ثقافة التميّز الشخصي


*عادل العامل


يتميز بعض الأفراد، بقصدٍ أو بدونه، بحالةٍ مظهرية مختلفة إلى حدٍ ما عن غيرهم من الناس. وهي حالة ربما تنجم عن ضرورةٍ ما وتصبح دائمة بحكم العادة، أو أنها تلقى قبولاً من صاحبها لسببٍ ما يتعلق بالتفرّد، أو الشهرة، أو الإرضاء السايكولوجي لنزعةٍ أو عقدةٍ شخصية معينة. فإذا أخذنا مثالاً على ذلك “منشّة الذباب” التي لم تكن تفارق يد الرئيس الكيني الأسبق جومو كينياتا ( 1894 ــ 1978 )، فإنها ولا بد كانت شائعة الاستعمال في كينيا أو في مناطق منها يكثر فيها ربما الذباب أو غيره من الحشرات، ثم أصبحت لدى كينياتا بعد طول استعمال رمزاً وطنياً في كفاحه ضد الاستعمار البريطاني! ومثل ذلك، لأسبابٍ أو بطريقة أخرى، سيجار ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في الأربعينات وأوائل الخمسينات، وعصا الرئيس السوداني عمر البشير الطويلة التي يهشّ بها على غنمٍ ما، ولحى الثوار في أميركا اللاتينية، وشارب ستالين الكث، وشوارب محبِّيه من شيوعيّي الخمسينات، والمعجبين بشخصيته الاستبدادية من الطغاة كصدّام حسين!
ويبدو أن للشارب مكانته المميزة في هذا الإطار. فقد استخدمه هتلر كبصمة خاصة وانفرد به حتى أن الواحد لا يكاد يجد نازياً معروفاً يتخذ مثل ذلك الشارب الخاص بالطاغية. وليس ذلك بالغريب على هذا النوع من الحكام. فقد كان صدام حسين، مثلاً، يتضايق من أن يكون هناك مقلّد أو مثيل له، إلا للأسباب الأمنية المعروفة، حتى أنه استدعى أحد القياديين في حزب البعث من البصرة، ضمن حملة تصفية 1979، وأبدى له انزعاجه من تسمية الناس له هناك بصدّام البصرة، كما يقول إحسان السامرائي ( صحيفة الشرق الأوسط )! أما شارب الفنان الإسباني سلفادور دالي المعقوف الطرفين للأعلى، فأمرٌ مصنوع للشهرة بامتياز، هو وأشياء أخرى كان دالي يُشهر نفسه بها متعمداً كزهرة الغرنوقي التي كان يضعها خلف أذنه، و صدرياته المطرزة، وعطره الشاذ المعمول من روث الحيوانات!
وللثياب وما شاكلها دور بارز هنا. وقد اشتُهر العديد من الأدباء والفنانين وحتى بسطاء الناس بشيءٍ من ذلك. ولابد أن بعض البغداديين من جيل الخمسينات فصاعداً ما زالوا يتذكرون حسّون الأمريكي، الذي “كان يشاهد عصراً في شارع السعدون وهو يمتطي دراجة سباق ويرتدي بنطلون شورت وقميصاً مزركشاً وخوذة واقية وجوارب مقلَّمة أشبه بجوارب لاعبي كرة القدم أيام زمان ! أو وهو يتمشى عصراً مع كلبه مرتدياً بنطلون جينز وقبعة كاوبوي وحذاءه المشهور المعقوف من الأمام .. و يظهر أحياناً مرتديا بنطلوناً فاتح اللون وسترة غامقة وحذاءً ” قبَغلي ” مع جوارب صفراء اللون !”
كما أن أحداً ما عاد يتذكر مطربة الشرق أم كلثوم إلّا و بيدها منديلها العتيد الذي كان كما يبدو وكأنه يحافظ لها على توازنها الإيقاعي مع ألحان الفرقة الموسيقية المصاحبة لها وكما لو كان مايسترو عالمها الخاص! مثلما أن أحداً لم يعد يتذكر الشاعر الكبير الجواهري من دون طاقيته الغامضة غموض ابتسامة المونا ليزا، و لا الشاعر المصري الشهير أحمد رامي، عاشق “الست” وكاتب أجمل أغانيها، إلّا وهو يرمي بمعطفه العتيق المرافق له إلى أعلى ويتلقّفه، في حفل مغني المقامات العراقي الكبير محمد القبّانجي في الستينات، كلما اهتزّ طرباً من شدة حلاوة الغناء!
ولا تقنصر هذه الحالة من التميّز المظهري على شخصيات من عصرنا هذا، بطبيعة الحال، بل هناك الكثير من هذا في عصور مختلفة بما يتفق والوضع الاجتماعي في حينه وطبيعة الفرد وثقافته. فقد كان الشاعر الأموي المقنَّع الكندي، على سبيل المثال، يضع لثاماً على وجهه، بدافع الخوف من العين لفرط جماله وبهاء حسنه، وقيل إن المقنَّع لغةً هو اللابس لسلاحه، وكلُّ من غطى رأسه فهو مقنَّع.
وكانت للحكم بن عبدل الأسدي، الشاعر، عصا لا تفارقه، وكان أعرجَ، فترك الوقوف بأبواب الملوك، وراح يكتبُ على عصاه حاجته ويبعث بها مع رُسُله، فلا يُحبس له رسول ولا تؤخر له حاجة، لكونه هجّاءً خبيث اللسان! وقد أثار ذلك التمييز حفيظة الشعراء الآخرين الذين كانوا ينتظرون حتى تُقضى حاجة ابن عبدل، ومنهم يحيى بن نوفل، الذي قال في ذلك :
[ عَصا حكَمٍ في الدارِ أولُ داخلٍ
ونحنُ على الأبواب نُقصى ونُحجبُ
وكانت عصا موسى لفرعونَ آيةً
وهذي لَعمرُ اللهِ أدهى وأعجبُ
تُطاع فلا تُعصى ويُحذرُ سخطُها
ويُرغبُ في المرضاةِ منها وتُرهبُ ]!
وعُرف أبو نواس ، الشاعر العباسي الشهير، بهذا الاسم لذؤابة كانت في رأسه. والنواس: الذؤابة. ومنه سمي ذا نواس. وقيل: سمي ذا نواس لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه، أي تتحركان عليه. وقال محمد بن يحيى المقرئ: سألت أبا نواس عن كنيته، وهل نواس بفتح النون، أو بضمها؟ فقال: بضم النون، وكان سبب كنيتي أن رجلاً من جيراني بالبصرة دعا إخواناً له، فأبطأ عليه واحد منهم، فخرج من بابه يطلب من يبعثه إليه، يستحثه. فوجدني ألعب مع الصبيان، وكانت لي ذؤابة في وسط رأسي، فصاح بي: إمض إلى فلان فجئني به. فمضيت أعدو، وذؤابتي تتحرك. فلما جئت بالرجل، قال: أحسنت يا أبا نواس. فشاعت هذه الكنية!
أما أبو العِبَر الهاشمي، أحد شعراء العصر العباسي، فحكايته حكاية. فقد كان شاعراً صالحاً في أحواله، لكنه وجد أن ذلك لا يحقق له ما كان يطمح إليه من شهرة ومال، فاتجه إلى الحمق في شعره وفي سلوكه. فكانَ ، على سبيل المثال ، يتصيد عارياً من كل شيء، و بكل ما يخطر و ما لا يخطر في البال من وسائل الصيد، وبكل جوارحه ، كما يقول هو. أو يستخدم الأشياء عكس استخداماتها التي خُلقت لها ، كأن يضع خفَّاً ( نعالاً) على رأسه بدل القلنسوة ، ويضع قلنسوتين في رجليه بدلاً من الخُفِّ. و كان يقول تفسيراً لسلوكه الشاذ هذا :
[ مَالي و لِلعَقلِ لا اسْتَصْحَبْتَهُ أبداً
فالعقلُ يُنزلُ دارَ الذُّلِّ و الهـونِ
لقد تعاقلتُ دهراً لا أرى فَرَجا
و مذْ تحامَقْتُ صارَ الناسُ يُدْنوني ]!
______
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *