رمضان.. القراءة الأخرى



*ألفة يوسف

الصّوم قبل الإسلام
يجب أن نتذكّر أوّلا أنّ الصّوم لم يبدأ مع الإسلام إذ يشير القرآن صراحة إلى أنّ فعل الصّوم سابق للإسلام: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة2/183).
ولا شكّ أنّ إقرار القرآن بوجود الصّوم لدى الأمم السّابقة لأمّة محمّد له دلالات كثيرة ذكر ابن عاشور بعضها شأن الاهتمام بهذه العبادة والتّنويه بها، وشأن التّهوين على المكلّفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصّوم إذ في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب(1). على أنّ أبرز دلالات الإقرار بوجود الصّوم لدى أمم أخرى تأكيد أنّ الإسلام منغرس في تراث دينيّ روحانيّ بشريّ، ولعلّ هذه النّظرة الكونيّة ممّا يفتقر إليه بعض المسلمين اليوم، وممّا يجدر التّذكير به في زمن غدا فيه بعض النّاس يقتلون بعضهم الآخر لمجرّد اختلاف في الدّين والعقيدة. ولكم فيما يجري في بعض البلدان من اعتداء على الأقلّيات باسم دين أو آخر مثال ونموذج.
إنّ استحضار الكونيّة في بعدها البشريّ والرّوحانيّ العميقين تؤسّس لمفاهيم السّلام والتّعايش والتّسامح إذ تذكّر بالجامع البشريّ المشترك.
عبادة سِرّيّة
الصّوم والمنع.. يؤسس لاحترام القوانين، فالصوم مختلف عن سائر أركان الإسلام الأخرى لأنّه الرّكن الوحيد الّذي لا يستدعي من المسلم فعلا موجبا بل يستدعي منه فعلا سالبا. وبعبارة أخرى فسائر الأركان تفرض على المسلم القيام بأعمال ما هي: التّلفّظ بالشّهادتين، والقيام بحركات مضبوطة ونطق أقوال مخصوصة في أوقات معلومة أثناء الصّلاة، دفع كمّ مضبوط من المال بشروط دقيقة في الزّكاة، والامتثال إلى واجبات وأعمال محدّدة أثناء الحج. أمّا الصّيام فهو لا يستدعي فعلا وإنّما هو «كفّ وترك وهو في نفسه سرّا ليس فيه عمل يشاهد» (2). إنّ الصّيام يقوم على الامتناع عن فعل مخصوص هو الأكل والشّرب. ومن هذا المنظور يمكن أن نتناول الصّيام في علاقة وثيقة بالممنوع (L›interdit).
إنّ الصّيام يمنع الأكل والشّرب والجنس لزمان معيّن. ومن اللّطيف أن نشير إلى أنّ الأكل والجنس إضافة إلى اتّصالهما الوثيق بالإنسان إنّما هما متّصلان أشدّ الاتّصال بمفهوم المنع. فالمجتمعات البشريّة تقسّم الطّعام تقسيمات مختلفة تسم بعضها بسمة إيجابيّة وأخرى بسمة سلبيّة، وتتعامل المجتمعات البشريّة مع الفعل الجنسيّ من الوجهة ذاتها فتنظّم طرق ممارسة الجنس بأشكال مختلفة. ولا يخرج القرآن عن أطر التّنظيم تلك إذ يميّز الله عزّ وجلّ بين الطّيّبات والخبائث: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ…» (الأعراف7/157). ولئن ذهب المفسّرون في قراءة هذه الآية مذاهب مختلفة بين من يقصر الطّيّبات والخبائث فيها على الطّعام ومن يوسّعها إلى سواه (3) فإنّ سياقات قرآنيّة أخرى تقطع بالجمع بين الطّعام والجنس الطيّبين أي غير الممنوعين في آية واحدة إذ يقول عزّ وجلّ: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (المائدة5/5).
إنّ منع بعض ضروب الطّعام وبعض ضروب الممارسة الجنسيّة يذكّر بالمنع الأوّل الّذي واجهه الإنسان والّذي نجد له صدى في القرآن. فالله تعالى يسمح لآدم وزوجه بأن يأكلا من الجنّة حيث شاءا ولكنّه في الآن نفسه يمنع عنهما شجرة واحدة: «وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» (البقرة2/35). وقد يكون لمنع الطّعام هذا علاقة ضمنيّة بالجنس تتجلّى في نتيجة الأكل من الشجرة المحرّمة أي في نتيجة اختراق الممنوع. فالقرآن يقول: «فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» (طه20/121).
والمهمّ من هذا كلّه أن نفهم أنّ المنع سمة للوجود البشريّ. إنّ الحياة البشرية لا تتجسّم إلا انطلاقا من وجود القوانين التي تمنع أشياء وتسمح بسواها. وأوّل قانون يخضع له الإنسان هو قانون اللّغة فالإنسان إذ يتكلّم يطيع بالضّرورة قانون اللّغة (4). وآدم إذ تعلّم الكلمات أصبح خاضعا لقانونها تضبط له حدودا لا يمكن أن يتجاوزها. وهو بتعلّمه الأسماء كلّها دخل مجال الحياة الرّمزيّ ولكنّه في الآن نفسه قد خسر «الكلمة الملآى»، كلمة «كن» تلك التي تخلق العالم وتنشئه والّتي يختصّ بها الله تعالى دونا عن سائر البشر (5).
إنّ اتّصال الصّوم بمنع الطّعام والشّراب بالجنس يذكّر بأنّ المنع هو سمة الوجود البشريّ ومنطلقه، وهو تذكير لازم في مجتمعاتنا، ذلك أنّ جلّ الشّعوب العربيّة المسلمة تتميّز بموقف فاتر من القانون. فللأعراف والتّقاليد المكانة العليا ويندر أن يلتزم المواطن العربيّ المسلم بالقانون لأنّه لا يستبطنه بصفته سلطة عليا يخضع لها الإنسان دون أن يكون ذلك الخضوع دلالة على ضعف ولا خنوع ولا مهانة. إنّ استحضار المنع بصفته أساسا للوجود البشريّ قد يساهم في ترسيخ احترام القوانين في المخيال الجمعيّ.

الوازع الدّاخليّ
بين المنع والإباحة يجري التّأسيس للوازع الدّاخليّ ومفهوم المواطنة، على أنّ للمنع الّذي يجسّمه الصّوم بعدا آخر وهو بعد تأكيد الإباحة، ذلك أنّ تحديد الممنوع هو تحديد للمباح. فالقانون إذ يضبط للإنسان حدودا يُدعى إلى عدم خرقها شأن منع الزّواج بالمحرم إنّما يمكّن المرء بعمليّة المنع هذه، وفي الآن نفسه، من أشياء مباحة. فليست الممنوعات الغذائيّة بهذا المعنى إلا وجها من وجوه تجسيم الغذاء المباح (6).
ومنذ قصّة آدم وحوّاء يبيّن القرآن أنّ المنع منطلق للإباحة إذ أنّ الله إذ يمنع عن آدم وزوجه الأكل من إحدى الشّجرات يبيح له في الآن نفسه الأكل من كلّ ما عداها: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» (البقرة2/35).
وفي مواضع أخرى من القرآن يتجسّم المنع منطلقا للإباحة إن في المجال الجنسي أو في المجال الغذائي. فالله تعالى بعد تعداد النّساء المحرّمات يقرّ بأنّ ما سواهنّ حلال: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا- وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ…» (النّساء4/23-24) . ونجد القرآن في موضع آخر متّصل بالصّوم يحدّد المباح انطلاقا من تحديد الممنوع فيقول عزّ وجلّ: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ…»(البقرة2/187).
وتتجسّم في المجال الغذائي أيضا العلاقةُ الوثيقة بين الإباحة والمنع إذ يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ-إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (البقرة2/172-173). وتتواتر العلاقة نفسها في قوله عزّ وجلّ: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ-إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (النّحل16/114-115).
إنّ الصّوم وفق هذه القراءة يمنع عن الإنسان الطّعام والجنس لفترة معيّنة فيؤكّد بذلك المنع ذاته نعم الله عزّ جلّ فيما أباحه للمرء ممّا يُطعم وما يُنكح. ولهذا السبب كانت للصّائم فرحتان، الفرحةُ الدّنيويّة منهما فرحة باستهلاك الطّعام بعد الامتناع عنه. أفلا يقول الرّسول: «للصّائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه»7. بل إنّ علاقة منع الطّعام بإباحته والتمتّع به قد تتجاوز الحياة الدّنيا إلى الآخرة وفق تفسير بعضهم لقوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (الحاقّة69/24). فهذه الأيّام الخالية هي، عند الغزالي والرّازي، أيّامُ الصّيام يجازى عنها الإنسان بالأكل والشّرب (8).
ولئن كان رسوخ المنع في المخيال العربي الإسلاميّ يصالح الشّعوب العربيّة مع احترام القوانين فإنّه في تذكّر الإباحة المتّصلة بالمنع سبيلا نحو المرور من التّعامل مع القانون بصفته وازعا خارجيّا إلى استبطان القانون بصفته وازعا داخليّا مؤسّسا للتّعايش بين أفراد المجموعة الواحد ومنشئا لمفهوم المواطنة في بعده الفلسفيّ العميق.
الصوم عن الكلام
الصّوم والافتقار: التّأسيس للتّواضع؛ في القرآن يرد الصور في ضربين هما: الصّوم عن الطّعام والشّراب والجنس من جهة، والصّوم عن الكلام أي الامتناع عنه من جهة أخرى. فقد ورد في القرآن الكريم أنّ الله تعالى أمر مريم عليها السّلام بأن تصوم عن الكلام: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» (مريم19/26). وقد رفض ابن عاشور وجود هذا الضّرب من الصّوم واعتبر أنّ: «إطلاق الصّوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى «فقولي إنّي نذرت للرّحمن صوما فلن أكلّم اليوم إنسيّا»، فليس إطلاقا للصّوم على ترك الكلام ولكن المراد أنّ الصّوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل» (9). ولا نجد لتأويل ابن عاشور هذا سندا في النصّ القرآني إذ إنّ جملة «فلن أكلّم اليوم إنسيّا» وردت في الآية موضّحة لدلالة الصّوم. ثمّ إنّ الامتناع عن الكلام باعتباره وجها من وجوه الرّوحانيّ قد ورد في موضعين قرآنيّين آخرين إذ يأمر الله تعالى زكريّا بالإمساك عن الكلام ثلاثة أيّام: «قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ»(آل عمران3/41)، «قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا» (مريم19/10).
ولا شكّ أنّ العلاقة بين ضربي الصّوم (10) وثيقة من منظور التّحليل النّفسي. أفليس الفم هو موضع دخول الطّعام والشّراب؟ وألَيس الفم نفسه هو موضع خروج الكلام؟ وألَيس الفرج بمثابة الفم الرمزيّ؟ (11)
وليس غرضنا الإيغال في تحليل دلالات التقارب في الرّمز والمخيال بين الصّوم عن الطعام والجنس والصّوم عن الأكل بقدر ما نودّ البحث في الأبعاد الرّوحانيّة لكليهما.
يذهب ابن عاشور إلى أنّ من حكم الصّوم أن «يرتقيَ المسلم به عن حضيض الانغماس في المادّة إلى أوج العالم الروحاني فهو وسيلة للارتياض بالصّفات الملكيّة والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانيّة» (12). وإنّنا لا نميل كثيرا إلى المقابلة الثّنائيّة بين المادّيّ الحيوانيّ والرّوحانيّ عبر ثنائيّة مسطّحة مبسّطة ذلك أنّ الطّعام والشّراب والجنس لدى الإنسان لا تمثّل الوجه «الطّبيعيّ» للحياة مثلما يذهب إلى ذلك الكثيرون وإنّما هي عناصر ثقافيّة بالأساس لها بالضّرورة صلة بالمكوّنات الحسّية للمرء غير أنّها لا تتجسّم إلاّ في رؤية وتنظيم ثقافيّين للأكل وللجنسانيّة بما وضّحته الدّراسات الأنتروبولوجية أيّما توضيح. ولمّا كنّا من جهة ثانية لا نعرف شيئا عن الملائكة من حيث تكوينها وشروط وجودها فإنّنا نفضّل أن نبحث في أسرار الإمساك عن الطّعام والجنس من مدخل آخر سوى اعتبار هذا الإمساك «تشبّها» بالملائكة.
صحيح أنّ الطّعام والشّراب شرطان لتواصل الحياة البيولوجية لدى الإنسان وصحيح أنّ الجنسَ شرط لتواصل الوجود البشريّ. غير أنّ الصّوم من حيث هو إمساك مؤقّت عنهما يبيّن أنّ الطّعام والشّراب والجنس جميعها قد تكون شروطا لازمة للحياة ولكنّها لا يمكن أن تكون بأيّ حال من الأحوال شروطا كافية. وبعبارة أخرى فوجود الحياة البشريّة مستحيل في غياب الطّعام والشّراب والجنس بما يجعلها شروطا لازمة ولكنّ هذه العناصر نفسها أي الطّعام والشّراب والجنس ليست هي الّتي تضمن وجود الحياة (13). فللحياة أصل آخر. إنّ النّسق الغذائي للإنسان يتراوح بين الامتلاء والفراغ، وفي الصّوم باعتباره قطعا مؤقّتا لهذا النّسق إظهار للبعد الآخر فينا هو بعد الأصل ومنشأ الحياة.
ولعلّ صوت الأصل فينا أكثر تجلّيا في الصّوم بمعناه الثّاني، معنى الإمساك عن الكلام. ذلك أنّ اللغة هي الّتي تصنع الذّات فهي سابقة للإنسان لا يدرك العالم إلا من خلالها. وقد أسلفنا أنّ الإنسان بدخوله مجال الرّمزيّ قد فَقَدَ النّفاذ إلى الواقع بلا وساطة الرّمزيّ. وبعبارة أخرى فإنّ المرء قد فقد قدرة ممكنة على أن يمثّل الواقعيّ (le réel). ويجب أن نرفع هنا لبسا قد يتصوّر بموجبه القارئ أنّ هناك عالما سابقا للكلام كان قابلا للإدراك ثمّ حدث الكلام ففُقدت القدرة على إدراك ذلك العالم. إنّ تصوّر عالم خارج الرّمزيّ لا يمكن أن يكون إلاّ انطلاقا من الرّمزيّ نفسه، وهذا يعني أنّ افتراضا ممكنا خارج عن اللغة إنّما هو افتراض يدين في وجوده لوجود اللّغة نفسه.
والصّمت ما كان ليكون ممكنا إلاّ وقد وُجدت الكلمة. فالصّوم عن الكلام إذن هو في بعض وجوهه توقّف عن الفعل اللغويّ الّذي يشطر الإنسان بين ذات قائلة وموضوع مقول، والتوقّف عن الكلام بما هو خروج من مجال الفعل المفتقر يفتح باب الانفعال(passivité) بالاستماع لا إلى كلام ذات بشريّة أخرى مفتقرة وإنّما بالاستماع إلى صوت الأصل في المرء.
أوليس أنّه كلّما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة؟ (14) أفلا يمكن أن نذهب إلى قراءة هذا المقول طردا وعكسا على أساس أنّه كلّما سكتت العبارة يمكن أن يجد المرء سبيلا إلى اتّساع الرّؤية؟ إنّ الإنسان إذ يصمت تصمت سلطته اللغويّة الوهميّة على الواقع ويُقرّ بعجزه الجوهريّ عن أن يقول المعنى، ولعلّ المرء يمكنه إذّاك أن يجد في سكون قلبه طريقا لالغويّا نحو الإلهي. أليس من اللافت للانتباه أنّ كلاّ من صمت زكريّا وصمت مريم قد اتّصل في القرآن بولادة تُجسّم كلمة الله تعالى بشرا؟
إنّ الصّوم بما هو صمت عن الكلام وبما هو فتح لباب الاستماع سبيل إلى النّفاذ إلى صدى كلمة الخلق الأولى وكلمة الكيان الملأى الّتي لا يجد الإنسان إلى قولها طريقا. والقرآن يميّز مرّات وتكرارا بين من لا يسمعون ومن يسمعون فيقول الله تعالى في الصّنف الأوّل، صنف من لا يسمع: «أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ» (الأعراف7/100). ويقول عزّ وجلّ في من يسمع: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» (يونس10/67) (15).
وليس السّماع في هذا المستوى مجرّد استماع إلى المواعظ والتّذكير مثلما ذهب إلى ذلك جلّ المفسّرين16، وإنّما هو سماع قلبيّ يفترض بالضّرورة موضع الانفعال الصّامت إزاء آيات الوجود كلّها بما هي سبيل إلى الله.
إنّ وعي الإنسان بأنّه ثان في الكون من شأنه أن يفتح له بابا على التّواضع الرّوحيّ العميق الّذي يبدو المسلم اليوم مفتقرا إليه في زمن أصبح جلّ المسلمين يتصوّرون أنّهم يمتلكون الحقيقة وينفون الآخر. وهو ما نجده متجلّيا في صراعات المذاهب وحروب العقائد.
إنّ النّظر في رمضان وتأمّله في بعده الرّوحانيّ العميق قد يمكّن من فتح آفاق ترسّخ الكونيّة واحترام القوانين وتعمّق الوازع الدّاخليّ والتّواضع لدى الإنسان المسلم. ولعلّ هذه الأبعاد تفتح آفاقا نحو مستقبل أفضل لبلادنا العربيّة المسلمة.
…………………………………………………………..
هوامش:
(1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر، مج2، ج2، ص (157/156).
(2) أبو حامد الغزالي، كتاب «الحج، الزكاة، الصوم» من إحياء علوم الدين، (ص 84).
(3) أبو القاسم جار الله الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج2 ص (97).
(4) Denis Vasse: Inceste et jalousie, Paris,Seuil 1955,p.65
(5) تتكرر عبارة «كن فيكون» في آيات كثيرة: البقرة 2/117، آل عمران 3/47، الانعام 6/37 النحل 16/40 ياسين 36/82.
(6) Maya Malet:Monothéisme et psychanalyse,paris,puf 2001,p.756
(7) صحيح البخاري، دار مطابع الشّعب (د-ت)، مج1 ج3، ص34.
(8) كتاب الحج-الزكاة-الصوم، ص83 – فخر الدّين الرّازي: مفاتيح الغيب، بيروت، دار الفكر 1985، مج15 ج30، ص113.
(9) التحرير والتنوير مج2 ج2، ص155.
(10) نعني الصّوم عن الطّعام والشّراب والجنس من جهة والصّوم عن الكلام من جهة ثانية.
(11) Monothéisme et psychanalyse, p-69.
(12) التحرير والتنوير مج2 ج2، ص158.
كادر داخل المادة
سمة الوجود البشري
إنّ اتّصال الصّوم بمنع الطّعام والشّراب والجنس يذكّر بأنّ المنع هو سمة الوجود البشريّ ومنطلقه، وهو تذكير لازم في مجتمعاتنا، ذلك أنّ جلّ الشّعوب العربيّة المسلمة تتميّز بموقف فاتر من القانون. فللأعراف والتّقاليد المكانة العليا ويندر أن يلتزم المواطن العربيّ المسلم بالقانون لأنّه لا يستبطنه بصفته سلطة عليا يخضع لها الإنسان دون أن يكون ذلك الخضوع دلالة على ضعف ولا خنوع ولا مهانة.
إنّ استحضار المنع بصفته أساسا للوجود البشريّ قد يساهم في ترسيخ احترام القوانين في المخيال الجمعيّ.
كادر داخل المادة
استبطان
إذا كان رسوخ المنع في المخيال العربي الإسلاميّ يصالح الشّعوب العربيّة مع احترام القوانين، فإنّه في تذكّر الإباحة المتّصلة بالمنع سبيلاً نحو المرور من التّعامل مع القانون بصفته وازعاً خارجيّاً إلى استبطان القانون بصفته وازعاً داخليّاً مؤسّساً للتّعايش بين أفراد المجموعة الواحد ومنشئاً لمفهوم المواطنة في بعده الفلسفيّ العميق.
________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *