*جهاد الرنتيسي
خاص- ( ثقافات )
تستعيد رواية “جنة ونار” التي يصر كاتبها يحيى يخلف على أنها الجزء الثالث من ثلاثية “ملحمة كفاح الشعب الفلسطيني” جملة من مصلحات الناقد فيصل دراج الواردة في كتابه “بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية” الصادر في بيروت خلال تسعينيات القرن الماضي.
جاءت تلك المصطلحات في إطار تحديد “دراج” لمواصفات الخطاب السلطوي الفلسطيني بعد اختياره روايات يخلف السابقة نموذجا لذلك النص المسيطر في حقل الأدب حتى ذلك الوقت .
تضمن ذلك الجزء من الكتاب إشارات إلى الارتباك الفكري ، والتلفيق، ووهم الانتصار الذي يشوه الواقع، وتمجيد الانتصار وتجاهل واقع البشر، والتاريخ الذي ياخذ شكل الحكاية السعيدة ، ليصل إلى أن روايات يخلف أقرب إلى صياغة منظور السلطة في نص روائي.
رواية يخلف الأخيرة التي جاءت بعد كتاب دراج بسنوات ويجري العمل على إنتاجها تلفزيونيا لم تستطع التخلص من هذه الحمولة القادرة على تغيير الوجهة المفترضة للأدب.
فقد ركز النص المفترض أنه متممة رواية ملحمة نضال الشعب الفلسطيني على حزب السلطة “حركة فتح” واستنفر الروائي خياله لإبراز دور الحركة دون غيرها من الفصائل الفلسطينية التي كانت حاضرة في مكان وزمان أحداث الرواية مما أظهرها وكأنها تعمل في فراغ وطني.
ظهرت شخصية الفتحاوي في الرواية بصورة “السوبرمان” الخالي من العيوب ليعيد إلى الأذهان “الاسطرة” التي كانت تطغى على الخطاب الفصائلي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتأخذ شكل المماحكات التنظيمية التي تنتهي في بعض الأحيان بمواجهات مسلحة .
ولم يستوعب النص مجاهرة إحدى الشخصيات بالإخلاص للحاج أمين الحسيني مما دفع الروائي للإشارة إلى أن “ابوحامد” كان يؤيد فتح في بيروت رغم مجاهرته مما يتيح ليخلف الانسجام مع مقولة لا تخلو من المغالاة والمراهقة السياسية كانت تتردد في الأوساط الفتحاوية لإغاظة التنظيمات اليسارية وهي أن الفلسطيني فتحاوي إلى أن يثبت العكس.
حضور أزمات فتح في زمن الرواية الممتد بين 1969 و 1982لم يتجاوز الإشارة العابرة لتململ بعض أوساط الحركة من تجربة معسكرات الشيوخ وبهذه الملامسة لم يخرج يخلف عن خطاب “السلطة” القائمة حاليا في رام الله، ولا سيما الجزء المتعلق بالاشتباك الإعلامي مع حركة حماس سليلة الاإوان المسلمين الذين كانوا يديرون تلك المعسكرات.
بعض مقاطع الرواية تقع في الشعاراتية إلى حد الاقتراب من الهتاف كما جاء في حديث نجيب عن لقائه مع راضي في جبال دير ابي اسعيد حيث افتعل سلسلة مقارنات غير مبررة ليصل إلى مقارنة ياسر عرفات بفوزي القاوقجي يفضل فيها الأول على الأخير.
النص المنبهر بالسلطة وقيادتها وحزبها ينزلق في بعض الأحيان إلى شيطنة الفقراء بتقسيم الطلبة الجامعيين في لبنان بين من هم “على قدر كبير من الوسامة والأناقة” ومن “يبدون كما لو أنهم ينتمون لحثالة البروليتاريا ويرغبون في أن يشموا رائحة الأنثى” دون أن يتطلب سياق الرواية مثل هذا التقسيم.
انبهار النص لم يقف عند السلطة فقد أسهب الروائي في الحديث عن وقار وجلال “الارستقراطية الثقافية” التي يصفها بالأبهة والشأن العالي.
ورغم حديث يخلف بين الحين والاخر عن معارضته لاتفاق اوسلو يقع نصه في ديماغوجيا “تأليه” الفلسطيني التي لا تخلو من نزعات عنصرية عملت قيادة منظمة التحرير على تكريسها لتخوين العربي وتبرير تنازلاتها التي لم تنته عند توقيع ذلك الاتفاق.
ففي الوقت الذي كانت الشابة “الفتحاوية” تخرج من الاستجواب طالبت الشبان بأن يكونوا فلسطينيين على اعتبار أن الفلسطيني غير قابل للهزيمة والانهيار أثناء التحقيق، كما ظهر الفلسطيني رمزا للخير المطلق حين تقول أنعام لسماء “اطمئني يا بنتي، أنا فلسطينية مثلك، اشرحي لي مشكلتك” وللدمية ملامح فلسطينية، كأن ملامح الفلسطينيين مختلفة عن الملامح التي تميز أبناء بلاد الشام أو شعوب البحر المتوسط .
كثيرا ما كان يتجاوز السرد منطقيته، بإخفاقه في ضبط إيقاع الخيال المنفلت نحو مثالية الصورة، فلم يجد الروائي ما يمنع فلاحة بسيطة من الحديث بلغة المثقف، وأن تتم عملية التطريز بذهنية الفنان التشكيلي الذي يستوحي خطوطه وألوانه من الأنهار والبحيرات والجبال وليس الغرزة المتوارثة ضمن أشكال وقوالب معينة ، ومن مثالية الصورة ينتقل إلى مثالية الخارطة التي تتاملها المناضلة اليسارية الجامعية للمرة الأولى .
غياب تناغم رغبة الوصول إلى ثلاثية تروي ملحمة الكفاح الوطني الفلسطيني مع وضوح تصور العمل الروائي أوقع يخلف في استحضار غير مبرر لشخصية يونس في رواية “باب الشمس” لالياس خوري دون أن يتمكن من توظيف فكرة الغيبوبة في السياق العام مما أظهرها مقحمة في الرواية .
بين صورة البطل الاسطوري المثالية البعيدة عن الواقع، والانتقائية في التقاط التناقض الداخلي لحركة تحرر وطني شهدت أطرها في ذلك الوقت صراعا بين مكوناتها الإخوانية واليسارية والقومية غير المنسجمة، فقدت ملحمة الكفاح التي يرويها النص فضاءها الوطني، وتراجع كفاح الشعب أمام مديح السلطة وحزبها وقيادتها .
رواية “جنة ونار” مناسبة أخرى للتذكير بعقم الأدب الباحث عن مبرراته في القضايا العادلة وبطولات الشعوب، دون امتلاك القدرة على إبراز عدالة هذه القضايا، مما يحوله إلى عبء عليها حين يتراجع حضورها أمام أحداث أكثر صخبا ودراماتيكية.