د.نهلة الشقران
خاص- ( ثقافات )
رجع أيلول.. وعاد صوتك المذبوح معه يؤرقني ويبكي في خلايا جسدي، يعاتب ما بقي منه أشلاء بلا ورق، ويسألني : لماذا؟!
وأفرّ من الحروف… أبتلعها وأغصّ في دمي وحيدة غريبة بلا مطر أيلول ولا نافذة عتيقة تطلّ على ضوء مصباحك النديّ..
فأغفو قريرةً هادئةً، ويريحني ظلك خلف المصباح… يهدّئ روع طفولة مسلوبة لم تذق طعم الأم…
ما ألذّه من طعمٍ يا حبيبي البعيد!
ما أجمل أن يكون للمرء أمّ تدفّئ يديه في أواخر ليالي الشتاء وتزرعهما بين أصابعها بلا خوف ولا جزع.. صوت لطيف يوقظني قبل شروق الشمس بقليل، وأشتمُّ رائحة زيت وخبز ومدفأة موقدة من فراشي الدافئ وأنا مغمضة العينين…
تراتيل الفرح لم يعد لها موعد مسبق مع خلجات روحٍ تاهت مني، وبدأتُ أفتح أبوابي مشرعةً لها فتدخل من أيّ بابٍ شاءت، فلم يعد ليعقوب حاجة، ولم يعد ليوميات كافكا مذاقٌ يناسبه الانتحار، ورسائل العشق ضاعت من مذكرات مَيّ زيادة، وماتت قطَراتُ مطر كثيرةٌ قبل أن تملأ رحمَ سمائي، ولم تعد حبلى بها رغم الاتهام بخطيئةٍ أولى ترافق مُحَيّا يباغتها.
من قصة “أنثى تشبهني”
البرد قارس جداً، وملابسي رقيقة تلتصق بقدمي مع كل دفعة هواء قادمة، مسكين هذا الهواء الذي يحاول إرجاعي بكل ما أوتي من قوة، لا يعلم أني أقوى منه ومن صقيع لفحته الكانونية هذه، لم أعد أشعر بقدميّ، تسرب الماء إلى جوربيّ وابتلا كاملين، حتى وصل البلل إلى ما بين أصابعي، قال لي الطبيب إنها فطريات بلا شك، ضحكت في سرّي عندما ظننت أن الفطريات مرض خطير… ما أضيق مداركي حينها!
لمع ألم أسناني، في ثغري الجاف الباسم، عندما تخلل الهواء بين ثناياها، وضعت يدي على فمي والأخرى أسدل بها ثوبي المبتل على قدمي، وسرت بقوة الطالبة الأولى…
سألته وعيناي تبحث عن عمر ضاع هنا، عن حياة بدأت ما قبل التاريخ… بأي حقّ تعدم؟ من صاحب اللحظات المسروقة عنوة؟ أوَتباع الذكريات في سوق النخاسة! رائحتي هنا، سألملمها بيدي، لن أدعها في بيتك الجديد هذا، لن أترك ذرة واحدة في جعبة القادم المخلوع..
دهر كامل سبقني وما زالت روائحي مبعثرة…
وحيدة هي دوني.. ضائعة دروبها دون عبثي، لن تصل إلّا بطول ضفيرتي.. يا رفيقة العمر الذي لم يتجاوز القاع.. رداء أخضر يلفّني.. بداية أنثى أنا.. يا لفرحي..
طعنتُ نفسي بيدي، ومسحتُ دمائي قبل أن يراها، كانت الليلة الأولى التي يستحمّ بعطرها، وليلتي الأخيرة التي أودّع بها عطره، لن أسمح لدمعة كبرياء بالتسلل لوجهي المحترق، سَرَتْ في جسدي قشعريرة غريبة، تخلّلتْ أوردتي، سحقت ما بها من دماء حية، وصبّت نار لهيب فيها لا تطفأ، لم تدفئني أغطيتي ولا أنفاسي الحارة، كان لي بحسّه وسخونة يديه، كان خاصّتي في صقيعِ سريرٍ بارد يحتوي بقايا جسد وحيد.