سهير المصادفة: شخوص رواياتي متورطة في الواقع



حوار: سهى زكي


خاص ( ثقافات )
• تجنح أعمالك لكشف الزيف والكذب والادعاء لدى النفسية العربية ـ هل نستطيع أن نطلق على هذا مشروعك الإبداعي؟
ـــ نعم، وأيضًا محاصرة أحلامه التي تقوضت عبر تاريخ دموي وسلطوي، وآماله التي من الممكن أن يحققها بتحمل تبعات تغييره إلى الأفضل. شخوص رواياتي كلها متورطة في الواقع بشكل كبير.. ثمة مَن يريد تغييره إلى الأفضل للانطلاق إلى المستقبل، وثمة مَن يمتلك مقدرات الناس وينكل بهم ليلاً ونهارًا، وثمة مَن هم ملح الأرض من عامة الناس يصبرون أبد الدهر وهم محرومون من أبسط حقوقهم الحياتية، وهم حتى لا يعرفون ما الذي حُرموا منه تحديدًا؛ حيث تم تجهيلهم وإفقارهم وسرقة مقدراتهم. في بياض ساخن كما في “ميس إيجيبت” روايتي الثانية إدانة تصل إلى حد النشيج، ففي مصر “لدينا عشرات المفكرين وليس لدينا طه حسين واحد، لدينا مئات الوعاظ يتربعون في الفضائيات وليس لدينا محمد عبده واحد، لدينا عشرات المطربات وليس لدينا أم كلثوم واحدة، لدينا ملايين الدارسين بالمجان ومتعلمون أقل، لدينا وسائل راحة كثيرة ووقت أقل مما يجعلنا لا نلحق بأي شيء، لدينا ڤاترينات بها ما لا نستطيع إحصاءه ولا شيء في مخازن مصانعنا الخاوية على عروشها، لدينا نِكات كثيرة وضحك أقل، لدينا أحزاب كثيرة ووجهات نظر أضيق، لدينا كتابة كثيرة وكتب أقل، لدينا قتلة وجلادون يزيدون على حاجتنا؛ ولذا يبحثون في الخارج عن جثث أكثر، لدينا أطنان من المناديل الورقية للاستعمال مرة واحدة وفى مآقينا دموع أقل، لدينا نقود كثيرة ونحن أفقر، لدينا صحارى شاسعة وتأملات تافهة، لدينا حواسب كبيرة عليها معلومات منذ بدء التاريخ حتى الآن وذاكرة أنضب، لدينا في خزائننا شعرٌ كثيرٌ وعلى آذاننا تراكم عبر السنين صمغ أكثر، نقوم بجهد كبير ونحصد نجاحًا أقل، نهذي في الجرائد والبرامج والمساجد والكنائس من الصباح إلى الصباح ولا شيء يتبقى مما نقول، نفتحُ الظلام على آخره ونضرب كُتله في بعضها البعض حتى تتوالد شرارة ما، لكنها تذوي فور اشتعالها، نصلي أكثر ونصوم أكثر ونزكي أكثر ونحج لبيت الله كلَّ عام وخرابُ أرواحنا يزداد أكثر”. أظن أنه آن الأوان أن نفتح جروحنا على آخرها لتنقيتها، صحيح سنحتاج إلى وقت فجرح التخلف عميق، ولكننا علينا أن نبدأ، ولا أرى نقطة بداية إلا تنقية تراثنا بشكل جاد. فبعد تفجير برجي التجارة العالمي في أمريكا عام 2001، وضعت أمريكا والغرب الخطوط العريضة لمخطط القضاء على العالم العربي والإسلامي، والحقيقة أنه لم يخطر على بال الأبالسة نفسها أن تكون إحدى خطوات هذه المؤامرة تأسيس كيان مثل “داعش”، أي خلق كيان كاريكاتوري شائه مستنسخ من تراثنا العربي الإسلامي نفسه، بالتأكيد لا يشبه ديننا الإسلامي الحنيف، ولكنه يشبه تاريخ الخلافة الدموي، أي الحكم السياسي للإسلاميين، المذهل في الأمر أن الدواعش وكأنهم أرادوا أن يصوروا لنا بالصوت والصورة الملونة ما حدث في بعض لحظات تاريخنا بعد انتهاء عصر الخلفاء الراشدين من سفك دماء وقطع رءوس والتمثيل بجثث الأعداء. 
في الواقع نحن ندفع الآن ثمن صمتنا أمام تنقية إرثنا من شوائب دسها العجم واليهود منذ قرون، منذ أيام الفتنة الكبرى، وما زال يصدقها المتطرفون من الشعوب العربية. ونحن لم نقدم شيئًا منذ عقود، لم نحاول مجرد محاولة للاجتهاد، لم يقم المعلمون بدورهم في المدارس والجامعات، لم يقم المثقفون والمفكرون بدورهم، بل كانت معاركهم طوال الوقت مع السلطة من أجل الحصول على كراسٍ، نحن ندفع ثمن بقائنا نائمين لفترة من الزمن تمتد لعقود.
• لماذا دائمًا تثيرين ضجة مع كل عمل يصدر لك؟
ـــ وأنا أتحدث معك الآن، يُعاد تشكيل ورسم خارطة العالم، وبالتأكيد مَن يرسمها يحرص على خروج العرب والمسلمين من حدودهم الذين سكنوها منذ الأزل، بينما نحن غارقون في نعاس شبه أبدي ونسير ونتحرك كما لو كنا سائرين نيامًا، نقنع أنفسنا كل يوم بأننا في أحسن حال، وأننا لسنا في حاجة إلى الاجتهاد أو تطوير أنفسنا. كل مرة وقبل نشر رواية جديدة، أظل لمدة شهر كامل أتأمل مخطوطها وأتساءل: هل ثمة أمل يلوح في تحريك المياه الراكدة في عالمنا العربي؟ وبعد نشرها أتأمل ردود الفعل بهدوء، وجزء مني يتوقع ما سيحدث، أعترف بأن رواياتي ليست سهلة وأنها تضرب بعنف وقسوة في كل أسباب تخلفنا ودفعة واحدة، تضرب ذكورة المجتمع وتضرب الخرافات وتضرب بسخرية التيارات المتأسلمة التي تحلم بأن تعيش في القرن الأول الهجري فتفجرنا بالمولوتوف لتجبرنا على الحياة معها هناك، وتضرب السلطة إذا كانت غاشمة وتضرب مَن يسرقون مقدرات شعوبهم، وتضرب مَن أضاعوا الطبقة الوسطى حامية الأخلاق والهوية في مصر، ثم تباكوا على ضياع الأخلاق وتمجد الحالمين والبسطاء الذين يعملون في صمت، والمهزومين من جرّاء هذه الأسباب مجتمعة. أعترف بأن رواياتي قاسية جدًّا وأنها حين نشرها تكون عارية تمامًا بدون غطاء ليحميها ويدافع عنها، فلن يستطيع الدفاع عنها حزب من أحزاب المجتمع وهو يرى نفسه مُدانًا. أتذكر ومع أول مناقشة لروايتي “رحلة الضباع” في المجلس الأعلى للثقافة، أن صرخ أحد الأساتذة المناقشين: هل نحن ضباع؟ هل أنا ضبع؟ وخرج يجري في ساحة الأوبرا.
جزء مني يتحمل تبعات هذه الضجة، وأجدها ثمنًا معقولاً لنشر رسائلي الروائية.
• وما حكاية سرقة روايتك الذى سرقت كما سبق وحدثتينى؟
ــ حدث وأن بيعت روايتي “ميس إيجيبت” فور صدورها لأحد المخرجين لإخراجها سينمائيًّا، وحتى هذه اللحظة لا أعرف ماذا فعل بها، ثم فوجئت أن الرواية قُسمت قسمين.. أخذ نصفها كاتب سيناريو لبعض الأفلام الركيكة وعمل منه مسلسلا رمضانيا، والقسم الآخر صار فيلمًا فاشلاً بالضرورة. حقيقة لا ينبغي علي التحدث فالأمر أمام القضاء، ولكن المشكلة أكبر من حالتي تلك، فالسينما والدراما قد انهارت في مصر وكلها قامة على السرقات، سرقات أفلام هوليود يُعاد كتابة أسماء أبطالها بأسماء مصرية ثم يتم تصويرها، ولم يحدث هذا مع “ميس إيجيبت” فقط؛ وإنما حدث أيضًا وسرقت “لهو الأبالسة” وتم تشويهها على شاشة السينما، كما لم يحدث معي فقط ولكن حدث للكثير من الروائيين المصريين. وبهذه المناسبة أكرر ما قلته سابقًا: لن تعود السينما المصرية إلى مجدها قبل أن تعتمد على الرواية من جديد، وتتخلص من مافيا كُتَّاب السيناريو الذين يسرقون أجزاء أو مشاهد مبتورة من الروايات، فتضيع فكرة الرواية والفيلم على حدّ السواء.
• هل تعتقدين أن السرقات الأدبية زادت؟
ـــــ طبعًا ومع انتشار الإنترنت ووسائل الميديا الحديثة، أصبح من السهل سرقة مقاطع كاملة من كتب منشورة عليه، ممَّا يسهل الاستيلاء على مؤلفات الآخرين، لكن المطمئن في الأمر، أن المبدع الحقيقي يستعصى على السارق، فلكل مبدع حقيقي بصمة جينية إبداعية تضمن له حقه الأدبي، فمثلاً ومنذ خمس سنوات رد أحد الأصدقاء على إحدى السيدات وكانت قد نشرت مقطعًا باسمها من قصيدة لي على صفحتها في الفيس بوك فكتب لها: “ولماذا لا تكتبين أنها قصيدة “سهير المصادفة” ومن ديوان “فتاة تجرّب حتفها” المنشور في 1999. وأرسل إلي الحوار بينهما. المضحك في الأمر أن السيدة كانت تشكر القراء على تعليقاتهم المعجبة بعبارات ركيكة، ممَّا أضحكني بالفعل.
• من خلال إشرافك على سلسلة الجوائز، في ظنك متى تصبح الكتابة المصرية هدفًا للترجمة العالمية؟
ــــــ تقريبًا، عملي يجعلني مطلعة على خريطة العالم الإبداعية، وخصوصًا السرديَّة، ومن ثم يمكنني أيضًا تقريبًا تحديد موقع الأدب المصري على هذه الخريطة. عندما تحدثت في بداية الحوار عن فكرة المؤامرة كنت أقصد أيضًا “الثقافة والإبداع” كجزء رئيس من هذه المؤامرة، فأمريكا والغرب يتابعون المشهد الأدبي المصري عن كثب من خلال مراكزهم الثقافية المنتشرة في مصر والمدعومة ببزخ هائل من حكوماتهم، وهم يعرفون الثمين في هذا الأدب ولكنهم لا ينتقونه ويتبنون ترجمته بل يصدرون الغث منه، ويحتفون في بلدانهم بالنماذج الأضعف. وأنجح الروايات المصرية وأكثرها توزيعًا في الغرب هي أكثرها ركاكة بمعايير الأدب العالمي نفسها. في البداية تصورت أنهم كسالى ولا يستطيعون قراءة كل المنجز الأدبي المصري كما نفعل نحن مع أدبهم، ثم اكتشفت أثناء وجودي في معارض دولية وخصوصًا في معرض نيويورك الدولي للكتاب أنهم يعرفون كلَّ شيء ولديهم آلة ثقافية جبَّارة تنتقي من خلال الترجمة والجوائز كلَّ ما هو قليل القيمة حتى لا يظهر الأدب المصري في لغاتهم كمنافس حقيقي. كانت إجاباتهم عندما ذكرت أسماء الروايات الجيدة شديدة الغموض والارتباك فغمغموا بعبارات غير مفهومة حول أن القارئ الغربي يفضل حكايات الشذوذ العربية وبطش السلطة في المعتقلات إزاء الإخوان المسلمين المعتقلين، وحول نسوة يشبهنَّ كثيرًا نسوة حريم السلطان.
الآن أنا على يقين أن الأدب المصري بخير، فقط يحتاج إلى دعم مؤسسي أكبر، وجهد تنظيري ونقدي يليق به لإلقاء الضوء عليه.
• كيف تستطيعين معايشة كاتب صاخب وعفوى كزوجك الأديب التونسي الرائع كمال العيادي؟ خاصة وأنك شخصية مجاملة ورقيقة وتحبين الجميع؟
ـــ ليس فقط؛ وإنما أيضًا “كمال العيادي” كاتب استثنائي، يسير عبر أكثر الطرق وعورة في السرد ليضع رايته على أراض بكر لم يطأها من قبل سواه، ولديه لحظات جنون ما قبل الكتابة، وهي لحظات شديدة الوطأة، وأحتمل أنا وأتفهم ذلك جيدًا، وأظن أحيانًا أن كلانا خُلق ليحتمل الآخر، فهو أيضًا يحتمل لحظات صمتي الطويلة، أحيانًا أظل ساهمة طوال اليوم غائبة عمَّن حولي ألاحق صفحات كتبتها لتوَّي على الأثير، وأتابع حركة شخوص غير مرئيين لسواي، فيحافظ على صمتي، ويدع لحظات الكتابة تمر. كان ولا بدّ من دفع أكثر من ربع القرن ليستوعب أحدنا أسلوب حياة الآخر، والرضاء التام بأن تكون الكتابة فردًا رئيسًا من أفراد الأسرة في البيت.
• هل زواج الكاتبة من كاتب خطر، أم أن لكل حالة خصوصيتها؟
ـــ بالطبع من أخطر ما يكون، فكل مبدع رجل هو لا يرضى إلا بأن يكون على ذروة الهرم، ومن المستحيل أن يسمح بتميز زوجته إلا إذا كان كبيرًا بالفعل بالمعنى الحرفي للكلمة، ومتجاوزًا لبعض الموروثات الشرقية العقيمة والخاطئة. الأمر بالفعل يحتاج إلى معادلة كيميائية بالغة الصعوبة لا يكون ضمن مكوناتها الكثير من الملامح الرجل الشرقي مثل الغيرة والعنف والأنانية وازدراء المرأة وحتى التطرف الديني المغلوط أحيانًا. إذا توفرت عناصر هذه المعادلة وتم تجاوز هذه الحواجز يكون بالتأكيد زواج الكاتبة من كاتب متحقق زواجًا مثاليًّا.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *