*لطفية الدليمي
الكتابة الإبداعية عملية مجاهدة كبيرة مع النفس والعالم، فأنْ تكتب الكاتبة وتبدع وتؤسس لها موقعا في زمنها ومجتمعها، عليها أن تتحلى بقدر وافر من الشجاعة في اتخاذ القرار وتكون قادرة على التحدّي والتضحية والمجازفة، فإما أن تكون كائنا اعتياديا لديه حياة تقليدية ومكاسب وعلاقات اجتماعية لنيل رضا المجتمع الذكوري وإما أن تكون كاتبة متفرغة لفن الكتابة ومجازفات الإبداع وتدافع عن خيارها وتخاطر بالتخلي عن أشياء وبشر يعيقون إبداعها، فالكتابة نهج حياة ونمط تفكير وأسلوب وجود، وعلى الكاتبة تشكيل حياتها بالطريقة التي تخدم إبداعها وتطوّره، وأن تتحمل مسؤولية خيارها وتتقبل الخسائر الاجتماعية.
شرط الكتابة الأول الموهبة وقدرة الابتكار والتخييل بلا حدود، وشرطها التعلم المتواصل واختيار العزلة والزهد ومقاومة مغريات الحياة والمسرات العابرة مع الاندماج في سيرورة الأحداث والتحوّلات، وأن تقرأ المزيد كل يوم وتتحرّك في المكان ورحاب الخيال حتى الأقاصي، هذا ما فعلته وما قمتُ به ونساء جيلي في تجربة العيش والكتابة حتى أنجزنا ما أنجزنا، بقوة الروح وشغف الجمال ولا نزال ندفع صخرة سيزيف إلى أعلى التل كل صباح ونتعلم من إخفاقاتنا ونجاحاتنا حتى نبلغ لحظة التنوير التي يتوق إليها المبدعون.
فهل بوسع العديد من النساء اللائي بدأن الكتابة، اختيار المجازفات والتحديات وقبول التضحيات الكبيرة واتخاذ قرار المضي قدما كما فعل جيلنا؟؟
واقع المرأة العربية اليوم واقع متردّ عما كان عليه في الخمسينات من القرن العشرين -وهذا أمر لا جدال فيه، وله دوره في انحسار الإبداع- وقد فقدت المرأة الكثير من منجزات حققتها سابقاتها من الأمهات الباسلات والجدات المتنورات اللائي صنعن صورة المرأة العربية المعاصرة وحققن طموحاتهن في الفن والطب والأدب وعلى مختلف الأصعدة التي تزدهر في أجواء الحرية والمجتمع المدني المتفتح، لكنها اليوم -ماعدا استثناءات قليلة- تبدو مستكينة لاشتراطات قاسية مفروضة عليها من قبل المجتمع الذكوري المتشدد المتسلط على مصائر البشر، وأجد البعض من الكاتبات تحني هاماتها لما يراد لها، ولا تملك الكثيرات صوتا للاعتراض على تردّي أوضاعهن ومعاملتهن ككائنات أدنى مكانة، وها نحن نرى الفتاة تحتجز منذ صغرها ضمن تابوات التحريم المفروضة من قبل المتشددين، وتمنع من الاختلاط منذ سن السابعة، وتقام الحواجز بين الجنسين لينفصم المجتمع ويتربص كل جنس بنوايا الجنس الآخر في تصعيد للبغضاء والخوف والمكر من جانب، وتعزيز الأوهام وتزييف المشاعر وكبتها من جانب آخر، فيتلاشى الطموح وتنعدم رغبة إثبات الذات والمساواة وكأن الجنس المهيمن يمثل قوة ضارية متأهبة للانقضاض على الجنس الأضعف.
يشكل وضع المرأة العربية اليوم خطورة كبرى ستظهر نتائجها في أجيال لاحقة، وعلى النساء تخطّى هذا الوضع المأساوي إلى تفعيل دور المرأة والمبدعات بخاصة، وإعادة الاعتبار لمكانتها في المجتمع المعاصر، ولا يتمّ ذلك بقرارات فوقية -وإن كانت أساسية تتم بضغوط مؤسسات المجتمع المدني- ولكنه يتحقق عبر وعي المرأة بحقوقها وبقدراتها وثقتها بنفسها وإيمانها بأنها كائن له ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات في المجتمعات الحديثة، وإلا فإن أعدادا هائلة من النساء ستبقى أسيرة عصور الظلمات ولا يمكن مواجهة هذا العنف والقسر إلّا بالتحدّيات الشجاعة والتثقيف المستمرّ، والتعويل على القدرات الذاتية للنساء المنتجات المبدعات. أمام المعيقات كطوفان التشدّد وهيمنة داعش وأمثالها على مدن كبرى في بلدين مهمّين كسوريا والعراق، وغياب مقوّمات ثقافة معاصرة وانحسار دور النخب المثقفة المتنوّرة مما يكرّس عزل النساء وتكريس استلابهن.
_____
*العرب