مسيـحُ هـذا الزمـان


*غصون رحال

خاص- ( ثقافات )

هذه الحكاية لا تخصني !
هي حكايتة وحده ، هو وحده بطلها وصاحب الحق الحصري في نزف حروفها . إنها حكاية لا يصحّ لها إلا أن تكون من بطولتة المطلقة . ما أنا إلا راوية ، تقصّ عليكم اسطورة من العذاب والصبر صنع تفاصيلها من مارج من نار، أو ربما أكون مجرد مشعوذه تبصر ما كان يدور في مخيلته من أفكار وأوهام وأحلام.
إنها حكاية ، وجدت نفسي في خضمّها لأنه اختار لي ذلك ، أنا تحديدا من وقع عليه اختياره ليكون صوته الذي سقط منه دون سابق تحضير ، أنا من ارتأى أن أكون لسانه وقارئة فنجانه!، لم يختر أمه التي خشي عليها ألا تحتمل أن تنظر إليه فلا ترى منه إلا شظايا جسد ، لم يختر أباه الذي أصابه والوهن وصار سريع العطب ، لم يختر أخاه ليثبت لرجال العرَب أن بإمكان المرء أن يقول ” أخت ” عوضا عن ” أخ ” ساعة مرض!. 
تقول الحكاية:
( أظنني مسيح هذا الزمان ! 
كفّرت عن خطايا البشر أجمعين ، مشيت على درب الآم عامان كاملان ، تساقطت فيهما أحشائي عضوا بعد الآخر . وكلما رأيت نهايتي تلوح أمامي ، أنهرها بعصاي ، أركلها بقدمي مفسحا الطريق لحفنة من أيام أُخر ؛ لن تكون نهايتي قبل أن أشهد ذلك اليوم الذي انتظرته ثمانية عشرة عاما ، يوم يرتدي ولدي ، بكري، وحشاشة قلبي رداء التخرّج الأسود ويقبض على شهادته مزهوا.
ما أن فرغت من ذلك اليوم حتى هوت ساقاي عاجزتان عن جر المزيد من الخطوات ، تآكلت أطرافي ، ولم يتبق مني غير هذا القلب وبضع أنفاس عجاف . رأيت نهايتي تمشي إليّ … يا موت ، لن تنال مني بالسهولة التي تظن ، ليس بعد ، فلدي من المواعيد ما سوف يجعلك تتعثر في خطاك !
كنت قد قطعت لها وعدا قبل صعودها إلى الطائرة أن أنتظرها ! 
أعرف أنها لم تصدّق وعدي حينها ، فهي تعلم كمّ الآلام الذي أكابدها حتى أبقي على وعيي يقظا إلى أن تلقاني. أعدّ ما تبقى من الساعات العشرين التي تفصلني عنها طرفة طرفة ، نفسا نفسا ، آهة آهة ، صار الوقت ألدّ أعدائي ، كرهت الحدود والمسافات ، وحقدت على الجغرافيا ، ووددت لو تموت تلك الساعات اللعينة وتنقضي بطرفة عين لاستفيق على صوتها. 
توسلت الهدهد في قلبي: ” إئت بها إليّ قبل ان يرتدّ إليّ طرفي ” ، فلم يستمع لتوسلاتي .
كان عليّ أن أفي بوعدي ، أن أحفّز وعيي ليظل مستيقظا ، أن اتحامل على وجعي وأن أتحايل على نوبات الغيبوبة التي تعصف بي ، أن أبقي على لساني حيا ليتمكن من الترحيب بها .
لحظة أن ضممتها إليّ بما تبقى لي من ذراعين ناشفتين هشتين ، تفوهتُ بكلماتي التي على ما يبدو كانت آخر ما نطقه لساني: “الحمد الله على السلامة” ، ثم استسلمت للغيب فاقدا للوعي ، موقنا أنه لن يُسمع لي صوتٌ بعدها . 
حين غاب صوتي ، وجدتني أفرض عليها التواصل معي بلغة ما كانت تجيدها ! لغة بكماء ، عارية ، حافية، ليس لها جذور أو سيقان ، لغة ، تنفجر مثل بركان وتسيل حمما صماء حارقة.
تلك اللغة التي حدثتها بها ، كان ينبغي عليها أن تقرأها بأحاسيسها المرهقة، أن تلمسها بأصابعها الراعشه أن تفهمها بنصف عقل ، وأن تحسن التجاوب معها لأن أي خطأ في الفهم يعني مضاعفة آلامي وإطلاق آهاتي الحبيسة.
كيف لها أن تفهم تلك اللغة الغريبة؟! 
كان عليها أن تجتهد ، أن تعتمد على حواسها ، أن تخترع قاموسا يفسر لها ما أريد قوله. 
كنت أمضغ الطرف الأيسر من شفتي حين تجنّ القروح التي تلتهم باطن فمي ، فتعرف أني أريد منها أن تقوم بترطيب شفتاي وباطن فمي ببعض الفازلين ، وحين أحسّ بعينيّ تشتعلان كموقد من نار ، فابحلق فيها دون ان أراها ، تفهم اني اريدها ان تسكب بعض دمعات من قطرة العين لتطفئ نيرانهما ، يداي اللتان أرفعهما الى رأسي تعني ان تهرع الى قطرات الموروفين تسكبها في فمي لأن الألم بلغ حد النشور ، أراها تسكب قطرات المورفين في فمي وتضع حبة “فاليوم ” في فمها.
أما حين كنت أتململ راغبا في إراحة ساقيّ ، اللتين هما أشبه بالقصبتين ، كانت تحار فيما يجب عليها أن تفعله ، فتنتحب بصمت ، تسقط دموعها غاسلة وجهها ووجهي وأعجز عن رفع ذراعي لأمسح دموعها. تمسك بيدي ، تقبلها ، تلصقها بخدها تستمد منها القوة ، تهمس : “أحبك ” . ترتعش اصابعي في يدها ناقلة ما يدور في رأسي من كلمات : ” أحبكِ أكثر “.
حين تسهو عينها إلى جواري ، تفزّ فزعة لعلي نسيت أن اتنفس . أنفاسي التي كنت أنسى أحيانا أن أسحبها، فتمسح براحه يدها فوق جبيني مذكرة إياي أن آخذ نفسا…
هل تُرى الروح ؟ 
بإمكاني أن أراها ، أن ألمسها وأحسها في خفّة اطرافي واستعداها للطيران ، في وقع طرقات قلوب من حولي ، في وشوشات من سبقوني تميل مع الريح ، قريبا سنلتقي عند النهر ، سنهيم في الغابة ، سنرقص على قمم الجبال ، سنقابل وجه الله ويرى كل منا انعكاس صورته في في حدقات الآخرين …
رأيت روحي تغادرني حين تجشأتها فجأة ، بصقتها في وجه هذه الدنيا غير آسف على شيء ! بينما من حولي يعدّون الثواني التي تفصل ما بين النفس والنفس ، تلك الثواني التي كانت تطول وكأن كل ثانية سنة . وكما تحلّق طائرة ورقية ملونة ، حلّقت روحي في سموات لازوردية شاسعة ، بدت قريبة ، وفي متناول يدي ، تعلقتَ بجناحي روحي وطرتَ عاليا الى حيث الله .
يا موت ستهزمك محبتي التي زرعتها في قلوب من أحب ، ضحكاتي في الصور المطبوعة في ذاكرة الاصدقاء، أشيائي الصغيرة التي لن تموت ،واسمي الذي سيبقى يتردد على الألسن مهما متُّ ). 
______
*روائية من الأردن 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *