سعاد المأمون*
عندما تهمُّ بقراءة قصائد ديوان: «تلالي تضيق بعوسجها» الصادر عن وزارة الثقافة-عمان 2013م للشاعر الدكتور عمار الجنيدي؛ تجدك محض بغتة تتوغّل لتسبر أغوارها الشعرية لتَقُدْكَ بذلك إلى استيعاب دواخلها في مدى تلقائية الشاعر وشفافيته في رصد حسراته، كأنه يلقيها عفويا دونما وضع حواجز؛ ليطلعك على أنّاته فتصلك كأنها مواويل حزينة تضجُّها شذرات تتناوب بين الاصطبار واللامستحيل في تلقي موجعات الحياة وقسوتها برحابة المحترف في تحمل خباياها والحنكة في التعامل مع نكساتها:
((من غيرنا يدفع الثمن ؟!
من غيرنا تهزأ الغيمات بمشاعره ؟!
ووهج القناديل التي
سباها الانتظار
تستنكر اندهاشي ؟
تحملق في شظاياي طويلا
فتقرأني
كل علامات الاستفهام
والتعجب.
وتمضين كقصيدة لعن الذهول روابيها؛
كسفينة أوغلت في الطوفان؛
كل الصواري تحطمت
والأشرعة مثخنة بالضياع..
ومازلتِ
تمخرين عباب الطرفان
حيث لا مرافئ
لا شطآن..
لا شطان))ص22، ص23..
وهذا ما تشمله قصائد الديوان:
(إغفاءة؛ على صدر الريح، فواصل للحب المنسي، من كل الجهات، على سفح الشفق، في مدارات الصدى، خطوات على أرصفة الحياة، في محراب الوجع، مرثية لارتحال الموال، أنت، على عتبات البوح، النداء الأخير إلى عشتار، تهويمه، على رموش عينيكِ).
فالقصائد في تلالي تضيق بعوسجها، تعبُر مراثيه وتعبِّر عنها بطلاقة اللغة، كأنها احتفائية بألمه الصنديد، الذي ما يلبث الشاعر إلا ان يجابهه ليرفع في نهاية كل قصيدة شارة الانتصار المفعمة بعنفوانه الشامخ , مهما حاول حزنه أن يطاله:
« حكايتي مع الليل طالت ،
وضجت بأودية المساء
أشواقي ،
والسؤال
يقتفي آثار خطواتي ؛
يحمّلني أكثر مما أستطيع
وجداً
وشوقاً
وحزنا،
وعندما يختبئ
في لجة السراب ،
تطويه مسافات الدهشة ،
وتضيق التلال
حتى بعوسجها» ص43-44…
ورغم المضامين الحزينة لقصائد الديوان، الاّ أن الانتشاء زهوا بالحروف يالانتقال من قصيدة لأخرى على مدار قصائد الديوان الذي يحوي ست وثلاثين قصيدة.
وفي قصائد الديوان لغة باذخة بالمخزون الأدبي؛ باذخة بشمولية الوصف و التوصيف، في ألغازها التي تَفُكُّهُ في النهاية سلاسة قلم الشاعر و تعقيداته معا، لتأخدك إلى مكامن الدهشة في توصيل الرؤيا اخيرا لعتبات الوقوف على جواب التساؤل عن مدى ارتقاء الكاتب الى لغة شعرية خاصة به، فيطرح عبرها هموم الحياة بصخب آلامها وإرهاصاتها، بالأشواق لمحبوبته تارة، أو بِطَرْقِ أبواب الرغبة دون الاستجداء تارة أخرى، ليكون هو هو بهمومه أمام القارئ دون تقمُّصِ قناع يتعرى لحروفه ليس بحثا عن منأى الخلاص، بقدر ما همّه الوصول إلى أعماقه بشفافية بحبر يقطر بالابداع اللغوي و الحياكة المزدانة بالألق، لتخرج بعدها من عتماته إلى وجود خال من شوائب التنكر لذات الوجع مهما اشتد وطيسه.
وفي جولة في صور الديوان الشعرية ودلالاتها الانزياحية؛ نجده غاصا في صور شعرية ساحرة يغدقُ بجمال يلفه روح الشاعر و جاذبية العمق الابداعي:
(وللربيع في وجهينا لون آخر: ليلكي الفزع لحظة الرحيل/ كل الصباحات تخرج من بطن اليباس: شاحبة.. هزيلة يمتطيها الجفاف/ ويبكي الغيّاب فينا أدمعا سجالا على انسحاق الحنين تحت سنابك القهر/ على ارتجاف الأيام في قبضة الصهيل/ مُذ توضأت بدمعات الخوف وأنت تجري أوردة الصباح/ تجترّ دفء السؤالات وتستنفذ كل أجوبة الحقول/ بعدما أعدّت النوائب طقوس ذبحي على عتبات المساء/ بعدما جدّلت ضفائر روحي وطافت بها في محراب الوجع ثلاثين مرة!/ هولاكو: يصلبُ براءتي على صاريةِ الفشل،/ ينتزعُ منّي صوتي، / ويرهنُ لصهدِ الشمسِ قرباناً: دمي./ حطّ السراب على حلمي/ وتغيّر شكل الحياة كموسم ترف/ وصار الوطن قصيدة شعر بهمومي تُثقلني/ وبحاكورة قلقي تزرع شوكاً، فتطلع فيها القوافي أقحوانا أخضر) الديوان.
*المغرب