*فريد نعمة
في بريطانيا سجون للكتب! في بريطانيا تُحاكم الكتب، ويقف الكتاب في قفص الاتهام، يستمع إلى الادعاء والدفاع ثم ينتظر، والعرق يتصبب من غلافه والرجفة تعتري صفحاته، النطق بالحكم. وهذا ما غلب على ساحة الثقافة والمجتمع في البلاد طوال فترة مهمة. نادراً ما يحصل على البراءة إلا إذا دعمته إحدى الجهات القوية، مثل «دار بنغوان للنشر» التي أنقذت رواية «عشيق ليدي تشاترلي» من السجن المؤبد في أشهر محاكمة للكتاب في التاريخ الانجليزي.
كم كتاباً مات في السجن ودفن دون شاهد على قبره! ولو قدر له أن يعيش، لكان قد أثرى الفكر الإنساني! وكادت رواية «يوليسيس»، مفخرة الأدب الانجليزي في العصر الحديث، أن تلقى هذه النهاية، لو لم يرم محل لبيع الكتب في باريس إليها بقشة الحمامة التي أتت إلى الساقية لتشرب!
يوليسيس- 1922- جيمس جويس
معجزة في تاريخ الأدب! 767 صفحة عن يوم واحد في حياة رجل في منتصف العمر وشاب فنان ترك دراسته في باريس وعاد إلى دبلن ليدفن والدته. يبدأ اليوم بخروج ليبولد بلوم صباحاً من منزله وهو يخشى أن تخونه زوجته مع عشيق لها في غيابه، وينتهي به وهو يتسلل إلى جانب زوجته في السرير. 767 صفحة تغطي هذا اليوم! عرض جيمس جويس هذا الكتاب على 15 ناشراً ولم يقبله أحد.
أخيراً استطاع أن ينشره بمساعدة الأديب عزرا باوند كقصة متسلسلة في مجلة «ليتل ريفيو» الطليعية في أميركا سنة 1918. وبعد نشر حلقة «الغثيان»، أوقف رئيس جمعية نيويورك لمحاربة الفساد النشر وقدم المشرفتين على المجلة، مارغريت اندرسن وجين هيب، إلى المحكمة التي أدانتهما. وأصاب هذا الحكم جويس باليأس المطلق..
وفي سنة 1922 تعرف جويس على الشابة الأميركية سيلفا بيتش التي افتتحت محلاً لبيع الكتب في باريس. وافقت سيلفا بجهود عزرا باوند، على طباعة 1000 نسخة على حسابها. وخلال شهر باعت تلك النسخ، فطبعت الآلاف منها ودخل قسم كبير منها إلى بريطانيا وأميركا بالتهريب، لكنها حُرقت كلها.
عالم جديد شجاع-1931- ألدوس هكسلي
رحلة مع الخيال العلمي إلى لندن سنة 2540 ميلادية، حين تقوم «الدولة العالمية» وتسيطر على مفاصل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تطلعنا هذه الرحلة على مظاهر محبطة للمجتمع البشري في ذلك المستقبل: التقسيمات الاجتماعية كثيرة وحادة، والنظام الاقتصادي يعتمد على الصناعة الآلية التي تلغي الزراعة والمهن اليدوية.
الإنسان فيه لا هوية له وغير مسؤول عن نفسه ومصيره. لا يزرع ولا يقطف الثمار ولا يصنع الطعام. غذاؤه دواؤه: مجموعة من العقاقير الطبية، أشهرها حبة (قرص) سوما. العائلة تندثر أمام تطور تكنولوجيا التكاثر التي توّلد الأطفال في بويضات صناعية في مزارع (مستشفيات) التفقيس، والطفل ينقف البيضة ويخرج منها مثل فرخ الحمام.
التهم والمحاكمة
نشر ألدوس هكسلي هذه الرواية سنة 1931. وبعد نشرها بشهور سُحبت من المكتبات ودور الكتب في إيرلندا ثم في بريطانيا وولايات أميركية عدة. في سنة 1965 عوقب مدرس في ماري لاند بفصله لأنه درّس تلاميذه هذه الرواية. في سنة 1967 مُنعت في الهند وفي 1982 مُنعت في بولونيا.. ثم في 1993 سُحبت من مكتبات المدارس في كاليفورنيا. اتهمت هذه الرواية بالسلبية الهدامة التي توقع الكآبة في النفس وتوهن العزيمة.
وبدلاً من أن تحمل الأمل بمستقبل مشرق، حملت رؤية سوداء ومخيفة. اتهمت أيضاً بأنها ضد العائلة والقيم الأخلاقية لأنها تحط من قدر الأسرة وتشجع على الاختلاط والتواصل الجنسي غير الشرعي، كما أنها تشجع على الاستخدام غير القانوني للعقاقير.
وبناء على هذه التهم، صدر الحكم عليها بالإدانة وأعطتها «مؤسسة الكتب الأميركية» رقم 52 في لائحة الكتب الفاسدة. وغاب عن أذهان كل من انتقدها وحاكمها، المغزى والرسائل البناءة التي تحملها.
1984
تمثل رواية “1984”، لجورج أورويل، رحلة خيالية ثانية تسخر من الأحلام الساذجة بالازدهار والتطور، بعد قيام حكومات استبدادية باسم المساواة والعدالة والخير العام. العالم سنة 1984 في حرب دائمة بين الدول القارية المتفوقة الثلاث: أوشينا التي تتألف من بريطانيا وأميركا واستراليا وجنوب أفريقيا، ويوراسيا التي تضم دول الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الأوروبية وتركيا، وأستاسيا التي تضم الصين واليابان وكوريا وإندونيسيا.
مُنعت هذه الرواية من النشر وتعرضت للنقد الحاد في الاتحاد السوفييتي سنة 1950. إذ قيل إن «الأخ الأكبر» تجسيد لشخصية ستالين ونظامه. وإبان الأزمة الكوبية ووقوف العالم على حافة حرب نووية، وضعوها في قفص الاتهام في بريطانيا وأميركا وحكموا بمنع نشرها ترضية للاتحاد السوفييتي.
وزاد هذا الحكم شعبيتها، إلى حد أن كثيراً من العبارات فيها دخلت الحياة اليومية وأضحت مضرب الأمثال في اللغة الانجليزية: جريمة التفكير- الغرفة 101- الفكر المزدوج- ثقب الذاكرة- شاشة التلفزيون (المراقبة السرية)- 2 2=5. وأشهر هذه العبارات «الأخ الأكبر» للدلالة على الطاغية.
« ليدي تشاترلي»
تمثل قصة رواية «عشيق ليدي تشاترلي» أشهر محاكمة للكتاب في تاريخ الأدب. وفيها نتبين كيف تعيش كونستانس تشاترلي مع زوجها كليفورد تشاترلي، الذي يعاني من شلل في نصفه السفلي بعد إصابته في الحرب، حياة جافة خالية من العاطفة والعلاقات الزوجية. ومع ذلك ترضى بحياتها وتكبت رغباتها لأن مكانتها الارستقراطية تفرض عليها أن تعيش في ظل العقل وتسيّج رغبات جسدها بسور العقل.
تقابل حارس أملاكها الجديد اوليفر ميلورس وهو يبني سوراً، فتستيقظ فيها الرغبات المكبوتة بقوة وتقيم علاقة غير أخلاقية معه، ثم تتخلى عن لقبها وأملاكها وتنتظر إنهاء معاملة الطلاق لتتزوجه.
طبعاً لن يقبل المجتمع الانجليزي في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، أن تقيم ليدي علاقة شائنة مع شاب من الطبقة العاملة.
نُشرت هذه الرواية سنة 1928 في فلورنسا في إيطاليا، ودخلت نسخ منها إلى انجلترا. وبعد 32 سنة تجرأت دار بنغوان الشهيرة على نشرها في بريطانيا فتعرضت للملاحقة القضائية وخاضت معركة حامية مع الرقابة على المطبوعات في المحكمة.
استمرت المحاكمة ثماني سنوات ثم أرغمت دار بنغوان المحكمة على إعطاء الموافقة على نشرها. فطبعت مليوني نسخة اختفت من الأسواق بلمح البصر. واعتمدت دار بنغوان في دفاعها على الرسالة الاجتماعية البناءة لهذه الرواية.
ملحمة العصر
فتحت «يوليسيس» طريقاً جديدة للفن الروائي وجعلته عصرياً من حيث الأسلوب والذوق والهدف. وأطنب الأدباء والنقاد في الكلام عنها ووصفوها بالعديد من الصفات، مثل: : «ملحمة العصر الحديث» و«بداية عهد جديد في الأدب» و«صرح خالد في المدرسة التعبيرية» و«تحفة مكانها في باثيون العظماء». وهي في الحقيقة تستحق كل ما وصفت به! إذ ابتكر جويس فيها الطرائق العصرية للفن القصصي.
1980
استلهمت رواية «الدولة العالمية»، في فيلمين يحملان الاسم نفسه، الأول سنة 1980، وأخرجه برت برينكرهوف، والثاني سنة 1998 وأخرجه بيتر غالاير.
2015
في مطلع سنة 2015 نقلت وسائل الإعلام، أن المخرج العالمي ستيفن سبيلبيرج سيقدم «الدولة العالمية» برؤية جديدة. جسدت رواية (1984) في أربعة أفلام، من بين أشهرها: فيلمان- سنة 1984 وسنة 2006 ، أدى دور البطولة فيهما الممثل ونستون سميث.
1955
عكست السينما رواية «عشيق ليدي تشاترلي» ضمن خمسة أفلام: فرنسية ويابانية وهندية، أولها فرنسي سنة 1955 وآخرها فرنسي سنة 2006. وشاركت كل من: بريطانيا فرنسا وألمانيا، في إنتاج فيلم واحد سنة1981.
1980
أعطت «المكتبة الحديثة» في أميركا رواية الدوس هكسلي «الدولة العالمية»، المرتبة الخامسة في لائحة أفضل مائة رواية في القرن العشرين.. ذلك سنة 1999. وأعطتها صحيفة الأوبزيرفير المرتبة 53 في لائحة أفضل مائة رواية في كل زمن عام 2003. كما أعطتها بي. بي. سي رقم87 في استبيان «القراءة الكبرى» في 2003.
1983
فازت (1984) بأصوات القارئ والناقد العالميين، فدخلت لائحة «المكتبة الحديثة» لأفضل 100 رواية في القرن العشرين، وحصلت على المرتبة 13 في لائحة النقاد والمرتبة 6 في لائحة القراء. اختارتها مجلة تايم موضوع عدد 28 نوفمبر1983. وأدرجتها سنة 2005 في لائحة أفضل 100 رواية من سنة 1923 حتى 2005. في سنة 2003 فازت بالمرتبة الثامنة في لائحة بي. بي. سي لأفضل 200 رواية في العالم.
______
*البيان