*غيث خوري
تمتد القصة في الشعر العربي بوضوح من حيث الأداء والتناسق والأفكار وقد ظلت أشكال القصص المختلفة ترتسم في أغراضه، وتتضح في معالجاته وتتحدد من خلال معانيه، وظل الشعراء ينهجون هذا النهج، ويسلكون المسلك التقليدي في الصياغة والمتابعة، من أجل الحفاظ على البناء القصصي المرتبط بحياتهم، والمستمد من واقعهم الاجتماعي الفكري والحياتي.
الشعر القصصي، هو الذي يعتمد في مادته على ذكر وقائع وتصوير حوادث في ثوب قصة تساق مقدماتها، وتحكي مناظرها وينطق أشخاصها.
فالشاعر القصصي قد يطوف بحياته حادث من الحوادث تنفعل به نفسه وتتجاوب له مشاعره ويهتز إحساسه، فيعمد إلى تصوير هذا الحادث كما تمثل لديه في قصة ينسج خيوطها ويرسم ألوانها ويطرز حواشيها.
قارئ الشعر العربي يقع على كثير مِن الحكايات التي تؤكد النزعة القصصية عند بعض شعرائنا القدامی مثل امرئ القيس الذي تبدو هذه الظاهرة في شعره (عند وصفه للصيد) حيث للموضوع مقدمة وعقدة وحل، وغالباً ما تكون المقدمة وصفاً للفرس أو الناقة، وتتشكل العقدة عندما يعنّ له مطاردة سرب مِن البقر الوحشي فيكر ويفرّ حوله حتى يعود وقد أوقع طريدة أوعدة طرائد. كما عرض الفرزدق لحادثة وقعت بينه وبين الذئب في قصيدة تكاد تخرج عن طبيعة الوصف النقلي التقليدي للذئب لأنه التفت فيها إلى الجانب القصصي، وأفاض عليها شيئاً من الرقة الوجدانية، إِذ قال:
وأطلس عسال وما كان صاحبا
دعَوت بناري مَوهِنا فأتاني
فلما دنا قلت ادن، دونك، إنّني
وإياك في زادي لمشتركان
فَبِتّ أقُدّ الزاد بيني وبينه
على ضَوء نارٍ مرّة ودخان
فقُلت له لمّا تكشّر ضاحكا
وقائم سيفي من يدي بمكان
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
ويرى البعض أن عمر بن أبي ربيعة هو مبتكر فن القصص الشعري، وكان حرياً بتجربته أن تسهم في تطوير القصيدة العربية وتخرجها عن التقليد للقصيدة الجاهلية، وأن الظاهرة القصصية عند امرؤ القيس والفرزدق، كان يمكن لها أن تكون خطوة على طريق الفن القصصي الشعري بما تحمله من جيشان العواطف وصدق الانفعالات إلا أن العناية بها لم تتجاوز هذا البوح الوجداني.
كتب أحمد شوقي الكثير من القصائد، التي خص فيها الحيوان والطير بحكايات تستوحي نمط قصص كليلة ودمنة، نظمها شوقي بأسلوب يحمل في طياته «الحكمة، والخبرة، والتوظيف الرمزي للتأديب والتهذيب»، كما يكتسي أسلوبه بمسحة طريفة ساخرة وضاحكة، يقول شوقي في مقدمة قصيدة «الصياد والعصفورة»:
حكاية الصياد والعصفوره
صارت لبعض الزاهدين صوره
ما هزئوا فيها بمستحق
ولا أرادوا أولياء الحق
ما كل أهل الزهد أهل الله
كم لاعب في الزاهدين لاه
جعلتها شعراً لتلفت الفطن
والشعر للحكمة مذ كان وطن
وخير ما ينظم للأديب
ما نطقته ألسن التجريب
وكانت حكاية «الثعلب والديك» ربما الأكثر شهرة في هذا المضمار، يقول «شوقي» في مطلعها:
برز الثعلب يوما
في شعار الواعظينا
فمشى في الأرض يهذي
ويسب الماكرينا
ويقول: الحمد لله
إله العالمينا
يا عباد الله توبوا
فهو كهف التائبينا
وازهدوا في الطير إن ال
عيش عيش الزاهدينا
واطلبوا الديك يؤذن
لصلاة الصبح فينا
فأتى الديك رسول
من إمام الناسكينا
عرض الأمر عليه
وهو يرجو أن يلينا
فأجاب الديك عذرا
يا أضل المهتدينا
كانت القصة عند الشعراء المهاجرين من أهم فنون شعرهم، فهي تتناول وتصور كل أحداث الحياة، وبرز العديد من الشعراء الذين اتبعوا هذا المنهج مثل: ميخائيل نعيمة، نسيب عريضة، إيليا أبو ماضي، جبران خليل جبران، إلياس فرحات، فوزي معلوف.
وأَشهر من برع في القصة الشعرية، هو إيليا أبو ماضي، وكثيراً ما اعتمد على أسلوب القصص في شعره، أو القصص الأسطورية، فيستخرج منها دروسا إنسانية ذات قيمة، يعتمد فيها على عنصري المفاجأة والتشويق. ومهما يكن من أمر يظل أبو ماضي من الرواد الذين فتحوا صدر الشعر لغير الغنائية الذاتية فزرعوا فيه مواسم جديدة لموضوعات شعرية تتناول الإنسان.
عند قراءة القصص الشعرية التي تحفل بها دواوين أبي ماضي، نجدها قصصا تفيض ألوانا من واقع الحياة وخيالها ورمزها وتشعبات مذاهبها في الرومانسية والرمزية والأسطورية. وقد خاف أن يؤخذ عليه حصر قصصه بأبناء وطنه، فعمد إلی إبراز واقع الشرق ممزوجا بجوانب الغرب ومعطياته الرمزية، التي تستمد عناصرها من خياله تارة، أو من الأساطير القديمة تارة أخرى، وحرص أيضا أن يجعل تلك العناصر تتلون بألوان الوحدة المعبرة عن الوحشة، كما أنه اهتم اهتماما بالغا بالحوار القصصي المعبر عن الضياع الذي يحيط بالمجتمع الغربي والشرقي في آنٍ واحد. وهو في كل ما ذكرنا كان ملما إلماما ناجحا بفن القصة الشعرية وأصول نظمها المعبر.
ومن القصائد الرمزية التي كتبها أبو ماضي قصيدة «دودة وبلبل» رمز فيها إلى أن الحقير يلتزم الخنوع دائماً، يرضى بالذل، لأن طلب المجد يتطلب سلاح المغامرة والإقدام:
نظرت دودة تدبّ على الأرض
إلى بلبل يطير ويصدح
فمضت تشتكي إلى الورق الساقط
في الحقل أنها لم تجنّح
فأتت نملة إليها وقالت
اقنعي واسكتي فما لك أصلح
ما تمنيت إذ تمنّيت إلا
أن تصيري طيرا يصاد ويذبح
فالزمي الأرض فهي أحنى على الدود
وخليّ الكلام فالصمت أريح
إن الصورة القصصية التي تحتفظ بها ذاكرة القصيدة العربية لم تكن صورة جاهزة أو مركبة، وإنما هي امتداد حضاري لفكر مبدع، وإبداعات إنسانية متراكمة حققتها الذات العربية، وقدمتها عطاء أدبياً متطوراً، وفناً إنسانياً متقدماً، تخللته العواطف وشدت أواصره عوامل الشوق الحادة، وعاشت في نبضه طاقات الإنسان الذي أخلص لموروثه.
_____
*الخليج الثقافي