هدوء ….أنت في حضرة “الفجيرة”



ساسي جبيل*


خاص- ( ثقافات ) بالاتفاق مع مجلة الفجيرة الثقافية 
(1)
المكان بين جبل وبحر، بين الصخر والماء، وإذا كان الأسلاف قد قالوا: “كلام الناس مثل الصخور، إما أن تحملها على ظهرك فينكسر، أو تبني بها برجاً تحت أقدامك فتعلو وتنتصر”؛ فإن صخر الفجيرة يبني ويشيّد ويعلو كقلعتها المترامية التي تتوسط الإمارة الهادئة، فتغدق عليها من دفئ الماضي ورائحة العتيق الذي يطاول أبراج الحاضر والنهضة الحديثة الشاملة، ويصنع للمدينة الممتدة على طول البحر والجبل كيانها المستقل وصرحها العالي، ويجعلها اليوم قبلة السوّاح والمستثمرين والمتزودين بالذهب الأسود، والصخر والغاز من على مينائها من كل أصقاع الأرض..
(2)
من البحر تطلع الشمس واضحة تلقي بشفقها على الماء في بحر العرب فترسم لوحة إنبلاج تسلب الأنظار ، وتغدق بالسعادة الغامرة على الأبصار.. ليس للبحر الممتد حذوها نهاية لذلك ينزاح الضوء منساباً كقصيدة لا ينتهي شاعر من كتابتها، ومن هذا البحر الذي طالما كان ممراً ورابطاً بين الشرق والغرب، تعلو الفجيرة كل يوم لتطاول الجبل وتحفر فيه لتمتد في الصخر. حين تغرب الشمس خلف سلسلة من الجبال الصخرية التي تحاصرها من الغرب تشعر أن يومك انتهى بسرعة والحال أنه في شفافته، لا بد أن تنظر إليها من الأعلى لتراها كما هي بلا مكياج ولا طلاء أظافر سوى ما يظهر منها من جبال كلسية تميل إلى السواد، من الأعلى تتعلق خضرة قليلة بالذرى والوهاد، أما الواحات فاختارت أن تكون في نهاية مسارب الماء القادم من ألأعالي، كأن الأجداد أرادوا أن ينتظروا غزير المطر المنساب أسفلها، من هذا الصخر الطالع غرب الإمارة التي تكبر كل يوم .. ليس من السهل أن تسبر أغوار الفجيرة دون أن تعرج على التاريخ والجغرافيا..
(3)
باكراً تسير القوافل نحو البحر لتمنع الماء من الشح وترغمه على أن يهبها سمكاً وقوتاً، يصرّ الأهل هناك على أن يكون لذيذاً، عذباً نقياً صافياً..كم تفجرت ينابيع في تلك الديار، لكن الدارس لجيولوجيا تلك الأرض يعرف أن من بين الصخر يطلع الزرع والكلأ والخير العميم، ومن بين الصخر تهب الحياة الخصب والنور. معادلة صعبة ولاشك، لكن ثقافة الجبل تعطي الناس عزيمة أكبر للحياة والفعل والتحدي والكفاح من أجل تطويع الفضاء بما يتناسب والرغبات، فالحاجة أم الاختراع، والصخر بما هو مستحوذ على الفضاء في جبال عالية وعاتية و داكنة يتيح للإنسان التعامل معها بكل صلف وعزيمة حتى لا يثنى عزمهم أمام هيبة الجبل الممتد وصخره الراسخ..!
لأجل كل ذلك كانت القلاع والحصون مرتفعة وعالية، تطل من خلالها عيون الرقيب على كل ما حولها حتى لا يتسلل الغزاة أو العابرون إلى مجالها، هذا المجال الذي لا يني فيه الإنسان عن التعاطي مع الواقع كحقيقة ماثلة، فيطوّعه كيفما أراد ليؤسس لنفسه عالمه..
(4)
البحر عميق عميق ولأجل ذلك تصطف البواخر والناقلات في انتظار أن تحمل معها ذهباً أسوداً وإنتاجاً وفيراً من هذا البلد الذي يعلو صيته، ويقدم للعالم دروساً في التطوير واستغلال الثروات لما فيه مصلحة الجميع .. للبحر هنا حكاية أخرى فالشاطئ يرتفع قليلاً عن مستوى البحر بشكل لافت، والصخر يدحر البحر ليقول للقادمين أن العود صلب، وأن هذه الحواجز الصخرية هي صورة منّا ودليل كاشف عن عزيمتنا وصمودنا الدائم. للبحر أيضا في الفجيرة لغة لا يعرفها غير العشاق والعارفين بأسراره، فقد كان مصدر الخير العميم في أيام لم يكن النفط ينضح في أرجاء البلد، وها هو اليوم محطة كبرى لتصديره إلى العالم..
(5)
الفجيرة التي تستقبل الشمس قبل الجميع، تلك الشمس التي تطلع من البحر صافية نقية منبلجة مع الفجر كزهرة في الأزرق، تودّع الشمس قبل الجميع، ولكنها تتمتع بشفقها على سطوح الجبال العالية أيضا، والتي ربما كانت خير من يحميها من الريح والغبار، الشمس هنا تلقي بالضوء فيندلق بين الجبل والبحر والنخل والوديان لترسم صوراً مختلفة تشير إلى بهجة المكان العامر المتعدد التنوع المبتهج ببيئات شتى .. الشمس هنا دافئة كحضن أم حنون، وكسارية نستظل بها من الهاجرة. ربما كان الغروب في الفجر، عفواً في الفجيرة مشهداً لا مناص من التمتع به لأنه يمنح طاقة استثنائية، فبين العصر والمغرب الحقيقي، تبدو الجبال ملقية بظلالها شرقاً مما يرسم لوحة للظل خافتة ومبهرة لا تتسلل إليها إلا عيون العارفين بأغوارها والسالكين لمسالكها والعارفين بدروبها القصية العصية..
(6)
صخر “عرمرم” يرسم بألوانه وعلى قمم جباله قصيدة ربما ذكّرتنا بصقلية و شاعرها “ابن حمديس” (2). وبركان “إيتنا” وهو يلقي بحممه على الجزيرة في الضفة الأخرى من المتوسط، والتي غزاها أسد ابن الفرات أيام الأمجاد العربية والسيوف القاصمة التي فتحت “برورا” ومعاقل، فمن هذه الجبال خرج “المهلب بن أبي صفرة الأزدي” متجهاً للفتح المبين في شرق آسيا، فترك للإسلام موطأ قدم راسخ على مر الزمان، ومن هذه الجبال وفيها استطاع البرتغاليون أن يؤسسوا لثقافة القلاع والحصون العاتية على الغزاة القادمين من المحيط الهندي أو من خليج العرب الذي كان مسرحاً لمعارك طاحنة خرجنا منها بأخف الأضرار..
(7)
يوشك الليل على الحلول باكراً وتوشك الإمارة الصغيرة أن تنام وهي تستقبل قوافل من الضوء الخافت تقف على الماء في انتظار اقتناء ما توفر من ثروات هذا البلد ..المساء الباكر هنا يلوح للعابرين بالتحايا ويشير إليهم أن خذوا من الإمارة ما استطعتم من هدوء وسكينة واطمئنان في انتظار يوم جديد، هنا حيث تتناثر حبّات الحصى بأشكال وألوان مختلفة كما عقد منفرط ، تحفر الفجيرة في الصخر لتجد لنفسها متسعاً، فإذا كان الجيران يقبرون البحر فإنها تحاول أن تحفر في الصخر لتوفر مجالاً حيوياً يهبها المزيد من المساحات والمسالك، كما توفر الصخر لمن يخاف البحر الهادر لذلك تصدّر الكثير منه للداخل والخارج ..
(8)
غير بعيد عن خليج عمان “أرض عمالقة البحار” كما يسمّى عبر التاريخ، والموطن الأول لمهاجري جنوب شرق الجزيرة العربية الذين عرفوا باسم “الفينيقيين” والذين هاجر بعضهم من اليمن بعد انهيار سد مأرب الذي تنحدر منه “قبائل الشرقيين حكام الفجيرة”.
يقول المؤرخ عبدالله بن عبد العزيز آل سليمان، قاضي ومفتي البريمي، عن “الشرقيين” بأن الاسم اكتسبته القبيلة من منازلها التي كانت تقع شرقي جلفار، والاسم مصدره الشرق، وهو على وجه التحديد الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة، ويشتهر الشرقيون بشدة المراس والشجاعة، ويرجعون بأنسابهم إلى فهم بن مالك، وغادروا اليمن بعد انهيار سد مأرب واتجهوا شرقاً إلى ساحل عمان، وهم من المساكرة الذين ينحدرون من الأزد.
(9)
قلعة الفجيرة المنتصبة بمعمارها العاتي تطاول الجبال المحاذية وتوقظ في النفوس وهج الذكريات البعيدة، فهنا علت أسوار وعمرت ديار من قرون مرت وعصور غابرة كان فيها الإنسان يصنع تاريخه، دون أن يتسلل إليه يوماً أن تعلو حذو هذا الصخر العاتي أبراج من بلور وكريستال.. قدر الإنسان أن لا يظل على ما هو عليه لكن هذا التواؤم الراهن في العمران والبيئات وبين النخل والحجر والبشر والماء يصنع حياة بألوان متعددة تحكي الماضي في صور بديعة وتصنع الحاضر بأشكال مختلفة تنبض بروح أخرى وتنخرط في العصر لكن لا تبقى خارج السرب.
تحكي القلعة قصة تاريخ المدينة حيث تنتصب من على ربوة مرتفعة تتوسط قرية الفجيرة الأثرية القديمة، وتبعد عن الساحل بما يقارب ثلاثة كيلومترات، ويعود تاريخ بنائها ما بين (1500 م – 1550 م) وأعيد بناؤها في الفترة ما بين (1650 م – 1700 م) وحديثاً تم ترميم القلعة لإظهار معالمها التاريخية الفريدة للسيّاح والزائرين، وغير بعيد عنها تعلو بنيان قلعة البثنة، حيث المزارع والعيون وغيرها من التضاريس الطبيعية، نظراً لقربها من وادي حام وبساتين النخيل، والزائر للقلعة بإمكانه أن يقضي وقتاً ممتعاً بمشاهدة الجبال وبساتين النخيل التي تتوسطها، وقد أكسبتها مياه العيون العذبة القريبة منها نكهة خاصة، وتتميز القلعة بقربها من الطريق العام الذي يربط إمارة الفجيرة بباقي الإمارات حيث يستطيع السائح أو الزائر أثناء قدومه إلى الإمارة أو مغادرته لها القيام بزيارتها لقربها من الطريق ويعود تاريخ بناءها 1735م..
(10)
تمتاز إمارة الفجيرة بوجود العديد من عيون المياه المعدنية والكبريتية التي يسعى إليها الناس من مختلف مناطق الفجيرة لغرض الاستشفاء من بعض الأمراض الجلدية وأمراض المفاصل، وعين مضب واحدة من هذه العيون التي يرتادها الزوار للاستشفاء، وتشتهر العين بتركيبة مياهها المعدنية والكبريتية، وتقع وسط حديقة ومتنزه عين مضب في الطرف الشمالي من مدينة الفجيرة•
كما توجد عين الغمور، والتي تغمر من يرتادها بسحر موقعها الذي تكسوه أشجار السدر والنخيل والأرك، وكلما اقترب الزائر من العين تنساب رائحة الكبريت من مياهها في مجرى الوادي وتتسرب على جوانبه المادة الكبريتية البيضاء المترسبة عن مياه العين، ويؤم الناس موقع عين الغمور لخاصية التركيب الكيميائي ودرجة حرارة المياه المرتفعة ناشدين الشفاء. 
و في وادي الوريعة طبيعة نادرة سمحت بتكوين نظام قادر على تخزين المياه في منطقة جبلية إضافة إلى أنها تتميز بوجود شلال الوريعة الذي تصب مياهه في البرك الطبيعية التي تصل عمق بعضها إلى 4 أمتار وتحيط بها أشجار ونباتات جبلية، حيث لا ينقطع الماء على مدار العام وتتضاعف كميته في موسم الأمطار.
في كل قرى الفجيرة ينساب الظل بلا توقف ذات الشرق وذات الغرب راسماً صورة مختلفة لإمارة تعانق الشمس وتنثر الهدوء في أرجائها وتشعرك بالطمأنينة والراحة والاسترخاء.
• كاتب وإعلامي من تونس
هوامش:
(1) – ابن حمديس: هو عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي أبو محمد/ 1053 – 1133م) شاعر مبدع، ولد وتعلم في جزيرة صقلية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *