*ترجمة وتقديم: ماهر جمّو
تُعَدّ الحركة الدستورية (1906م) في عهد حبيب الله سراج نقطة تحوُّل في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في أفغانستان، ولعلّ تأثير هذه الحركة على الشعر يكمن في التوجُّه نحو المضمون الشعريّ، حيثُ أضاف مجموعة من الشعراء، في مقدّمتهم محمود طرزي (1866 – 1935م) ، مفاهيم وتقنيات جديدة إلى الشعر بعيدة عن التجريد والأسلوب الهندي، وتحديداً أسلوب «أبو المعاني بيدل الدهلوي» (1054 – 1133هـ) ، إذ كان جُلّ الشعر الأفغاني آنذاك واقعاً تحت تأثير هذا الشاعر العرفاني صاحب الأسلوب التجريدي الغامض، فصار الشعراء في هذه المرحلة يختارون مواضيع جديدة تتعلّق بالعلم والفنّ والحضارة ليضعوها ضمن قوالب كلاسيكية موزونة، كما أنّ الشعراء بدأوا كتابة قصائد ملتزمة وناقدة تحثّ الناس للوصول إلى حياةٍ مدنية، فكان التكلّف وتدنّي المستوى الجمالي سمتينً بارزتين لشعر هذه المرحلة.
لا يُعرفُ -على وجه التحديد- من قام بكتابة أوّل قصيدة حرّة في أفغانستان، وذلك نظراً لشحّ المعلومات والدلائل الكافية عن تلك المرحلة، ولعلّ المرجع الوحيد الذي يُمكن الاستناد إليه هو كتاب «الأشعار الجديدة» الصادر عام 1962م. ويقسَم هذا الكتاب إلى قسمين: قسمٌ مكتوبٌ بالفارسية، والآخر بلغة البشتو. ويتضمّن الكتاب أوائل القصائد الأفغانية التي كُتبت بأسلوب الشاعر «نيما يوشيج» (رائد الحداثة الشعرية في إيران)، ومحاولات الشعراء لكسر الأوزان العروضية، ويتضمّن الكتاب ثلاثاً وخمسين قصيدةً لشعراء مثل: آرين بور، آصف سهيل، يوسف آيينه، خليل الله خليلي، شفيع رهكذر ، وغيرهم. إلّا أنّ تواريخ القصائد غير مكتوبة، وهذا ما يُصعّب مهمّة الباحث في الشعر الأفغاني.
وبحسب الشاعر والباحث محمّد اسحاق فايز فإنَّ أوّل من قام بكسر الأوزان العروضية هو الأستاذ خليل الله خليــلي (1907-1987م) بقصيدته «نشيد الجبال» التي تعود إلى عام 1936م.
وكان خليلي قد بدأ كتابته تحت تأثير قصائد «نيما»، وذلك بعد قراءته لمجلّة «الموسيقى» الصادرة في إيران آنذاك، وقد لاقت كتابته الجديدة هذه صدّى من قبل جماعة كابل الأدبية التي رفضت نشر هذه القصائد ذات النزعة النقدية والإصلاحيّة.
يُعَدّ واصف باختري (1942م) من أبرز الأسماء الشعرية المعاصرة في أفغانستان: ترّأس باختري اتّحاد الكتّاب الأفغان في كابل لفترة، وهو من الشعراء الذين طبّقوا نهج نيما بشكل صحيح ومتكامل، ويَعَدّ من أكثر الشعراء الذين تركوا تأثيراً في جيل الشعراء الشباب الذين يلقِّبونه بـ (المُعلّم).
بعد الانقلاب الشيوعي والحروب الداخلية ودخول الجيش الأحمر إلى أفغانستان عام 1979م. انطلقت أمواج المهاجرين متدفِّقةً نحو إيران وباكستان وطاجيكستان وأميركا وأوروبا، اشتدّت هذه الهجرة بعد استيلاء طالبان على الحكم أيضاً، فتشتَّت معظم الشعراء الأفغان في أصقاع الأرض حاملين معهم ذكريات مريرة عن حياة طافحة بالأسى، ولعلّ هذا الأسى هو السمة البارزة لأشعار معظم الشعراء الأفغان داخل البلاد وخارجها.
وعلى الرغم من دخول التيارات الشعرية الحديثة إلى أفغانستان عن طريق الشعراء الذين هاجروا إلى خارج البلاد وتعرّفهم إلى الأساليب الفنيّة للشعر الحديث، إلّا أنّ الظلّ الثقيل للاستبداد عزّز النزوع نحو الشعر التقليدي وأدواته، ولذلك نجد الشعر الكلاسيكي مستمرّاً بشكل بارز بين الشعراء الأفغان حتى اليوم.
كانت مواضيع الشعر في أفغانستان، إلى ما قبل تسعينيات القرن الماضي، تتركّز حول الحرب والخراب والظلم والمقاومة، فكانت القصائد ذات نبرة خطابية مباشرة وشعاراتية أغلب الأحيان.
ولعلّ الشعر الأفغاني اليوم، وخاصةً الشعر الذي كُتِب خارج حدود أفغانستان، هو الذي يستحقّ الوقوف عنده وتأمّله، نظراً إلى انفتاح الشعراء فيها على تجارب الشعر العالمي.
———————————-
بائع زجاج
واصف باختري
غريباً وبارداً مرَّ تمّوزُنا الأثيرُ،
عَبَرَ بِرِدائه الأزرق ممرّ الألم الضيّق،
النسيمُ وراء الجدار غدا جرحاً آخر
بعد أن مرَّ بقبيلة الأشباح المسرنمين.
وأين أمضي بشكوى الأحبَّة البائسين
والعدوُّ الجاهلُ فعلَ ما فعل، ورحل؟
ولم يغدُ قلبي يوماً أسير الأفلاكِ أو التراب
فقد انبثقَ من العتمة وعبر لازورد السَّماء.
قُل إنَّ مكيدة شغاد(1) أنهت حياته في البئر
ولا تقُل أوه! انظر إلى بطولة رستم(2) الفائقة في الحرب.
في هذا الغروب الغريب حنَّ القلبُ إليكِ
فسرى حريقُ شقائق النعمان في شرايين الأوراق الصفراء.
وعندما أمرُّ بحيِّكِ حاملاً قلبي بين يديّ
أبدو كبائع زجاجٍ جوّالٍ عابرٍ.
أقسمُ بالغربة إنَّ واصفَ قد جاء وحيداً إلى عالمك
وعاش وحيدا،ً ورحلَ وحيداً.
———————————-
الحبّ
سيّد فاضل محجوب
هل من أحدٍ يفكُّ هذه السلاسل
و يفكُ يديّ التدبير؟
هل من عينٍ ستسمعُ نظراتي المُتعبة؟
وهل ستسمعُ حقولُ القصبِ آهاتي المغمومة؟
هل ثمَّة أملٌ في أن يحطّم قوسٌ عداوة آلاف السِّهام؟
والشِّعرُ، هل بوسعه أن يُبهجَ وجه شاعر كئيب؟
الحبُّ، نعم! الحبُّ يفعلُ العجائب،
فأنا أعرفُ قوَّة هذا الهرِم.
———————————-
نبض شقائق النعمان
عزيز الله نهفته
سأعودُ إلى أناس بلدي،
إلى جذور جسدي.
إن جاء الفجرُ
أو جاءت قيامة الليل
فسأعودُ إلى مروجي.
انظر، نبضُ شقائقِ النعمان ليس كذباً،
إلى أثر الجرح على قميصي سأعود.
لا تحدّثني عن طريق الغد الصخرية الوعرة
لأني سأعود إلى روحي نحَّاتة الجبال.
ومع أنّي انفصلتُ عن مسير الجمر
لكنّي سأعودُ إلى مواقد جسدي.
الآن يخيّمُ صمتُ الخريف على أكثر الأراضي اخضراراً،
إلى حيِّ كلماتي سأعود.
———————————-
موت الشمس
بروين بزواك
عندها
بردت الشمس
وسقطت النجوم على الأرض
مُخلّفةً حفراً عميقةً
يخرجُ منها دويُّ الفراغ المرعب.
والآن
هنا ظلامٌ
هنا ترحلُ أوراقُ الأمنيات مع الريح،
هنا ترحلُ طاقاتٌ حزينة،
هنا قطعوا رؤوس الطيور وأكلوها،
هنا أحرقوا الكتب لتدفئة الغرف،
هنا اقتُلعت شجيراتٌ من الجذور
لمعاقبة الأطفال
هنا، بسبب الخوف،
لم تغادر الأفكارُ جدران الذِّهن الأربعة.
يا من لم تقطفوا من شجرة الأمنيات حتى ورقةً،
ألن تشيِّدوا فوق بحر الظلام
جسراً يمتدُّ نحو النّور؟
يا سجناء سجن النفس
ألن تهرعوا نحو النُّور؟
———————————-
(…..)
بهار سعيد
الحجابُ الأسودُ لا يُخفيني
وشَعري السافرُ لا يعرّيني.
كالشمس ساطعةً أنا خلف الحجاب
وليس بإمكان الظلمات أن تغدو نقاباً لي.
لا يخفيني العابدُ وراء الحجاب
إن لم يكن ضعيفَ الإيمان.
أيها القادمُ من مدينة المذاهب
لمَ تجعلُ من شَعري طريق الضلال؟
لن أخضع لضعفك
أيُّها الناصحُ الزَّائفُ.
فكيف أجدُ إنصافاً في هذا الحكم؟
منك الخطيئة ولي الجحيم!
فيا أيّها التقيُّ الورِعُ،
عِوضَ وجهي،
ضعِ الحجاب على نفسك الضعيفة.
———————————-
ثلاثة
معصومة أحمدي
– 1 –
كنتُ أفكّر فيك
فانكسر زجاج النافذة
وجلبت الريح لي
منديلاً مطرّزاً بالزهور.
– 2 –
مركزه في قلبي
الزلزالُ الذي هزَّ «مَشهد».
– 3 –
مثل مهرّجٍ يُضحِكُ المتفرّجين
أُضحِكُ والدتي،
أُضحِكُ أخي،
وأجرُّ ورائي حزن غيابك
من غرفةٍ لأخرى.
أُضحِكُ والدتي،
أُضحِكُ أخي،
أنا مهرَّجةٌ جيّدة.
———————————-
انفجار وألم
ليلى صراحت روشني
عاريةٌ أنا
عاريةٌ
عاريةٌ
مثل كروم «بروان» المحترقة(3)
عاريةٌ أنا
غطِّني بوشاح نظرتك الدافئة.
هل تسمعُ صرخاتي الممزَّقة؟
لقد وضعوا الخنجر على حلقي.
أشعرُ بالخوف
أشعرُ بالخوف
أين هي غاباتُ عينيك الخضراءُ
حتى أختبئ؟
لا تدعني أمتزج بالريحِ والغبار
لا تدع صرخاتي الممزّقة تضيع في زوبعة العدم اللولبية.
بيديكَ العاشقتين
ارفع الخنجر عن حلقي،
وحينها سينفجرُ الألم
وبركانُ الصراخ.
———————————-
وجوهُ الكلمات
زُهرة زاهدي
في أعماق كتابتي
تنكشفُ وجوه الكلمات.
قطراتُ دمعٍ
وصلت إلى الورق
على ذكرى ابتسامتك
وارتدت أقنعة الحروف.
———————————-
بريقُ الدمع
لستَ بعيداً جدّاً…
إنها مسافة بضعة نجومٍ وحسب
إلى ليل نومك.
الشمسُ أيضاً تبقى ساهرةً
وينشبُ بينها وبين القمر شِجار.
لا مرئيّةٌ أنا
وسط كلّ هذا النور،
أنظرُ إليك وحدك.
ربّما تصلكَ ومضةٌ من بريقِ دموع عينيّ،
ربّما.
(1 و2): من أبطال الشاهنامة للفردوسي.
(3): محافظة تبعد 64 كم عن كابل.
______
*مجلة الدوحة