“روايات التسلية” من الظل إلى النور!




ابراهيم عادل

لفترة طويلة كنت أعد نفسي واحدًا ممن يقبلون الاختلاف، ويؤمنون بأنه “لايفسد للود قضيّة” كما سمعنا، ولكن يبدو أن نلك المقولات الكبيرة تحتاج إلى فترات طويلة وممارسة فعلية تضعها محل الاختبار وتوضح مدى إيمان المرء بها وقدرته على مواجهتها.

في بدايات الاهتمام بالقراءة مثلاً لم يكن المرء ليتجه إلى “نجيب محفوظ” أو “ديستوفيسكي” مباشرةً، بل إن كون بعض الأسماء مثل “يوسف إدريس” و “علي أحمد باكثير” من مقررات الدراسة الرسمية ربما جعلتهم من الأسماء التي ينفر منها القارئ بدايةُ، لأنه يريد المغاير والمختلف عمّا اعتاده وعمّا فرض عليه فرضًا، لم يكن أيسر ولا أسهل من التوجه إلى “روايات مصرية للجيب”، التي أعتقد أن جيلي كله قد “تربى” عليها بمعنى الكلمة، بل وتحمَّس لها بشدة، وأذكر أني في أيام دراستي الجامعية في كلية الآداب كنت حريصًا على أن أسأل أساتذة الأدب العربي لماذا لا يقررون دراسة روايات “رجل المستحيل” على الأقل باعتبارها نوعًا مغايرًا من “الأدب” و”الكتابة”، ولماذا يتعامل النقاد مع أدب الـ بوب آرت أو “الرويات البوليسية” على أنها نوع أقل قيمة من الأدب الرسمي المعترف به في الروايات المعروفة!
لم تكن الأجوبة شافية ولا كافية بالطبع، ولكن ظل أدب “المؤسسة الحديثة للنشر” بسلاسلها المعروفة “رجل المستحيل” و”زهور” و” “ملف المستقبل” أدب أو كتابة في الظل، وظلت ـ لفترة طويلة ـ أسماء مثل “نبيل فاروق” و”أحمد خالد توفيق” غير “معترف بهم” رسميًا، ولن تجد حتى يومنا هذا أحدا منهم في صفحات كتب “الأدب العربي” المعاصر، هذا رغم أن لهم قاعدة شعبية واسعة ومعجبين ومتابعين بالملايين، بل إني أزعم أن بعض قرائهم اليوم أصبحوا أساتذة جامعيين في كلياتهم ومعاهدهم المتخصصة في الأدب، ولكن لن يجرؤ أحدٌ منهم على أن يطرح اسم “نبيل فاروق” للمناقشة في رسالة ماجستير مثلاً، أو وضع رواياته “البوليسية” موضع النقد والتحليل والدراسة!
ولكن جرى في الماء نهرٌ كثير، وخرج من عباءات “المؤسسة العربية الحديثة” وغيرها كتابٌ آخرون، خرجوا من العباءة وطلقوها بالثلث، لم يؤمنوا بطريقة “الجيب” في النشر، ورق الجرائد والأحجام الصغيرة التي توحي أن مافيها خاص بطبقة وفئة معينة ومحددة جدًا هي فئة الشباب وبأسعار زهيدة (أقصى ما وصلت إليه 3 جنيه) كانت هذه سمات “الظل” التي هجره “أبطال” تلك الكتابة دفعة واحدة، ولحسن الحظ أن مالم يجرؤ النقاد والدارسين الأكاديمين على فعله تحمّس له الناشرون، بل وظهرت دور نشرٍ خاصة “للشباب” تهتم بشكل أساسي بهذه الكتابة، بل وتحاول أن تراهن عليهم وتحقق بهم نسبًا كبيرة في المبيعات، وبالتالي أصبحت روايات الظل متصدرةً للمشهد حتى وإن حاول النقاد تجاهلها وعدم الاعتراف بها!
ولشغف الناقد بالمصطلحات “الرصينة” تم صك مصطلح ” الرواية الرائجة”، وتحدث “د.جابر عصفور” في فورة غضب واضحة عن الروايات التي أصدرتها إحدى دور النشر “غير الشبابية” وذكر أحد تلك الروايات على سبيل التخصيص (روايات عصام يوسف) متحدثًا عن أنها روايات “سيئة” لأنها روايات “تميل للسهولة واستخدام الحبكة البسيطة المنطوية على توابل التشويق من جنس وعنف ولغة محكية بالعامية” وبالتالي لايمكن أن توضع جنبًا إلى جنب مع روايات أخرى لكتابٍ آخرين “تطرح رؤى عميقة للعالم في بنية فنية متميزة” ..
ولكن المفاجأة التي “لم تكن على البال ولا على الخاطر” أن هذه الروايات استغنت تمامًا عن موقعها في “الظل”، وأصبح لها مكان الصدارة في النور، بل وفوجئ الناقد “الرسمي” بأنها تنافس الروايات الأخرى، وربما تفوز بعد عامٍ أو عامين بجائزة من جوائز الرواية الرسمية (الفيل الأزرق مثلاً التي أحدث وصولها للقائمة الطويلة لبوكر ردود أفعال متباينة كثيرة) 
ظهر جليًا أن ثمة مفارقة كبيرة تنشئها تلك الروايات (التي تم الاعتراف أخيرًا أنها روايات بالفعل) بين ماتحدثه من رواجٍ قائم على “استمتاع” قارئ وإقباله على هذا “النوع” من الكتابة، وبين ما يفترضه النقاد دومًا من “قيم أدبية” مفترضة في الأعمال الأدبية الأخرى التي لا تصل ـ غالبًاـ للقارئ بل وربما لايسمع بها أصلاً! 
لم ينته الأمر عند هذا الحد قطعًا، بل كانت هذه ملاحظات البداية فحسب، ولايزال الصراع بين “القيمة” و”التسلية” قائمًا .. والحديث ذو شجون..
اليوم الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *