قاطرة الثقافة المعطلة


*محمد إسماعيل زاهر

تمتلئ الجامعات العربية بعشرات الآلاف من الرسائل الجامعية في شتى حقول المعرفة، وهي رسائل ملقاة من دون أي اهتمام سواء من قبل الجامعات نفسها أوالمؤسسات الثقافية المختلفة، وبالتأكيد تتضمن موضوعات أدبية وفنية لا نعرف عنها شيئاً، تطرح أسئلة ربما لا نلتفت إليها في الساحة الثقافية، وأيضاً تطرح أجوبة ووجهات نظر لا نفكر فيها أو غائبة عنا، هي مجرد ملايين من الأوراق التي أفنى فيهم آلاف الشباب سنوات طويلة في الدرس والتجربة، وربما يقودنا البحث في هذه الرسائل إلى أفكار مغايرة وأطروحات أكثر متانة مما نردده صباح مساء ويبدو أننا سنردده لسنوات أخرى مقبلة.
في الفترة الأخيرة انتبه المركز الثقافي العربي في المغرب إلى ذلك الكنز الذي لا نراه ويقع على مرمى حجر منا، فقام بنشر العديد من الرسائل العلمية التي نوقشت في جامعات المغرب وتتفق في روحها مع الكتب التي يصدرها المركز، أي كل ما يتصل بالتراث العربي من زاوية جديدة ومختلفة، ولا يمكن للقارئ إلا الإعجاب بذلك المستوى البحثي الرفيع الذي يجعله ينسى أنه يطالع رسالة ربما تكون العمل العلمي الأول لصاحبها، ولكن لم تتخلص تلك الكتب من النزعة الجامعية التي لا تهم القارئ العادي، مثل الإحالة الدائمة والمتكررة لكل مصدر أو مرجع يعود إليه الكاتب/‏ الباحث، أو إيراد الخلاصات والنتائج في نهاية كل فصل، وأحياناً تلك النزعة المدرسية في إيراد المقدمات والأدوات المنهجية في مفتتح الفصول، الأمر الذي يذكرنا بقاعات الدراسة والمناقشة…إلخ، وهي أمور ينبغي على المؤلف والناشر تنقيح الكتاب منها قبل إصداره للجمهور العام.
هناك الكثير من الجامعات الموجودة في أرجاء العالم العربي، تتعدد فيها التخصصات وتتنوع فيها الدراسات التي يمكن لدور النشر والمؤسسات الثقافية الرسمية بالدرجة الأولى الاستفادة منها، وفي ذلك مكسب للجميع، فنحن أمام مئات الباحثين المعتمدين يمتلكون الجديد الذي يجب أن نطالعه، خاصة أن الثقافة العربية منذ عقدين تقريباً توقفت عن إنتاج الباحث الهاوي والمفكر المجدد، والتوجه إلى هؤلاء من جهة أخرى سيحدث التوازن المطلوب بين الأدب والرواية على وجه الخصوص وحقول الثقافة الأخرى التي يتضاءل يومياً المنتج منها ويتعلق بالعلوم الإنسانية، إضافة إلى حقول العلم التطبيقي التي لم ننتج فيها شيئاً يصلح للقراءة العامة فربما تسد هذه الرسائل مع تبسيطها الفراغ في هذا الجانب.
فروع معرفية عدة يمكن للثقافة بأطرها العامة أن تستفيد منها عبر الجامعة، فروع رائجة أو يتم الصعود بها إلى الواجهة، خذ مثلاً قطاع الترجمة والذي لا نمل من الحديث عن إشكالياتها التي لا تنتهي، هل هناك من يزودنا بإحصاءات عن أقسام اللغات في جامعتنا المختلفة، أعداد الأساتذة وطلبة السنوات النهائية ومن يتحضرون لرسائل الماجستير والدكتوراه، لا بد أننا أمام آلاف، والسؤال هو كيف يمكن الاستفادة منهم؟، ولماذا لم يلتفت إليهم أحد عندما درس الجميع مسألة الترجمة؟ وماذا يفعلون أو ينتجون داخل هذه الأقسام؟ وفي المقابل تتضاءل أعداد المترجمين في الساحة الثقافية بصفة عامة، والمتميزين منهم يعدون على أصابع اليدين، ولنأخذ مثالاً مهماً في هذا السياق ويتعلق بورش الإبداع المخصصة للكتابة الروائية والتي تجرى بعفوية وفي الكثير من المرات من خلال الجهود الفردية، ويمكن ضبطها من خلال مساقات تعليمية جامعية تعتمد على الرؤية المنهجية.
والحال نفسه في قطاعات المعرفة المختلفة والتي يوجد لها مقابل في الجامعات، في أسئلتنا عن التاريخ، والتاريخ العربي على وجه التحديد وضآلة من يكتب بحرفية ونزاهة وموضوعية وعلمية في مقابل أقسام مخصصة للتاريخ في كل الجامعات العربية تخرج فيها الآلاف، وأيضاً تغص مكتباتها ومخازنها بعشرات الرسائل العلمية التي لا يعرف أحد عنها أي شيء، ويمكن السؤال هنا عن أقسام الاجتماع والإعلام… فضلاً عن التخصصات التطبيقية والعلمية، في تلك الصورة العريضة لا بد أن تترد الأسئلة عن وجود الجامعة وأهمية البحث العلمي.
إن التوجه إلى الرسائل الجامعية سيظهر لنا وبالتجربة العملية إلى أي مدى وصل البحث في جامعتنا لنستغنى بذلك عن تلك الانتقادات المجانية التي توجه للجامعة كل يوم، في استطلاعنا حول هذا الموضوع في هذا العدد سنجد أحد المثقفين يقول إن الجامعة توقفت عن إنتاج العلم، وآخر يسخر من النقد الأدبي الأكاديمي الذي أنتج لغة ومصطلحات غير مفهومة، وثالث يلمح إلى المستوى المتدهور لدراسات الأدب والتي أصابته بالذهول، أما الدكتور زين عبدالهادي فيقول في الحوار معه إن البحث العلمي في الوطن العربي فريضة غائبة، وهي كلها انتقادات لا بد أن تؤخذ في الاعتبار شريطة أن يكون هناك قراءات موضوعية لما يتم داخل الجامعات العربية، قراءات مؤجلة في ظل غياب توثيق ما أنتج وينتج يومياً على الأرض في تلك الصروح العلمية، وهي مهمة منوطة بالجامعة بالدرجة الأولى.
المهام الأخرى التي نتوقعها من الجامعة كثيرة، منها تبني مشروعات تثقيفية تنويرية، مثل إصدارات مبسطة أو ما شابه وهو الأمر المعمول به في عدة جامعات عالمية، ووضع أسس لأفكار تؤدي إلى تقدم ونهوض مجتمعاتنا عبر بيانات أو مؤتمرات أو ندوات كبرى، و لماذا لا تكرر جامعة عربية ما تقوم به «أمريكية القاهرة» و التي ترجمت أعمال نجيب محفوظ إلى الإنجليزية ثم ترجمت أعمال غيره وتمنح الآن جائزة مرموقة باسم أديب نوبل.
لقد ظلت جامعاتنا برغم كل ما يقال على مدى قرن معملا لتصدير المثقفين والأدباء، وساحة للمعارك للفكرية، وأيضاً لإنتاج ما يطلق عليه المثقف الثالث، الذي يجمع بين النزعة الأكاديمية والثقافية العامة، وفي مدة إنتاج المشاريع التراثية خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي امتلك أصحابها خلفية جامعية، والقائمة تطول فيما يتعلق بأولئك الأساتذة الذين درسوا في جامعتنا وتحولوا عبر أطروحاتهم ومواقفهم وأدوارهم العامة إلى مرجعية ثقافية يلجأ إليها الجميع في قضايا عدة.
إن الآمال المعلقة على الجامعة كبيرة والتوقعات بخصوص تلك الرسائل العلمية المكدسة في المخازن معلقة، ولكننا نعتقد أننا نستطيع عبر التتبع والاكتشاف والدعم اكتساب «قلة» من الباحثين الجدد والجادين والذين سيكونون بمثابة الدماء الجديدة التي ستضخها الجامعة إلى الساحة الثقافية، وستكون هذه الأخيرة بمثابة القيم لما ينتج داخل الجامعة، وهناك فائدة ستجنيها دور النشر بصفة خاصة، فبدلاً من البحث عن كتاب لا يمتلكون مفاتيح الفكرة أو اللغة أو أبجديات الدرس العلمي، حتى أصبحت الكتابة مهنة من لا مهنة له، ستجد تلك الدور كتاباً يمتلكون جانباً كبيراً من أسس التأليف الجاد. لقد كانت الجامعات دائماً قاطرة الثقافة الظاهرة في لحظات والمجهولة في لحظات أخرى، ولكنها تبدو غائبة الآن أو يتم تعطيلها على وجه الدقة.
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *