مفهومي الميتافيزيقا والإيمان بالغيب



*د.صبري محمد خليل

الدلالة الأصليه لمصطلح الميتافيزيقا: 
ترجع الدلالة الأصلية للمصطلح إلى أندرونيقوس الروديسي أحد شراح وناشري كتب أرسطو، والذي رتب مؤلفات أرسطو بحيث وضع أولاً كتاب بعنوان الطبيعة ، درس فيه أرسطو فيه الظواهر الطبيعية ،وتلاه بكتاب تناول فيه أرسطو الألوهية أسماه اندرونيقوس (ما وراء الطبيعة) ،أي الكتاب الذي يلي كتاب الطبيعة في الترتيب.

دلاله خاطئة للمصطلح: 

ثم اكتسب المصطلح دلالة أخرى وهو (الدراسات النظرية المجردة التي تبحث في ماهية الظواهر أي فيما هو خارج الطبيعة)، وجاءت هذه الدلالة نتيجة سوء فهم الدلالة الأصلية، إذ أن أرسطو لم يكن يؤمن بوجود ما وراء الطبيعة ، والإله عنده كامن في الطبيعة كمون النفس في الجسد. 
كما اكتسب المصطلح دلالات أخرى خلال تاريخ الفلسفة الغربية.هذه الدلالة رفضها بعض فلاسفة الغرب المحدثين ، ويلتقي التصور الإسلامي معهم في رفض الدلالة السابقة لمصطلح ميتافيزيقا، لأنها مؤسسة على سوء الفهم السابق ذكره، ولأنها اتخذت من الطبيعة معياراً لها (طبيعة وما وراء الطبيعة). فضلاً عن أنها تناقض التصور التنزيهي لله تعالى، والقائم على عدم توافر إمكانية إدراك أو تصور العقل الإنساني المحدود بالزمان والمكان، للوجود الغيبي المطلق عن قيود الزمان أو المكان؛ قال تعالى(يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).وفي الحديث القدسي (تفكروا في مخلوقاتي ولا تفكروا في ذاتي فتهلكوا).

دلاله الميتافيزيقا على الإيمان بالغيب:

لكن هناك دلالة أخرى لمصطلح ميتافيزيقا لا يرفضها الإسلام ، ومضمونها الوجودي هو الإيمان بأن الوجود لا يقتصر على الوجود الشهادي المحدود بالحركة خلال الزمان والتغيير في المكان ، ويمكن للإنسان أن (يشاهده) بحواسه وبالتالي يدركه بوعيه ، ويشمل الوجود التسخيري (الطبيعة) والاستخلافي (الإنسان). بل يمتد الوجود ليشمل الوجود الغيبي بشكليه المحدود “غير القائم بذاته “كوجود الملائكة” ، والمطلق “القائم بذاته وكل وجود سواه قائم به ” وهو وجود الله تعالى ، فهو وجود (غائب) عن حواس الإنسان وبالتالي عن إدراكه وتصوره. 
فشرط توافر إمكانية إدراك العقل للوجود الغيبي المطلق أن يكون محدوداً (مقيداً) بالوحي، وأولى خطوات هذا التحديد (التقييد) هي الإيمان بالغيب ، والإيمان في اللغة هو التصديق كما في قول إخوة يوسف (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين)، ومعناه الاصطلاحي (هو تسليم وإقرار العقل بصحة فكرة أو اعتقاد، لا يمكن إثباتها بالتجربة والاختبار العلميين، لأن الوجود موضوع الفكرة أو الاعتقاد غير محدود بالزمان أو المكان، أي وجود غيبي (هو موضوع الوحي)، وهذا التسليم والإقرار هو الخطوة الأخيرة من شكل من أشكال الاستدلال العقلي (انتقال العقل من حكم إلى آخر لعلاقة ضرورية بينهما) قائم على استدلال بالوجود الشهادي المحدود (الكون)،على الوجود الغيبي المطلق (المتضمن لوجود الله تعالى)،قال تعالى (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لقوم يعقلون) (البقرة: 164)..

الإيمان بالغيب لا يناقض العلم أو العقل:

وهكذا فإن الدلالة السابقة للميتافيزيقا لا يترتب عليها إنكار الوجود الموضوعي (الحقيقي) للوجود الشهادي أو انضباط حركته بسنن إلهية لا تتبدل (السببية). “فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً”، أو إنكار كون العقل هو وسيلة لمعرفته ، ولكن يترتب عليها إنكار دلالة أخرى للميتافيزيقا قائمة على التسليم والإقرار بصحة فكرة أو اعتقاد عن ظاهرة تقع في نطاقه دون التحقق من كونها صادقة أو كاذبة بالتجربة والاختبار العمليين قال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) (الإسراء: 26)، وقال تعالى(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) (الحج: 46)، كما يتضح لنا هذا الرفض من خلال رد ابن تيمية على من أنكروا كون حركة الكواكب لها أسباب يجب تفسيرها بها (إنه ليس من السلف من أنكر كون حركة الكواكب قد يكون من تمام أسباب الحوادث، كما أن الله جعل هبوب الرياح ونور الشمس والقمر من أسباب الحوادث).

ضرورة الميتافيزيقا:

ضرورة الميتافيزيقا بالدلالة السابقة (الإيمان بالغيب) مرجعة السنن الإلهية التي تحكم حركة الإنسان ، إذ إن حركة الإنسان ليست مجرد فعل غائي (مجرد تطور) ، بل هي فعل غائي (تطور) محدود بغاية مطلقة (الألوهية) وفعل مطلق (الربوبية) أي كدح إلى الله بالتعبير القرآني: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) ،من هنا جاءت ضرورة الميتافيزيقا (الإيمان بالغيب (وأساسه إيمان بالله تعالى) لمعرفة الإنسان تلك الغاية المطلقة وهذا الفعل المطلق لكي يحدد بهما حركته.

الغيب المطلق والغيب النسبي:

وهنا يجب التمييز بين الدلالة السابقة المرفوضة ،ودلالة أخرى مشروعة قائمة على التسليم بصحة فكرة ،يمكن إثبات صحتها أو خطأها بالتجربة العملية (لأنها تقع في نطاق الوجود الشهادي)، ولكن لم تتوافر إمكانية إثبات صحتها في زمان ومكان معينين نتيجة قصور المعرفة الإنسانية في هذه المرحلة وهي دلالة لها مشروعيتها في الفلسفة وفلسفة العلوم.وهنا كان التمييز بين الغيب المطلق ،الذي يتضمن الوجود الغيبي المطلق من قيود الزمان والمكان بشكليه المطلق (وجود الله تعالى) والمحدود (مثل وجود الملائكة)، والغيب النسبي الذي يتضمن كل ما لم تتوافر للإنسان إمكانية معرفته في مرحلة معينة ،مع توافر هذه الإمكانية في مرحلة تالية ، فالإسلام إذ ينهى عن الخوض في الغيب المطلق، لا ينهى عن البحث العلمي و العقلي في الغيب النسبي لأنه يقع أصلاً في نطاق عالم الشهادة.
________
*أستاذ فلسفه القيم الإسلامية في جامعه الخرطوم/ عن موقعه الشخصي.

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *