ملموساً في الأوساط اليسارية اليهودية في أميركا، التي باتت واعية بالقضية وبدأت تتكلّم أخيراً. ورغم مواجهتها بعض المتاعب، إلا أنها تؤكد أن نسبة كبيرة من الناشطين في الحراك المدني الأميركي باتوا أكثر اهتماماً بالقضية والحقوق الفلسطينية.
_____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *