أنت تقرأها وهي تقرأك: ما القصيدة؟



*مارك ياكيتش/ ترجمة: أحمد شافعي


حينما كنت أسأل طلبتي ما القصيدة كنت أتلقى إجابات من عينة أنها «رسم بالكلمات» أو «وسيط التعبير عن الذات» أو «أغنية تصدح بالقوافي والجمال»، ولم يحدث يوما أن أرضاني أي من هذه الإجابات، أو أرضى طلبتي، فتوقفت لفترة عن طرح السؤال.
ثم حدث مرة أن طلبت من طلبتي أن يحضروا معهم إلى الفصل شيئا له عندهم معنى شخصي. فلما وضعوا أشياءهم على مناضدهم كلَّفتهم بثلاث: أن يكتبوا فقرة عن سرِّ إتيانهم بهذا الشيء، وفقرة يصفون بها الشيء وصفا موضوعيا كما قد يفعل عالم مثلا، وفقرة بضمير المتكلم من وجهة نظر الشيء نفسه. كان التكليفان الأول والثاني بمثابة الإحماء، أما التكليف الثالث فكتبت فوقه «قصيدة».
إليكم ما كتب أحدهم:
قصيدة
ربما أبدو غريبا أو مخيفا، لكنني في حقيقة الأمر أداة تساعد الناس على التنفس. في الظروف الطبيعية لا تحتاجني الأجسام. أعني أنني لا أُستخدم إلا في حالات الطوارئ، وحتى في هذه الحالات، لا يكون استخدامي إلا لوقت محدود. لو أن الحظ حليفك فلن تستخدمني أبدا. وأرجع فأقول إنني أرى لحظة في المستقبل يحملني فيها الجميع أينما يكونون.
الشيء الذي جاء به إلى الفصل؟ قناع غاز. لم يكن مغزى ذلك التدريب يقتصر على إظهار طواعية اللغة أو قيمة اللعب في الكتابة ولكن مغزاه أيضا إظهار القصيدة بوصفها شيئا غريبا يعمل خلافا لما يعمله أي شيء آخر في العالم.
أتصوَّر أن أغلبنا يعرف أن القصائد غريبة منذ أن كنا صغارا ننام على أغنية عن سرير معلق في شجرة أو بعدما كبرنا قليلا وبدأنا نتعلم صلاة «أبانا الذي في السماء»، وسرعان ما ثارت الأسئلة: أي أحمق وضع السرير في الشجرة؟ وما الذي يفعله بابا في السماء؟ لكننا مضينا فاعتدنا تلك الغرابة، ثم حدث لاحقا، في مرحلة ما في المدرسة أن سألنا أو وجدنا ما حملنا على السؤال: ما القصيدة؟
في المدرسة الثانوية على سبيل المثال، أعطاني مدرس اللغة الإنجليزية قصيدة ماثيو أرنولد «شاطئ دوفر» Dover Beach وقال إن عليَّ أن أكتب مقالة عن معناها. فاختلط عليَّ الحابل بالنابل، وباتت القصيدة موضع كراهيتي، فقد بدا كما لو أنها تتعمد أن تكون بلا معنى. وسرعان ما بدت لي كلُّ قصيدة سببا للضيق، بقعة من الكلمات، لغز سخيف يعترض طريق الفهم الحقيقي والحس الحقيقي أيضا.
ما لم تكن شاعرا أو كاتبا، فالأرجح أن أسر القصيدة لك ظل يقلُّ ويقلُّ بمرور السنوات، ولعلك ترى بين الحين والآخر في مجلة أو على الإنترنت قصيدة، تراها بحدها الأيسر [الأيمن طبعا في الإنجليزية] غير المتساوي، وأبياتها الموزعة اعتباطا، فتعلن عن نفسها بما ليست إياه: ليست النثر الذي يجري من اليمين إلى اليسار [العكس في الأصل] حتى هامش الصفحة. والقصيدة تتحداك عمليا أن تتجاوز النظر إلى القراءة: أنا مختلفة، أنا خاصة، أنا الآخر، تجاهلني ولكن على مسؤوليتك.
فتقرؤها، لتحبطك في أكثر الحالات بسقمها، وبإمكانية إعادة صياغتها بسهولة شديدة في عبارة وجيزة فيقال مثلا إن «هذا أيضا سوف يمرّ» أو أن «التقدم في السن بشع» وكيف أنها جوهريًّا لا تختلف في مضمونها عن أغلب النثر المحيط بها. أو تحبطك لأنها تحيِّر الفهم الأوليّ المباشر. وهي مستعصية على الفهم لتشظي تركيبها وقواعدها اللغوية، أو غامضة في إحالاتها. ولكنك في كل الحالات تربِّت على ظهرك لمجرد المحاولة.
كم منا يعتقد أن لا نفع للشعر؟ كم منا لا يبالي بأن يسأل «ألا نفع في الشعر؟»
بصورة نسبية، نادرا للغاية ما تؤثر القصيدة في القارئ، ماديًّا أو عاطفيًّا. هناك وسائط أخرى أفضل منها في دفعنا إلى البكاء، كالتلفزيون والأفلام. ولو أننا نريد الأخبار، فعندنا المقالة نقرأها على الإنترنت أو تويتر. ولو نريد شيئا بين الدموع والأخبار، بوسعنا أن نشخص إلى الأطفال وهم يطرحون سؤالا يبدو كالبيان: «لماذا يشرب الكبار كل هذا القدر من البيرة؟»
لكن بصدق، أليست القصيدة موضع المشاعر العميقة، و/‏‏‏‏أو الصور المدهشة، و/‏‏‏‏أو الغنائية الجميلة، و/‏‏‏‏أو التأملات الرهيفة و/‏‏‏‏أو الطرافة المريرة؟ أفترض أنها كذلك. ولكنني أرجع فأقول إن فنونا وتقنيات أخرى تبدو أفضل في هذه المهام، فالروايات تمنحنا عوالم واقعية أو خيالية نرتادها أو نهرب إليها، والتويتات [التغريدات] تمدُّنا بإبجرامات مقبضة، والرسم والتصميم يقدمان لأعيننا متعتها، والموسيقى .. ليكن، لنواجه الأمر، الشعر لم يستطع يوما أن ينافس هذا المزيج الجليل من الكلمات والآلات والنغم.
هناك على أقل تقدير منفعة بسيطة يمكن أن تجسِّدها القصيدة: الغموض. وليس الغموض ذلك الذي تريد المدرسة والمجتمع غرسه في أذهاننا. فلا أحد يريد إجابة غامضة لسؤال عن الجانب الذي ينبغي أن يلزمه بسيارته في الطريق، أو عما لو أنه ينبغي أم لا ينبغي أن يتخفف الطيارون من حقائبهم قبل الإقلاع. أما وقد قلت هذا، أعني أما وقد قلت إن حياتنا من يوم ليوم ـ خلافا لقراءتنا من جملة إلى جملة ـ تحفل بالغموض: هل تحبني بما يكفي لكي نتزوج؟ هل أنام معه مرة أخرى قبل أن أهجره إلى الأبد؟
ولكن هذه الملاحظات لم تقل لنا بعد الشيء الكثير عن ماهية القصيدة. جربوا البحث. لو بحثتم في ويكيبديا عن «poem» [قصيدة] لوجهتكم إلى «poetry» [الشعر]: «لون من الفن الأدبي يستخدم السمات الاستطيقية والإيقاعية، مثل الاستطيقا الصوتية phonoaesthetics والرمزية الصوتية. وبنبرة مدرس شاطر للغة الإنجليزية: لكنها تتنكر للمعنى الأصلي للكلمة. فكلمة «Poem» [أي: قصيدة] أصلها كلمة poíēma اليونانية ومعناها «الشيء المصنوع»، والشاعر كان يُعرف في الأزمنة البعيدة بـ «صانع الأشياء». الآن لو أن القصيدة شيء مصنوع، فماذا يكون؟
أسمع شعراء يعرِّفون القصيدة تعريفات عضوية: حيوانات برية، طبيعية، جامحة، مباغتة، فطرية. ولكن الاستعارة سرعان ما تتهاوى. فهذه الحيوانات تعيش حرة، غير مرتبطة مطلقا بالأسماء التي يخلعها عليها البشر. وبمصطلحات صناعية يعرِّف وليم كارلوس وليمز القصائد بأنها «آلات صغيرة»، فهو يراها آلية، دقيقة، نتاج هندسة بشرية. ولكن الاستعارة هنا تنكسر أيضا بسرعة. لأن من الممكن التخلي عن قطعة بالية في سيارة وإحلال قطعة مطابقة لها تقريبا فتعمل عمل سابقتها. بينما تغيير كلمة في القصيدة ولو بمرادف لها كفيل بتغيير عمل القصيدة كله.
إن الثمرة الحقيقية من محاولة تعريف القصيدة توسلا بالمقارنة ـ مع حيوان أو آلة أو سواهما مما تشاء ـ لا تكمن في المقارنة ذاتها بل في الجدال على المقارنة. فرؤيتك للقصيدة آلة أو حيوانا بريًّا كفيلة بتغيير الآلة أو الحيوان البري في ذهنك. والقصيدة تعين عقلك على التلاعب بأنماط الفكر المطروقة لديك، بل إن بوسعها أن تعدِّل مسارات هذه الأنماط إذ تجعلنا نرى المألوف رؤية جديدة.
ومثال ذلك الشمس. إذ يمكن تعريفها معجميًّا بوصفها «ذلك الجسمَ السماويَّ المضيء الذي تدور حوله الأرض وكواكب أخرى». ولكن من الممكن وصفها أيضا عبر حدس طفل في الرابعة من عمره ينظر من شباك سيارة منطلقة في الشتاء: «ماما، أليست الشمس سخانا فضائيا؟». ومثال آخر: العسل. هو في المعجم «سائل حلو دبق أصفر مائل للبني ينتجه النحل من رحيق الأزهار». ولكنه بالنسبة لكل الأمهات «بصاق النحلة قاتل الأطفال».
ليست القصيدة، بما هي منتج عقلي، بعيدة المنال، لا سيما حين نراعي المدى الذي تصل إليه كلمات أغنية في التصاقها بالأذهان على شكل «دودة أذنية earworm» تعلق بالمخ حسب ما يقول لنا علماء الأعصاب. إن لامتزاج الكلمات والأنغام فعالية تاريخية ترجع إلى أيام الأناشيد المدرسية وبوسعها أن تصرف اهتمامنا إلى الميتالجية metalanguage [كما في أغنية الأطفال الشهيرة]: «قد تكسر العصيان والصخور عظمي، أما الكلمات فلا يمكن أن تؤذيني». هذا البيت نفسه قد يؤذي، إذ ربما يجدِّد فينا ذكرى الألقاب التي كنا نطلقها صغارا على بعضنا البعض.
ولكن متى تكون الكلمات أشبه بالعصي والحجارة؟
تأملوا قصيدة كامنة لكم في صفحات مجلة ذي نيويوركر. هي هناك شاخصة إلى وجوهكم، فهل يقرأها الواحد منكم مثلما تقرؤه؟ هي لا تفعل، في حدود الورق والحبر، أكثر مما يفعله النثر المحيط بها، أما من حيث الإدراك، فهي تجذب عينك وتضع القصيدة في وضع سام لا سبيل إلى تجاهله على الإطلاق. أوه، انظر، إنها قطعة صغيرة من الكلمات! يا لضياع الوقت!
لكن هناك أيضا الفراغ الأبيض المحيط بها. كم بلغت تكلفة تلك المساحة الفارغة؟ لقد تخلَّت المجلة عن مساحة ثمينة لطبع القصيدة بدلا من طبع مقالة أطول أو إعلان. لم يشتر أحد هذه النسخة من ذي نيويوركر من أجل القصيدة، اللهم إلا الشاعر الذي كتبها. القصيدة نص ـ نتاج كتابة وإعادة كتابة ـ لكنها خلافا للمقالة أو القصص أو الروايات، لا تصبح مطلقا شيئا مصنوعا بغرض أن يكون سلعة.
إن بوسع رواية جديدة أو سيرة ذاتية أو حتى مجموعة قصص قصيرة أن تدرَّ الكثير من النقد. ولو أن هذه الإمكانية لا تتحقق بطبيعة الحال في أكثر الحالات، أما كتاب القصائد الجديد الذي يدر على مؤلفه أكثر من مقدَّم نشر يبلغ ألف دولار فأمر شديد الندرة. ومسؤولو الدعاية في دور النشر ـ حتى الكبرى من بينها ـ يؤدون عملهم، فيكتبون بيانات صحفية ويبعثون نسخا دعائية للصحفيين، ولكن أحدا منهم لا يقول إنه يتوقع للكتاب أن يبيع من النسخ ما يكفي حتى لتغطية تكاليف طباعته. وكتاب الشعر ـ خلافا لأي كتاب آخر ـ لا يطرح نفسه مطلقا بوصفه شيئا موجَّها للسوق، بل بوصفه شيئا مقصودا لذاته.
ذروة هذه «المقصودية للذات» تتمثَّل في القصائد التي تضع «صنعتها» في وجهك، ومن ذلك القصائد البصرية، والقصائد الخرسانية/‏‏‏‏المادية concrete poems، والقصائد الشكلية ومنها قصيدة «جناحا الفصح» لجورج هربرت التي تعد نموذجا معياريا من القرن السابع عشر:
يبيِّن جناحا القصيدة الطائريان أو الملائكيان مضمون القصيدة نفسها أو هما يصاحبانه، ومضمون القصيدة هو رغبة الناطق بها في بلوغ السماء وصولا إلى الرب. يمثِّل شكل القصيدة ما يمكن أن نطلق عليه علاوة صغيرة، أو هبة تضاف إلى المعنى، كما تجعلنا نلتفت إلى القصيدة بوصفها أكثر من مجرد بقعة غير متساوية الأطراف، فالبقعة نفسها معنى.
في القرن التاسع عشر، دفع الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه هذه الفكرة، أي فكرة الصفحة بوصفها لوحة، إلى مدى أبعد في قصيدته Un Coup de Dés (أو «رمية نرد»). في هذه القصيدة/‏‏‏‏الكتاب لا يتلاعب الشاعر فقط بالحرف الأسود، وبأشكال الفونطات، والفراغ الأبيض، بل يستغل حدود الصفحة نفسها، بل يستغل حيز ما بين الصفحتين، أو «المزراب» [بلغة الطباعة في الإنجليزية] بوصفه الحيز الذي يرمى فيه «النرد» (أي: الكلمات).
ولأن القصيدة تتيح للقارئ أن يقيم روابط عديدة بين العبارات والأبيات، فيقرأ بالعرض، أو من أعلى لأسفل، مازجا بين أفناط مختلفة أو متبعا أحدها فقط، فإن بعض الباحثين يعتبرون «رمية نرد» بشيرا بالهايبر تيكست hypertext. إن لديك كقارئ قدرا معينا من «حرية» الإبحار في القصيدة. وشرط هذه الحرية هو المزيد من العمل، والمزيد من الدافع الذاتي، ودرجة معينة من الارتباك.
وذلك ما يردُّنا مرة أخرى إلى مأزق الشعر المعاصر: فالقصيدة شديدة الغرابة، شديدة الاختلاف، هي قصيدة يشعر الكثيرون أن من الممكن تجاهلها. وإليكم قصيدة لآرام سارويان ترجع إلى ستينيات القرن العشرين:
نوأور
نعم، هذه هي القصيدة كاملة. وأعرف، تبدو مستغلقة. حينما كتبتها على السبورة وطلبت من طلبتي أن يتأملوها، قال أحدهم «ولكن كيف تنطقها أصلا؟» فلما حاولنا، بدأنا نفهم محتوى القصيدة. تبدو كلمة «light» مضمرة، ولكن ماذا عن الخطأ الطباعي الظاهر؟ وبعد طول صمت قال طالب آخر «هذا هو المغزى، ففي كلمة light المعتادة لا ننطق الـ gh، الـ gh صامتة، ويجعلنا ازدواج الـ gh أكثر إدراكا لتلك الحقيقة». القصيدة تلفت أنظارنا إلى نظام اللغة ذاته، إلى ترابط الحروف، والعلاقة بين الصوت والمعنى. وإذا بالمألوف ـ أي كلمة بسيطة مثل light ـ يتجدَّد ولو لوهلة عابرة. وعلى حد قول سارويان نفسه: «صلب القصيدة أن تحاول جعل غير القابل للوصف، وهو النور، الذي لا نعرفه إلا بأنه يضيء غيره، إلى شيء [متعيّن]».
حينما نصادف قصيدة، أي قصيدة، ينبغي أن يكون أول ما نفعله هو أن لا ننحاز لها بوصفها شيئا من الجمال، بل بوصفها شيئا وحسب. وعلماء اللغة والمنظِّرون يقولون لنا إن اللغة في الأصل استعارة. فليست لكلمة «تفاحة» أًي علاقة بالشيء الأحمر القابل للأكل الموجود في هذه اللحظة أمامي على المنضدة. وبسبب وضعية القصيدة الخاصة ـ سواء أكانت في كتاب أم في مجلة، محاطة بكل هذا البياض ومضغوطة به ـ تبقى لها القدرة على الإدهاش، ولو لوهلة خارجة عن كل الضجيج الواقعي والبصري، والسمعي والرقمي، المحتوي لها ولنا.
قد يذهب المرء إلى القول بأن الصفحة مجرد استعارة لكل ما لا يمكن وضعه فيها، وأن القصيدة ليست إلا بديل إحساسٍ أو حدثٍ معيش ـ راق لنا ذلك أم ساءنا. ويبقى أن ثمة تقليدا يهوديا ينصح الآباء أن يحببوا أبناءهم في التلمود، لا بقراءته عليهم، بل بجعلهم يلعقون العسل من على صفحاته، وتلك في ما يبدو لي طريقة مثالية لمعرفة بصاق النحل والقصيدة سواء بسواء.
___________
عن ذي أتلنتيك/ جريدة عُمان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *